في مستهل هذا العام هبت على مملكتنا الشريفة رياح طيبة بريح الفل والياسمين، وبعد موسم واحد من المخاض غير العسير ظهر مشروع الدستور الجديد كمولود طبيعي للربيع العربي المجيد. هللت أغلب القوى بهذه الخطوة الشجاعة نحو الحرية والكرامة والديمقراطية، واستبشر الناس خيرا بهذا المولود الجديد، ورفعت الرايات في الشوارع فرحا وانطلقت الزغاريد، إلا أن هنالك أناسا في المملكة قالوا بكل جرأة : ما هو إلا ميلاد فأر ليس إلا، ولا داعي للاحتفال والطرب، لم يعجبهم العجب ونحن في شهر رجب؟ فما تراه كان السبب ؟ الرجل الذبابة زود الخالق سبحانه وتعالى كلا من النحلة والذبابة بمزايا مختلفة رغم القواسم المشتركة بينهما، فكل منها يتوفر على أعين خاصة للرصد، وأجنحة للطيران و"رادار" متطور لتحديد الاتجاه، كما أن كلا منهما له دور معروف ودورة محدودة في هذه الحياة، وبطبيعة الحال فلكل من الذبابة والنحلة صوت خاص يصدر عنهما. فعين الذبابة مثلا تشغل معظم الرأس، وتضم آلاف العدسات المرصوصة إلى جانب بعضها بعضاً، ولديها المقدرة على تحقيق الرؤيةً الشاملة في جميع الاتجاهات، مما يعزز قدرتها على المناورة، وكشف كل شيء في مجالها البصري، إذ تستطيع الذبابة معالجة أكثر من مائة صورة في الثانية الواحدة. أما النحلة فعينها تنقسم إلى عيون مركبة تتكون من آلاف العدسات المتصلة ببعضها، تمكنها من رؤية الضوء فوق البنفسجي الذي لا تراه عين الإنسان، مع تمتعها بالقدرة على الرؤية لمسافات بعيدة، هذا إلى جانب عيون بسيطة تحتل أعلى الرأس ، لاستخدامها في رؤية الأشياء القريبة، و من المعروف أن حاسة الإبصار لدى النحلة قوية جدًّا، إذ تمكنها من تمييز جميع الألوان عدا اللون الأحمر! وإذا كانت قرون استشعار النحلة، تقودها للنباتات الطيبة وللأزهار الطرية من أجل امتصاص رحيقها، فإن الذباب بطبيعته ينجذب للروائح المنبعثة من الفضلات أو المواد المتحللة. طنين وأزيز ما نسمعه اليوم من أصوات مرتفعة ، بعد الإعلان عن مشروع الدستور الجديد، تنقسم إلى طنين جميل يشبه صوت النحل، وإلى أزيز مزعج يحاكي أصوات الذباب... ففي الوقت الذي سارع فيه المؤيدون المخلصون إلى تذوق رحيق البنود المستجدة وإبراز كل جيد ومفيد في مشروع الدستور الجديد، انجذب المعارضون إلى الروائح المنبعثة من بعض الفصول التي قالوا بأنها تعاني من النواقص والعيوب، إذ لم تقدم الوثيقة الدستورية - في رأيهم- أي جديد للعباد، بل إنها جاءت مكرسة للهيمنة والحكم المطلق والاستبداد، إضافة إلى أنها لم تستجب للحركة الشبابية الفبرارية المطالبة ب"الملكية البرلمانية" الآن قبل فوات الأوان. وهكذا تميز الصفان، وارتفع دوي الطنين والأزيز في سماء المملكة. بقي أن نعرف أن ما يميز النحل عن الذباب أنه يعيش في "جماعات كبيرة" متعاونة ومتماسكة، ومحكمة التنظيم، على رأسها "ملكة" واحدة هي أهم نحلة في الخلية المحصنة بشكل جيد، حيث يؤدي كل فرد فيها وظيفته الموكلة إليه، وتكون النتيجة عسلا طيبا سائغا للشاربين. أما الذباب فقد حباه الله بقدرات خارقة تمكنه من التكاثر بسرعة، وكذا أداء مناوراته بكل إتقان، و لديه قدرة عالية على استشعار الخطر، لذلك فهو عصي على الضرب والسحق ! فقد تم اكتشاف أن الذباب يقوم باحتساب موقع الخطر بسرعة