ماذا تعني كل هذه العمليات الإرهابية التي حدثت هذا الأسبوع في مناطق متفرقة من العالم؛ في الأردن بمنطقة الكرك، وفي برلين حينما صدمت سيارة بعض المحلات التجارية بمناسبة أعياد الميلاد، وصولا إلى عملية إطلاق النار واغتيال السفير الروسي في العاصمة التركية أنقرة. هذه العمليات المتقاربة زمنيا، والتي توجه فيها كل أصابع الاتهام لمشتبه فيهم من العالم العربي والإسلامي، وتبنى إحداها تنظيم الدولة، تفتح الباب على مصراعيه لطرح العديد من الأسئلة الحارقة والمقلقة بخصوص مصير العالم والمنطقة العربية، خاصة بعد انتشار كل هذا الذعر والخوف والدمار والتخريب الذي يطال الإنسان والحجر والشجر. لا يخفى على أحد أن العالم كقرية كوكبية يرتبط ارتباطا حتميا وقدريا، وأن الإرهاب ينتقل بالعدوى، وبات يهدد كل الدول ولا يستثني أي منطقة من العالم. ويرجح حسب تعبير ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، ارتفاع وتيرة العمليات الإرهابية، وخاصة بعد سقوط حلب بيد قوات النظام السوري، وفي حالة التمكن من استرجاع الموصل والرقة من قبضة داعش. لا شك أن هناك نوعا من التداخل وجلاء العلاقة السببية بين هذه العمليات الإرهابية والحرب في سوريا، التي مازالت تخيم بظلالها وبانعكاساتها الوخيمة على منطقة الشرق الأوسط، ولا يمكن الجزم بإمكانية إيجاد حل سريع وعاجل لها في القادم من الأيام؛ ما يعني أن استمرار الصراع بين الأطراف في سوريا سوف يتواصل، ونشاط المعارضة غير المعتدلة كجبهة فتح الشام، المعروفة بجبهة النصرة سابقا، سينتقل إلى مناطق سورية أخرى، وفي مقدمتها إدلب. الأزمة السورية أصبحت بمثابة علبة سوداء تحبل بالعديد من المعطيات الإقليمية المتناقضة والمتصارعة، ما ينعكس سلبا على مخرجات الحل، ويخيم بظلال من الشك على إمكانية وصول المفاوضات تحت إشراف الأممالمتحدة إلى شط النجاة. فمنطقة الشرق الأوسط كانت ولازالت حلبة لصراع اللاعبين الدوليين منذ القرن التاسع عشر، كما ذهب إلى ذلك هنري كيسنجر. بعد سيطرة النظام على حلب تم استصدار قرار من الأممالمتحدة يقضي بمراقبة ورصد عملية إجلاء اللاجئين السوريين منها، والتحضير لنشر طواقم أممية جديدة. كما تطالب جميع الأطراف بضمان انتشار غير مشروط وآمن لطواقم الأممالمتحدة في المدينة. وشدد القرار على ضرورة تقديم الحماية للمدنيين الذين اختاروا البقاء في المدينة، وضمان أمن النازحين الطوعيين أثناء عملية الإجلاء حتى مقصدهم الأخير. لأول مرة لم تعارض روسيا القرار ولم تلوح باستعمال حق الفيتو كما تعودت في السابق، وهذا يدل على عدم أهمية القرار بالنسبة للروس؛ لأنه لن يغير في موازين الصراع السوري على أرض الواقع، طالما تسيطر قوات النظام على المدينة. وبإمكان هذه القوات منع المراقبين الأمميين من التقدم إلى الأمام في كل نقاط التفتيش، كما قد تعيقهم الإجراءات الإدارية من الوصول من دمشق إلى حلب في الوقت المناسب. وتحاول موسكو من خلال هذه المناورة، وكذلك من خلال استغلال اغتيال سفيرها في أنقرة، أن تظهر بمثابة الدولة المرنة المتماهية مع المنتظم الدولي، والراغبة في تقديم الدعم وتسهيل عبور اللاجئين الذين فروا بالأساس من جراء القصف الروسي العشوائي الذي دمر حلب عن بكرة أبيها. تزامن انتصار قوات النظام وإعادة