سألت سيدة أماريغية عن لفظة، حَزَرْتُهَا أمازيغية، في أغنية أخالها للغيوان، قالت المرأة: "حقا، مشكمانا تعني "ليس للأمر أهمية"". مشكمانا لفظة نفيسة من ذخائر تراثنا الشفهي احتفى بها معجمي الذهني كأي لفظة رطبة تبحث لها عن ظل داخل معجم مادي. لذلك دع عنك لومي إن رأيتني متحمسا لصدور قاموس للدارجة المغربية مرتبط باسم دَاعِيَةِ استخدام الدارجة المغربية في التعليم: نور الدين عيوش. فهذا القاموس يلبي حاجة وجدانية. فلا مِرَاءَ أن اللغة عامل حيوي في هوية الفرد. فباشتغالنا على الدارجة نشتغل على جزء من هويتنا. لذلك كان هاما أن نتساءل: هل يسهم اشتغالنا على جزء من هويتنا في تشظي هذه الهوية أم إثرائها، خصوصا إِنِ انْتَوَى هذا الاشتغال إبطال التفاعل بين اللغات الْمُكَوِّنَةِ للهوية؟ فلا جَرَمَ أن الدارجة بوتقة تاريخية حوت ألفاظا متعددةِ الْمَحْتَدِ، اقترضتها من اللغات الأخرى كَيْمَا تعبر عن الحاجة اليومية للمغربي. لذلك اعتبرتُ معجم عيوش مختبرا لكشف العلائق الداخلية لبنية العامية، إذ كنت أَنْظُرُ تجلي الاشتقاق اللغوي والرحلة في عوالم اللفظ النفيسة ونبذ الهوس الإيديولوجي. وأقصد بالهوس اطِّرَاحَ الألفاظ المنتمية إلى الفصحى، مثلا، واستبدالها بِأُخَرَ ذات أصل فرنسي لكوني فرنكوفوني الهوية، مثلا. فكوني فرنكوفونيا قد يجعلني أنظر بشراسة إلى من ينطقون أفكارا غير متحررة بلغة أعتبرها أداة أسلمة. وراعني أن أَلْفِيَ اللفظة الدارجة دون الغوص في تاريخ ميلادها والاجتزاء بشرحها بالدارجة المغربية، أي تفسير الماء بالماء. وأنا هنا أتساءل: لِمَنْ خُطَّ هذا المعجم؟ فإن كان المخاطَب أعجميا، فالأعجمي يُخَاطَبُ بلسانه الأم، لا بلغة يجهل مفرداتها. فإذا ابْتَغَيْتُ معرفة الإنجليزية، فلن يفيدني استخدام معجم إنجليزي-إنجليزي، بل معجم لغته الأصل إنجليزية ولغته الهدف اللغة التي أتقنها. فالقاموس ليس تقميشا COMPILATION للفظ وتكديسا، بل بحثا أكاديميا عميقا يتوسل بالحفر اللغوي لاستخراج لآلئ ثقافية. ولنضرب لذلك مثلا. فالتعبير المصري "زي كذا" تعبير عربي فصيح معناه: "مثل كذا"، يرادفه "سي". ومنه قولنا: "هما سيان" أو "فلان ليس له زي أو سي". ومن ذلك أيضا لفظة "أفندي". فهي مصرية، تركية الأصل مقترضة من اللفظ اليوناني "أفنتيس" afentis التي تعني "السيد". فليس عيبا أن تقترض لغة من أخرى من أجل البقاء حية، بل إن العرب اقترضوا الوزن السماعي السرياني في تعريبهم. فنجد في العربية وزن اللاحقة "ني" في قولهم "النفساني"، مثلا، عوضا عن "النفسي". والاقتراض ذاته سنلفيه في الدارجة المغربية. فلفظ "زَطّطَ" مأخوذ من اللفظ الأمازيغي "أزطاظ" وهو المرافق الحامي للشخص أو القافلة في منطقة خطرة. ومنه ربما انبجست لفظة "سطات". وبتصفح المعجم الأمازيغي-العربي للأستاذ محمد شفيق، نكتشف أن "النكافة" مشتقة من اللفظ الأمازيغي "تنكيفت"، أي الْمُزَيِّنَة. وبما أنني سمعت ذات مرة أن الفعل الدارج "بَوَّزْ ليه" مشتق من اللفظة الإسبانية "لا باز" "LA PAZ " أي السلم، بمعنى أن المرء يرفع راية الاستسلام طلبا للسلم، فما حقيقة مثل هذا الكلام؟ وهل "فنيدة" لفظة تركية الأصل تعني "الحلوى"؟ فلكل هذه المعاني المنبجسة إشراقات في نفسية المستطلع للمعجم المبحوث تبيانا للأثر الحضاري والثقافي للغات الأخرى في شخصيته. وهو ما يعكس حوارية متدفقة بين اللغات والثقافات. فَالْحَرِيُّ ألا نجد في المعجم محض رصف للفظ. لذلك نتساءل ثانية: لِمَنْ خُطَّ هذا المعجم؟ فإن خُطَّ لمن وهنت دارجته، فهل نضمن له التخلص من الْعَنَتِ أثناء القراءة، خاصة أنه ليس ثَمَّ كتابة صوتية PHONETIC TRANSCRIPTION؟ فإن قيل فعلنا ذلك لأجل ارتياض لسانه، قلنا هذا ليس كتابا بيداغوجيا لتعليم الدارجة، بل محض معجم مساعد على التعلم يضيء طريقه أمام عنت اللغة، كما يسدد سلوكه. وهل يحتاج مثله أن نشرح له لفظة مثل "أبليكسيون"؟ ثم، أليس لفظ "أسمر" مكتفيا بذاته، هل كان يحتاج إلى لفظي "عزي" و"عنطيز" بديلا، علما أن أي لفظة يحكم استخدامها السياق، كما تلونها النبرة أو إعادة الامتلاك REAPPROPRIATION؟ فالخطاب المستخدم ل"عزي" يلفي خطابا مضادا أعاد امتلاك اللفظة وَلَوَّنَهَا بنظرته للعالم. لذلك أحيانا، وكسرا للخطاب المهيمن، قد يسمي الأسمر نفسه "عزي" أو قد ينادي أسمر مثله بذات اللفظ. ويزيدنا إصرارا على هذا الموقف تحديد القارئ المفترض للقاموس: أهذا ما نريد تعليمه لأبنائنا، خصوصا أن المغرب يركض نحو إفريقيا؟ ألن يجد المربي نفسه في حرج إن خاطبه ابنه أو تلميذه: "وجدتها في المعجم."؟ أبمثل هذه الكليشيهات CLICHES أو الأفكار النمطية stereotypes المحقرة نريد أن نعيش قرننا؟ فَلِمَ تحقير المرأة والجندر بلفظ مثل "طبوزية" أو "اكسيدة"؟ فذكر اللفظة يعني تبني الخطاب المبثوت في تجاويفها. فما ذنب امرئ سمين أو امرأة بدينة؟ أليس هذا الفرد حبيس ديكتاتورية البيولوجيا؟ والشيء نفسه ينطبق على استخدام الألفاظ الجنسية، إذ لا نرى لذلك مسوغا. فما الداعي للهبوط إلى الدرك الأسفل من الدارجة وقد أَلِفَ المغاربة الألفاظ المهذبة التي يستخدمها الطبيب عبر المذياع، مثلا؟ أليس في ذلك إنحيازا لشريحة خاصة تغوص في استخدام مثل هذه الألفاظ كل برهة وحين وتضحية برأي أخرى تتبنى سموا حضاريا في معيشها اليومي؟ ثم، هل تعكس الإيديولوجيا التي صاغت هذا المعجم رؤية وطنية شاملة للقضية اللغوية؟ نقول ذلك ونحن ندرك أن اللفظ الواحد يحوي دلالات متعددة من منطقة إلى أخرى، مثل مرادف الأسمر في الدارجة المراكشية واللفظ نفسه في دارجة القاموس. لذلك نتساءل عن السر وراء تبني دارجة وسط المغرب حصرا، ألذلك علاقة بالثقل الاقتصادي للبيضاء؟ وما الغاية من إقصاء اللهجات الأخرى؟ فالدارجة التي يريد عيوش ترويجها دارجة غير قياسية STANDARD. ندرك أن الدارجة المغربية ما زالت تحتاج إلى تطوير، شأنها في ذلك شأن الأمازيغية أو العربية، لكنك تدرك أن العربية تتمايز بكونها لغة خريطة شاسعة لم تصدر بَعْدُ قرارا سياسيا لتنشيط دورتها الدموية. فاستخدام العربية في الحياة اليومية يبقى مرتبطا بالدينامية التعليمية وبتصورنا لذواتنا. فمن نحن؟ وأي جواب سيرتبط بنوعية التعليم الذي نريده والسياسة اللغوية الواجب اتباعها. فلو كنا مجتمع معرفة، لتفاوض المجتمع بشأن السياسة اللغوية التي يجب اسْتِنَانُهَا في المنهج التعليمي وستجد بيت المغربي آنئذ مشتلا للغات. لن يصطدم بالعربية العالِمة عند ولوجه المدرسة. كنت أتمنى أن يكون المعجم تجسيرا للغات الوطنية في هوية المغربي، وَشْجًا لهوية صحية متوازنة، بفعل منهجي صارم. فخلق لغة تعليمية مستقلة فعل سياسي. والفعل السياسي يحكمه استدلال عملي وهدف جلي. وذاك ما يجعلني أَنْظُرُ فعل الزمن في هذا المعجم. فمهما تضخمت آراؤنا سيكون للزمن حسمه ومنطق غير حلولنا. ألا ترى معي، إذن، أن الزمن جزء من الحل؟