فائقة ويضع خطة عاجلة للإفلات ! ولا ينفع معه المضرب إطلاقا !!! فإذا كانت النحلة بعد طول تنقلها حول الأزهار تملأ كيس العسل وتحمله إلى الخلية، فإن الذباب يستطيع نقل عدة أمراض بواسطة أطراف أرجله الحاملة للميكروبات الضارة، إلا أن الغريب العجيب حقا هو أن جسد الذبابة يحتوي على مواد مضادة للبكتريا، لذلك فالحل الوحيد للمشاكل التي يحدثها الذباب ليس في الضرب بل في " الغمس" وهذه حقيقة، فالذبابة التي تعشق الروائح الكريهة وتبيض في روث الحيوانات والمواد المتعفنة، وتنقل الميكروبات تضم أنزيما في بطنها له خاصية قوية في تحليل وإذابة الجراثيم! فمن يرى مشروع الدستور بعين النحلة يستخرج منه كل بند جديد وفصل جميل، ويملأ الفضاء "طنينا" ، أما من يراه بعين الذبابة فيقفز على كل المحاسن مركزا على العيوب لا غير، ويملأ الدنيا "أزيزا"، فالذبابة بالأعين التي تتوفر عليها تمتلك رؤية شاملة، إلا أنها تتجاهل الطيبات مستهدفة الخبائث، ومحتفظة بما ينفع في بطنها ومبرزة ما يضر، إلا إذا غمست غمسا في المكان المستهدف ! والغريب العجيب حقا أن "الرجل الذبابة" يرى أن كل من يقول نعم باقتناع فهو منشط لما سماه "الدعايةُ المخزنية"، وكل من أيد التعديلات الدستورية فهو في نظره من المنتفعين والانتهازيين والمأجورين، أما من خرج بعفوية للتعبير عن فرحه في الشارع فهو مدفوع حتما من السلطات المخزنية، لا ننفي أن هناك سلوكات متأصلة في بعض رجال السلطة في مختلف مستوياتهم، فهم لم يتربوا على الشفافية والنزاهة ومنح المواطن الحرية في الاختيار، إلا ان التعميم لا يستطيعه إلا رجل يستحق بجدارة اسم "الرجل الذبابة" Flymen وأخيرا رغم كل الملاحظات التي يمكن أن نسجلها على مشروع الدستور الجديد من حيث المنهجية والشكل والمضمون، فهو يعد أول دستور مغربي "صنع في المغرب" ومن مغاربة، وفيه خطوات ملموسة ومتقدمة لا يمكن إنكارها، وعجبي فعلا من شباب يريد أن يكون حزبيا أكثر من الأحزاب! ومن أحزاب وزعماء يريدون أن يكونوا ملكيين أكثر من الملك. فشبابنا الذي يصر على إسقاط الفساد والاستبداد عليه أن يدرك أن الطريق شاق وطويل، أما لغة "هنا والآن" دون التوفر على "قوة" مناسبة فليس من الحكمة في شيء، فالملكية البرلمانية تحتاج إلى أحزاب قوية، فما عليهم إلى الانخراط فيها وإنعاشها، وتجديد دمائها ومساعدتها على محاربة الفساد و الاستبداد في جميع المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية ، بدءا بالداخلية وأجهزتها وأذرعها العلنية والسرية، وصولا إلى الشخصيات الفاسدة التي تلطخت أيديها بهضم حقوق المواطنين واتسمت قراراتها بالجور والاستبداد، هكذا نبني مملكة جديدة مستقرة، وليس بالاستمرار في دق طبول "حرب" لم يجيشوا لها ما يكفي من زخم شعبي لتحقيق الهدف المنشود، فالمعركة مازالت مستمرة، وكل ثورة ومملكتنا الشريفة الجديدة تنعم بالأمن والاستقرار، بعيدا عن بطانة السوء وذلك المختفي، لا عجل الله برجوعه على محراث خشبي أو جرار !! [email protected] * إعلامي مقيم بالدوحة (دفعا لتشابه الأسماء بيني وبين كاتب آخر يحمل اسم ذ.إسماعيل العلوي، فالفرق بينا أن اسمي الكامل هو: مولاي إسماعيل العلوي، فوجب التوضيح، حتى لا تحسب عليه آرائي ولا أتحمل عنه مواقفه)