فرض سيطرتها عسكريا على حلب مع وقوع عملية إرهابية في ألمانيا، أدت إلى سقوط 12 قتيلا، يدفع إلى التساؤل عن اختيار برلين في هذا الوقت بالتحديد للقيام بعملية إرهابية شبيهة بعملية نيس في فرنسا، التي جرت في يوليو 2016. مع بداية نزوح اللاجئين السوريين إلى الدول المجاورة، استضافت ألمانيا عددا كبيرا منهم، وواجهت العديد من الانتقادات من قبل تيار اليمين المتطرف. وتعالت الأصوات المتطرفة التي تحرض على المزيد من الكراهية والعنصرية ضد المسلمين، وتروج الصور النمطية الخاطئة عن الإسلام. كما أن العمليات الإرهابية زادت من شعبية أحزاب اليمين المتطرف في أوربا؛ ولهذا، وبعد عملية برلين الأخيرة، لا يمكن توقع استمرار ألمانيا في دعم اللاجئين السوريين، خاصة أن العديد من الدول الأوربية قابلت شجاعة وحكمة المستشارة الألمانية ميركل بسياسات متوجسة ومعارضة لإدماج أعداد كبيرة من المهاجرين واللاجئين. وزاد هذا التوجس بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي، بعد معارضتها سياسة الهجرة في أوربا التي اعتبرت من ضمن النقاط الخلافية الجوهرية بينها وبين والاتحاد الأوربي، التي عجلت بانسحابها من هذا الكيان الوحدوي. لكل هذا يتوقع تراجع ألمانيا عن سياسة الأبواب المفتوحة في وجه اللاجئين السوريين، بعد تهديد الأمن القومي الألماني وتعرض المستشارة الألمانية لضغوط كبيرة لتبني سياسة احترازية ضد اللاجئين والمهاجرين بشكل عام. نعتبر المنطقة العربية من أكبر الخاسرين من الأحداث الإرهابية الأخيرة، ومن تطور الحرب في سوريا التي غدت منطقة صراع جيوسياسي تعتمل فيه العديد من معطيات الحرب اللامتناهية، مع وجود أزيد من 81 جماعة متصارعة، ومع تناقض مصالح الدول الغربية والدول الإقليمية الفاعلة في المنطقة. ولا يمكن ترجيح كفة معسكر على حساب الثاني. فقد يعتقد البعض خطأ أن النظام السوري وحلفاءه من روسياوإيران حسم نسبيا الصراع في سوريا، لكن يبدو أن الانسحاب العسكري الأمريكي من الالتزام كقوة حامية أولى تجاه المنطقة دفع العديد من القوى الدولية المبادرة إلى ملء الفراغ الجيوسياسي، وهو ما يتضح من خلال التدخل الروسي في سوريا، ومواصلة إيران تدخلاتها المتكررة المهددة لاستقرار المنطقة، وحرص روسيا على التعامل مع دول المنطقة دفاعا عن مصالحها السياسية والاقتصادية، ومنها الاصطفاف مع إيران في الخندق نفسه للدفاع عن النظام السوري، وتقاربها مع تركيا رغم الاختلاف والتناقض في المواقف، خاصة أن ما يشغل الأخيرة بعد فشل الانقلاب هو حماية حدودها ومنع إقامة دولة للأكراد في الشمال، ومحاربة الإرهاب الذي تسبب في الكثير من الخسائر الاقتصادية. إن غياب سياسة التوازن القطبي، وتغير النظام الدولي، ونشوء تحالفات دولية جديدة، عوامل تساهم في جعل المنطقة العربية منطقة ملتهبة ومفتوحة على كل الاحتمالات، وترجح استمرار حالة الفوضى والصراعات بين الفواعل الدولية والكيانات غير الدولية، من جماعات وطوائف إرهابية متطرفة، واستمرار المواجهات العسكرية المفتوحة وسيادة منطق التحالفات النفعية التي لا تساهم عمليا في حل أزمات المنطقة، بل تزيد من قتامة مستقبل المنطقة وغموض الترتيبات الجيوسياسية التي قد تكون الدول العربية موضوعا لها. *خبير في الدراسات الإستراتيجية والأمنية