تسيطر على الأذهان دوما فكرة مفارقة ومتناقضة مفادها التنازع المستمر بين القديم والجديد، أو بين التليد والمعاصر، أو بين الحداثة والمعاصرة. وينسحب هذا التوصيف تقريبا على مجمل مجالات الحياة في مشهدنا المغربي. فإذا نحن بدأنا هذه المفارقات بالحقل السياسي، وأخذنا، سنجد في الماضي القريب أحزابا كانت تمتلك مشروعية تاريخية وديمقراطية ونضالية، لها مشروع مجتمعي، وإطار إديولوجي، وخلفيات وقواعد اجتماعية حقيقية تستمد منها مشروعيتها. لنأخذ على سبيل المثال من حياتنا السياسية نموذج الإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية كمكون سياسي تنطبق عليه الأوصاف الذي ذكرناها إلى حد بعيد. ففي نهاية الثمانينات سنجد مثلا على رأس الحزب عبد الرحيم بوعبيد، ومكتب سياسي يتشكل من شخصيات سياسية وازنة أمثال عبد الرحمن اليوسفي محمد نوبير الأموي ومحمد اليازغي ومحمد الحبيب الفرقاني ومحمد منصور وعبد المجيد بوزوبع وغيرهم. وهؤلاء كلهم قامات وطنية نضالية وهامات المغرب السياسي في تلك الفترة. أما اليوم فسنجد المفارقة كارثية، نكرات سياسية تسيطر على المشهد السياسي، وقادة سياسيون مجهولون، وأعضاء في المكاتب السياسية للأحزاب لا يعرفهم أحد، ويجهل الجميع حتى أسمائهم ورصيدهم النضالي الذي أوصلهم إلى التربع على أعلى هرم في الأجهزة الحزبية. وفي الحقل النقابي، كان المشهد النقابي معلوما للجميع من خلال مكوناته، وكانت المكونات النقابية قليلة العدد، وكان لقراراتها النضالية وقع وتأثير. ففي الماضي القريب كان بمقدور مكون نقابي واحد كالكونفدرالية الديمقراطية للشغل-على سبيل المثال-إعلان إضراب وطني يشل الحياة، ودونما حاجة لدعم أي مكون نقابي آخر. أما اليوم فقد تفرقت النقابات مللا ونحلا، وتحولت إلى حوانيت ريعية تبيع لمن يدفع أكثر، وليس بمقدورها مجتمعة إنجاح إضراب وطني، أو حتى ضمان حد معقول من النجاح، أو تحقيق مكتسبات معينة عبر آلية الحوار والتفاوض. إذا نحن اتجهنا إلى الفن، سنجد في الماضي أسماء لامعة تركت بصمات لا تنمحي في الذاكرة الفنية من خلال أعمال فنية خالدة لا يزال الحنين لها إلى اليوم، مثل المعطي بنقاسم، ومحمد فيتح، ومحمود الإدريسي وعبد الوهاب الدكالي وعبد العادي بلخياط ونعيمة سميح ولطيفة رأفت... وغيرهم. وفي الأغنية الجماهيرية الملتزمة، فإن اسما الغيوان وجيل جيلالة يكفيان كنموذج للفن الغنائي الملتزم والجماهيري الذي حاز انتشارا لا مثيل له بين شباب مغرب الأمس. وينطبق الأمر على الأغنية الشعبية والموسيقى الأندلسية والطرب الغرناطي والملحون وباقي الأشكال الفنية والموسيقية والتراثية، حيث كان لكل صنف من هذه الأنواع الموسيقية شيوخ وأسماء لا تنسى من ذاكرة الفن المغربي. وأما اليوم فقد تسلطت على الميدان كائنات غريبة، وانتشرت الأغاني الإيقاعية السريعة، وشاع الذوق السمج والهزيل، ولم يعد إنتاج العمل الفني متعبا كما كان في السابق مع جيل الرواد. فقد تراجع دور الموهبة في خلق الفن، ولم يعد الإبداع يجد الآذان الصاغية، وهجر الجمهور الغناء الملتزم والطربي، وأغلقت وسائل الإعلام السمعي البصري أبوابها بإحكام في وجه الجيل القديم. اليوم وعلى خلال الماضي أصبح الفن صناعة، وانقلبت المعايير الفنية، ولم تعد عدد من الشروط ضرورية أمام من يريد أن يلج عالم الفن والغناء مثل الموهبة والإبداع وملكة الصوت، وبات في إمكان أي كان أن يصبح فنانا، وأصبح بمقدور أحدهم أن يستفيق ذات صباح فيقول أي كلام، ثم ينطلق لتلحينه مركبا الكلام على أي مقام وبأي لحن وكيفما اتفق، فتجد الإقبال المنقطع النظير على ذلك العمل الضحل من طرف جمهور آخر مختلف تماما عن جمهور الأمس. اليوم توارى الذوق الجميل في زمن فني تسيطر فيه على الآفاق الألحان الإيقاعية الصاخبة والكلمات الرديئة والأصوات المبحوحة. إذا نحن التفتنا إلى باقي الفنون كالمسرح مثلا، سنجد في الماضي أعمال مسرحية خالدة ورواد مسرحيين تركوا إنتاجات متميزة وتاريخية في هذا النوع من الفنون تأليفا وإخراجا وتشخيصا ونقدا، فصنعوا الفرجة المسرحية طيلة النصف الثاني من القرن العشرين مثل الطيب الصديقي والطيب العلج وعبد الكريم برشيد وحسن المنيعي...