تقديم: قبل أن أسترسل في الموضوع، أنقل مقدمات أساسية حتى تكون ضوء كاشفا للموضوع: - أشير إلى أن المقال هو رد على سعيد لكحل، لما آثاره من أراء ومواقف في مداخلته التي نقلها الموقع المحترم هسبريس، في التقرير التي أعده محمد الراجي، بتاريخ 07/01/2017. تحت عنوان "باحث متخصّص يعتبر التراث الفقهي الإسلامي مصدرا للخطر على العالم". - الفكر الإسلامي يحتاج إلى مراجعة، وهذا ما نتفق فيه مع من يدعو إلى التصويب والتصحيح، ومراجعة التراث مراجعة شاملة. - الاجتهاد لاستخراج الأحكام التفصيلية له ضوابط وشروط ينبغي الحرص عليها. - التفريق بين الأصول الإسلامية، والأحكام الفقهية الإسلامية، وإلا وقع الخلط بين الثابت والمتغير. - كل ما جاء في الفقه الإسلامي وأحكامه خاص بزمانه ومكانه، لذا وجب تمحيصه والتنقيب عما يصلح منه، وما لا يصلح لزماننا ومكاننا. - لا يمكن فهم تراث الأحكام الفقهية في تاريخنا إلا بالنظر إليه في سياقه العام، خصوصا السياق السياسي الاستبدادي الذي كان له الكلمة الأولى في استصدار هذه الأحكام. - المداخلة تضم مغالطات واتهامات، وتخص باتهام الفقه الإسلامي بالمصيبة والإرهاب والخطر على العالم، واعتبر صاحب المداخلة هذه الاتهامات نتائج توصل لها من خلال البحث، والحجج، وذلك باستعمال التحليل المغالط، وللرد على المداخلة ردا هادئا وعلميا أشير إلى ما يلي: 1. الانتقاء المغالط، سببه الجهل بعلم الحديث فقد نقل صاحبنا ثلاث روايات حديثية، اعتبرها شواهد على ما يقول وما استنتجه. الرواية الأولى: "صِنْفا من عباد الله المسلمين سيجيئون اللهَ يوم القيامة على ظهورهم أمثال الجبال الراسيات ذنوبا، فيأمر اللهُ أنْ تُحطّ عنهم ذنوبهم وتُجعل على اليهود والنصارى.." ولرد على هذه الرواية/الشاهد، من وجوه: أولها: الحديث روي بعدة أوجه، أخرجه الطبرانى في مجمع الزوائد (10/343) والحاكم (1/126) ، (رقم 193) وفي مسند أحمد (4/391)، ومسند عبد بن حميد (537،540)، وسنن ابن ماجه (4291)، وفي صحيح مسلم رحمه الله حديث رقم: (2767) وقد قال الهيثمى: فيه عثمان بن مطر، وهو مجمع على ضعفه، وهذا الإجماع على عدم قبوله وضعفه، لسببين: السبب الأول: هذا من الحديث المضطرب، لأن كل روايات الحديث فيها اضطراب واختلاف، ولا يخفى على المطلع على علوم الحديث ما ينتج عن اضطراب الروايات واختلافها من ضعف، وبيان ذلك في "التاريخ الكبير" للإمام البخاري رحمه الله (1/39) نجد أوجها كثيرة منها: - فمرة يقول بعضهم: عن أبي بردة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم. - وأخرى يقول: عن أبي بردة، عن عبد الله بن يزيد. - ويقول آخر: عن أبي بردة، عن رجل من أصحاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم. - وجاء مرة عن أبي بردة، عن رجل من الأنصار، عن أبيه. - ومرة عن أبي بردة، عن رجل من الأنصار، عن بعض أهله. لهذا الاضطراب والضعف، قال: الحافظ ابن حجر رحمه الله، وهو من رجال علم الحديث: "وفي حديث الباب وما بعده، دلالة على ضعف الحديث