وغيرهم. بالأمس كان المشهد المسرحي المغربي يحبل بالفرق الموسيقية الاحترافية والهاوية، وكانت العروض شبه يومية في مختلف قاعات العرض، يتسابق الجمهور لحجز مقعده لمتابعة العروض، والفرق تتسابق لإنتاج الأعمال والقيام بالجولات الفنية على طول البلاد وعرضها. وفي خضم ذلك تطورت أشكال فرجوية أصيلة، أصبحت مدارس كاملة الأركان وجدت صدى لها في العديد من الدول العربية. أما اليوم فقد تغيرت المعطيات، واختفت قاعات العرض المسرحي، وأُغلقت أبوابها، وهجر الجمهور تلك التي بقيت منها شامخة في زمن الانتكاسة المسرحية الشاملة. فأين هو المسرح؟ وأين هم رجالاته؟ ومن يقبل على الأعمال المسرحية؟ ومن يلتفت إليها أصلا بعد أن ظهرت الكثير من المتغيرات في الميدان المسرحي والفني وتعددت وسائل الفرجة لدى الجمهور؟ اليوم لا تستطيع مجموعة مسرحية إنجاز عمل مسرحي دون دعم من وزارة الثقافة، وحتى مع الدعم فإنها تفشل في تحصيل أي عوائد من عملها المسرحي. لو أدرنا البوصلة تجاه ميدان الكرة لوجدنا أن أبرز الإنجازات في تاريخ المستديرة المغربية تمت في فترة السبعينات والثمانينات مع نقطة ضوء وحيدة في التسعينات. ففي هذه المراحل الماضية فزنا بكأس إفريقيا، وحصلت فرقنا على البطولات الإفريقية، وتأهلنا غير ما مرة لكأس العالم، وأصبحنا ننعت ببرازيل إفريقيا. وأما اليوم فنحن في قاع الكرة الإفريقية، وأصبح فوزنا في السبعينات بكأس إفريقيا للأمم مجرد ذكرى وفلتة كروية قد لا تتكرر. اليوم، بات التأهل إلى كأس العالم من سابع المستحيلات ، مثلما بات الفوز بكأس إفريقيا حلما صعب المنال. وفي الأثناء أصبحت الفرق المغربية، التي كانت بالأمس تدك شباك الفرق الإفريقية بالأهداف الغزيرة، تعاني الأمرين مع أضعف الفرق الإفريقية، ولا تستطيع تحقيق الإنجازات حتى أمام الفرق المجهولة إفريقيا، وتبخرت مقولات الأدغال التي طالما ترددت على أسماعنا، واتضح أن الأدغال الحقيقية موجودة في مخيلاتنا وليس في واقع إفريقيا الكروي. أما في ميدان ألعاب القوى، فقد حققنا إنجازات غير مسبوقة في الماضي من خلال أبطال استثنائيين، أما اليوم فإن أبطالنا الأشاوس لا يستطيعون حتى مجرد إكمال السباقات، ولو أكملوها، فإنهم بكل تأكيد سيحلّون في المراتب الأخيرة، وأغلبهم لا يقوى على الجري دون منشطات، وكثيرهم وقعت عليها عقوبات إثر اكتشاف فضيحة تناوله للمنشطات. حتى أصبح اسم المغرب في المحافل الدولية مقترنا بتعاطي المنشطات بعدما كان مقترنا في الماضي بحصد الميداليات. في الماضي كان الذهاب إلى الملعب يشبه حضور عرض مسرحي فرجوي يبدأ بسلام وينتهي بسلام، أما اليوم ففي نهاية كل مقابلة نترقب سقوط أرواح بشرية، وتحولت الكرة إلى مرتع لتفجير الحنق والهشاشة الاجتماعيتين ومسرحا للجريمة وستارا لنوع جديد من العصبيات: عصبية المدينة، وعصبية الفريق، وعصبية الألتراس، وعصبية الباش...