الذي أخرجه مسلم من رواية غيلان بن جرير - وذكر الحديث ونقل عن البيهقي تضعيفه - " (فتح الباري) (11/398). السبب الثاني: مناقضة الرواية لظاهر القرآن الكريم، في قوله تعالى: ( وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) الأنعام/164 . لذا وجب توجيه الرواية إلى معنى يتوافق مع القرآن الكريم. وبعد هذا كان حريا بصاحب المداخلة التحري، والبحث قبل الاستصدار للحديث، فأين التخصص إذن؟ الرواية الثانية: "عقْلُ أهل الذمّة نصفُ عقل المسلمين" وجاءت الرواية عند النسائي باب القسامة: رقم: 4807، وعند ابن ماجة باب الديات رقم: 2644، وعند أحمد ابن حنبل 2/224 . كما جاء عند الترمذي "ما جاء في دية الكفار" والبيهقي وصححه الألباني. والرد على هذه الرواية الثانية، من وجوه: الوجه الأول: هذه الرواية هي من نوع غريب الحديث، وهو ما وقع في متن الحديث من لفظة غامضة، فإن كان الإعمال الفاسد للرواية السابقة ناتج عن جهل علوم الحديث من حيث طرق الصحة والضعف، فإن الإعمال الفاسد للرواية الثانية، ناتج عن جهل علوم الحديث من حيث معرفة معانيه وألفاظه الغريبة، فقد اتفق المحدثون على أن المراد بالعقل في الحديث: الدية، وسميت الدية عقلاً لأنها تعقل لسان ولي المقتول، وكل الذين خرجوا للحديث إنما جاءوا به في باب الديات، فقد جاء في السنن الكبرى، وسنن الترمذي، وسنن النسائي في (باب الديات)، وفي سنن الدار قطني في (باب الحدود والديات وغيره) وسنن النسائي في (باب القسامة) وقد استخلصوا الحكم الفقهي من الحديث، أن دية الكافر نصف دية المؤمن، ولم يختلف الفقهاء في هذا المعنى، إنما اختلفوا في مقدار دية الكافر بعد اتفاقهم على أنه لا دية للكافر الحربي أياً كان يهودياً أو نصرانياً أو غيره، فماذا الخلط والافتراء على رجال الحديث؟. الرواية الثالثة: "المرأة ناقصة عقل ودين" هذه الرواية اختلف فيها الناس كثيرا، ومما جاء فيها من بيان: الأول: في الرواية اضطراب في نقلها، وهو ظاهر في قوله: في أضحى أو في فطر، ولا يخفى على المطلعين على علم الجرح والتعديل ما لهذا الاضطراب من تأثير على صحة الحديث، فهو جرح في الراوي ظاهر. الثاني: الرواية تعارض ما جاء في القرآن الكريم، لأن الرواية فيها إطلاق على أن كل النساء ناقصات عقل ودين، في حين نجد القرآن ذكر من النساء من هن أصلح عقلا، وأرجح فكرا، مثل: امرأة فرعون، وملكة سبأ، ومريم بيت عمران، وغيرهن كثير. الثالث: تناقض الرواية مع الأحاديث الصحيحة، فقد جعل رسول الله r في حديث "النساء شقائق الرجال" فلماذا التسرع في الحكام الفقهية وهي من أشد الأمور غموضا؟. 