إلخ في المجال الإنتاج الفكري والأدبي، فقد عرف أوج ازدهاره في الماضي. ففي الفلسفة مثلا، عرف الفكر الفلسفي تطورا مهما في المغرب بفضل أسماء عديدة ساهمت في إثراء التأليف الفلسفي وانفتاح الثقافة المغربية على مدارس وتيارات فلسفية جديدة حتى صار الفكر الفلسفي المغربي المعاصر يعتبر الأكثر تطوراً في العالم العربي في الربع الأخير من القرن الماضي. كان للمغرب فلاسفة كبار أمثال محمد عابد الجابري وطه عبد الرحمن وأخرون ساهموا في إنتاج فكر فلسفي مغربي مستقل عن الفكر الفلسفي العربي الإسلامي والفكر الفلسفي الغربي. وفي مجال الكتابة التاريخية، برز في الأمس مؤرخون لامعون أمثال عبد الله العروي، وكتاب متميزون، وأدباء معترف بهم، هؤلاء كلهم أخرجوا بفضل أعمالهم هذه الربوع من المغرب الأقصى مما يشبه الصحراء الثقافية والفكرية إلى واحة خصبة للإنتاج والإبداع الراقي. وأما اليوم فقد اختفت الأسماء من على المشهد، ولا نعرف من هم رموزنا وروادنا في هذه المجالات، ولازلنا نعيش فقط على ذكرى الأعمال الفكرية والأدبية السابقة. كانت الجامعات فيما سبق منارات فكرية وأدبية وسياسية تخرجت منها خيرة الأطر الوطنية بفضل ثراء وغنى النقاشات التي كانت تدور في رحاب الجامعات المغربية. وأما اليوم، فإذا اتجهت إلى الجامعة، فإن الصدمة تكون كبيرة، والمعادلة انقلبت تماما، ففيها تعتقد أحيانا أنك في ثانوية أو في إعدادية، حيث فرغت الساحة من الالتزام والنقاش والحلقيات إلا فيما نذر، لصالح أشكال جديدة من العمل الطلابي تقوم على البحث عن ربط العلاقات العاطفية العابرة، والتسكع بين ردهات الجامعات، إلا من رحم ربك. وفي الخارج تصطف السيارات والدراجات النارية تحسبا للمواعيد الغرامية. بينما في الماضي كان من بين الطلبة شعراء وكتاب وسياسيون ومحاضرون وإيديولوجيون على قدر كبير من الحماس والتمكن والبراعة. في المدرسة والمجتمع قديما، كان سيد القوم وأكثرهم مكانة اعتبارية هو المعلم والأستاذ، يقام لهم ويقعد. ففي داخل أسوار الإبتدائيات والإعداديات والثانويات وخارجها، كان الجميع يهاب الأستاذ لجهة الوقار والاحترام والتقدير من طرف متعلمين نادرا ما يتجرأ أحدهم على أستاذه. وأما اليوم فمكانة الأستاذ والمعلم في الحضيض، لا، بل أصبحا عرضة للسخرية والتندر والتنكيت، وتشكلت في المجتمع صورة أخرى عن الأستاذ والمعلم لها ما لها من الرسوخ، وهي أنه بخيل وشحيح وغير ملتزم وغشاش...إلخ...أجيال الأمس ومتعلمو الأمس ليسوا هم متعلمو اليوم، شتان بينهما لجهة الانضباط والدافعية والعمل والمشاركة والانخراط في التعلمات. متعلمو اليوم لا يختلفون كثيرا عن أطفال الروض، حيث يصرف المدرس معظم وقته لإسكاتهم، وإذا التزموا الصمت، فكثيرهم ليس من أجل الفهم والمتابعة والإنصات، وإنما مرغما على ذلك. لا نستطيع أن نذهب بعيدا في هذا المسار لأن المجالات التي شهدت تحولات لا تعد ولا تعصى، ولذلك نختم هذه مقابلاتنا هاته بين القديم والجديد بعرض بعض الملاحظات الأساسية: -أولا: أن الأجيال التي صنعت الأمجاد في الماضي إذا هي استمر بها العمر وعاشت الحاضر، فإنها وبقدرة قادر سوف تنكفئ وتتراجع وتتوارى وتركن إلى الخلف وينطفئ وميضها وتتماهي في زحمة التهافت والتراجع والقهقري، وكأنها ستستلم لتواضعات الحاضر رغما عنها. -ثانيا: رغم ما ذكرنا من أحكام قد تبدو قيمية، وهذا نقر به، لكن في الواقع، فإن معركة شرسة تندلع في ذهننا كلما أعدنا قراءة ما كتبنا أعلاه، حرب مشتعلة دوما بين تصديق أن الماضي كان أفضل، وحقيقة أن لكل زمان تواضعاته وإنتاجاته وذوقه وسياسته وكرته وفنه، وأن المقارنة تستحيل في محصلة الأمر إلى حكم معياري قد يهضم حقوق أجيال الحاضر على حساب تمجيد الماضي. -ثالثا: يجب الإقرار بأن تفضيل الماضي هو في حقيقة الأمر نزوع لا إرادي نحو نوع من المحافظة التي تسكننا بالرغم منا. فهل بالفعل كل ما ارتسم في الماضي كان أفضل من واقع اليوم؟ هل ما حدث في ماضينا في المجالات كافة أحسن مما نحن عليه اليوم؟ أما أن هذه المقارنة ظالمة وغير واقعية؟ * كاتب وأستاذ باحث [email protected]