2. الاستنتاج الباطل لقد توصل صاحب المداخلة بنتائج كلها فاسدة، وبيان الأمر كالتالي: الاستنتاج الأول: الفقه الإسلامي مصدر إلهام للفكر المتطرف. وقد جاء في التقريرأن "الفكر الداعشي يتغذّى منه" أي من الفقه الإسلامي، وما دام فكر داعش المتطرف يتغذى من هذا التراث، فهو فاسد. الاستنتاج الثاني: العقل الإسلامي المعاصر، عقل ساكن في الماضي البعيد. العقل الإسلامي العربي لا يهمه ما يجري في الواقع المعاصر، وقد نقل التقرير هذا الاستنتاج، "واعتبر لكحل أنَّ المسلمين اليوم "لازال يحكمهم الفقهاء من قبورهم" الاستنتاج الثالث: التراث الفقهي الإسلامي خطر على العالم. وذلك لما يحمل من بذرات الارهاب والتطرف والتشدد، وقد نقل التقرير هذا الاستنتاج بقوله، "الصورة التي رسمتْها بعض الأحاديث المنسوبة إلى الرسول r عن المسيحيين واليهود، حسب لكحل، "ولّدتْ لدى المسلمين الكراهيّة والرغبة في ممارسة العنف ضدّهم" وربما كان هذا هو الاستنتاج المحوري ويعبر عن ذلك أنه جاء في عنوان التقرير، " باحث متخصّص يعتبر التراث الفقهي الإسلامي مصدرا للخطر على العالم". وللرد على هذه الاستنتاجات، نعمد إلى علم المنطق، ومقتضيات التفكير الصحيح والخاطئ، فالقاعدة المنطقية في التفكير، وهي قاعدة عامة وكلية، حيث يقعد التفكير الإنساني على مقدمات ونتائج، وحيثما كانت المقدمات صحيحة كانت النتيجة صحيحة، وكلما كانت المقدمات فاسدة كانت النتيجة فاسدة كذلك، وعلى أساس هذه القاعدة المنطقية في التفكير، فإن النتائج التي توصل إليها صاحب المداخلة كلها فاسدة وباطلة، لأنها بنيت على مقدمات فاسدة، وأحاديث وشواهد باطلة، إما لضعفها، أو لسوء فهم معناها، وقد بينا ذلك بشيء من التفصيل غير الممل في الرد على الشواهد. 3. السخرية في المحاورة هذه الإشارة لابد منها ما دام صاحبنا متخصص في المجال الديني، لأن ممارسة المحاورة والتحاور هو علم إسلامي أصيل، وقد سماه علماء المسلمين بعلم المناظرة، وسماه المعاصرون بعلم الحجاج وأساليبه أو نظرية الحوار والمحاورة، ومما يوصي به هذا العلم التأدب وإعطاء الحق والكرامة للمحاور بعدم السخرية والإيذاء والاتهام الباطل، في حين نجد صاحب المداخلة يستعمل السخرية بعد ذكر كل رواية من الروايات الضعيفة، أو المغالطة للسامع بتحريف معناها، فكيف ينقبل مثل هذه المحاورات السخيفة؟ ولذلك حُق للمفكر الجزائري الراحل، محمد أركون- رغم اختلافنا معه - أن يتساءل في كتابه "أين الفكر الإسلامي المعاصر؟" وكان يعني غياب المحاورات والمناظرات الرفيعة والعلمية، وهي المناظرات التي وقعت بين العلماء المسلمين خصوصا الغزالي وابن رشد، وغيرهما. خاتمة إن الحوار والمحاورة سبيل لابد منه للخروج من النفق الذي يعيشه العقل العربي والإسلامي، ولا نخشى من الآراء والمواقف المخالفة، لأن الاختلاف هو وجود الأنا في صورة الآخر، ومنه تنشأ الحقيقة، أما التعصب والانغلاق على فكرة كيف ما كانت دون تمحيصها وتقليبها ومراجعتها، إنما هو سبيل التقليد، وتقييد العقل عن التفكير، وكفانا من التقييد، والتقليد وقد جرا علينا الويلات عبر تاريخنا العربي والإسلامي. أدعو الجميع إلى الاجتهاد والتجديد لواقعنا المعاصر، لكن دون التسيب، ولي النصوص ليا يخرجها من حقيقتها ومقاصدها، فضوابط وقواعد الاجتهاد منارات نأخذ بها، قصد التوجيه الصحيح. وأخيرا أحيي صاحب المداخلة، وأرجو أن يتقبل انتقاداتي بصدر رحب، وروح المحاورة والحوار.