في الحقيقة هناك تيار عريض ونشيط داخل الجماعات الإسلامية التكفيرية اعتبروا الدول الوطنية المعاصرة دول كافرة، ولهذا رفعوا شعارات براقة منها: القرآن الكريم هو الحل، تطبيق شرع الله، الدولة الإسلامية، الخلافة الإسلامية على منهاج النبوية.. وعندما نمعن النظر في هذه الشعارات نجدها جذابة وبراقة تستهوي الشباب المسلم الذي يعيش في فقر وبؤس فقهي ومعرفي وثقافي تدفعه هذه الشعارات إلى ساحة "الجهاد" والقتال طمعا في تحقيق شهواته المادية والمعنوية الموهومة والمتخيلة في عقله الباطني؛ لأن الدين الإسلامي وأي دين هو سيف ذو حدين كما يقال، يمكن استعماله في بناء الإنسان والأوطان، أو استعماله في الخراب والدمار وقتل الإنسان نفسه، وللأسف الشديد، الإستعمال الثاني للدين هو الحاصل اليوم في بلادنا العربية والإسلامية، وهذا ما يدفعنا إلى انتقاد هؤلاء بشدة؛ لكونهم جعلوا من دين الله تعالى تجارة ووسيلة لتحقيق أطماعهم المادية، لهذا يفسرونه حسب أهوائهم ومصالحهم الشخصية الضيقة، ويتقلبون مع نصوصه حسب الزمان والمكان وحسب تقلب مصلحتهم ومنفعتهم، فأينما كانت مصلحتهم هم فثم شرع الله..! لهذا ترى مواقفهم ومبادئهم كل يوم وحين متغيرة ومتلونة بلون جديد وبلباس جديد ..ونحن عندما نعارض هذا التوجه لا نعارض الإسلام المحمدي كدين وقيم إنسانية نبيلة ومنهاج حياة وفلسفة عميقة للكون والوجود الإنساني عموما، وإنما نعارض مفهومهم لهذا الدين ولرسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله رحمة للعالمين، فمفهومهم الضيق والعقيم لهذا الدين اعتبروا الدول الوطنية المعاصرة نماذج لدول الكفر والضلال، ومن تشبه بالكفار فهو كافر حسب زعمهم، وعليه فالدول الوطنية عندهم دول كافرة يجوز الخروج عليها وإعلان الحرب والجهاد ضدها وعدم الولاء لها.. فهذا الوهم تجذر في الوعي الجمعي للمسلمين وخصوصا الشباب منهم، فاندفعوا إلى قتل أنفسهم وقتل الأبرياء معهم طمعا في تحقيق وإقامة الخلافة الإسلامية، هذه الخلافة التي لا وجود لها أصلا في التاريخ الإسلامي، كما أنه صلى الله عليه وسلم لم يحدد شكلها ولونها وكنهها، ولم يسميها بإسم من الأسماء، وإنما ترك الأمر شورى بين المسلمين في تحديد معالم دولتهم وتسيير دفة الحكم من خلالها، حسب الزمان والمكان ومستجدات العصر ومستحدثات الأمور، بشرط الحكم بالعدل بين الناس، مع الحفاظ على أعراضهم ونفوسهم ودينهم وأموالهم وعقولهم..فكل دولة تحافظ على هذه المقاصد الكبرى للبشر فسميها بأي اسم شئت؛ دولة الخلافة أو جمهورية شعبية، أو ملكية، أو إمارة او اتحاد أو ولاية..والعبرة بالمضامين لا بالمسميات والعناوين، وكم من خليفة للمسلمين لقب بالسفاح لكثرة ما سفك من دماء الأبرياء ؟! حتى الكعبة المشرفة تعرضت للقصف بالمنجنيق مرتين على يد بعض الخلفاء المسلمين أنفسهم..!! مرة في عهد يزيد بن معاوية حيث ضربها قائد جيشه و اسمه الحصين بن نمير السكوني و مرة ثانية في عهد عبد الملك بن مروان، حيث ضربها قائد جيشه و هو الحجاج بن يوسف الثقفي و الحادثتان حصلتا خلال الحرب بين الأمويين والزبيريين. وفي هذا السياق اعتبر د. شوقي علاّم، مفتي الديار المصرية أثناء كلمته التي قدمها في مؤتمر تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة في أبوظبي بتاريخ 18و19/12/2016 حول موضوع "الدولة الوطنية" أن: "موضوع المصلحة وتدبير الدولة في الفقه السياسي الإسلامي يدخل ضمن الإطار العام لفكرة الدولة الوطنية، التي لطالما سعت الجماعات الإسلامية التكفيرية بين الوقت والآخر أن تنحي جانباً منظومة الدولة الوطنية على اعتبار أنها نبتة غريبة وغير صالحة، وعملوا في سبيل ذلك على تكوين كيانات متعددة هدفها تنحية جانب من مشروعية الدولة، حتى وصل بها الأمر إلى تكوين كيانات عسكرية تدافع عن أصحاب الحق كما يزعمون. مؤكداً أنه "يجوز لأي دولة ما، أو أصحاب الفكر والعلماء، أن يستعينوا بأنظمة؛ حتى لو كانت من عند غيرهم؛ طالما أنها تحقق مصلحة ولا تعارض مبدأً أو عرفاً" . وقال: "لا يجوز نزع الشرعية عن الدول الوطنية، التي نشأت في هذا القرن، فهي موافقة لمقاصد الشريعة في النظام والانتظام وفي العمران البشري وفي المحافظة على الأمن والسلام والشعائر.." كما أوضح العلامة الشيخ عبد الله بن بيه ريئس المؤتمر "أن الدين الإسلامي يحيل إلى مصالح العباد، فهذه الإحالة بين الديني والدنيوي جعلت أكثر الناس يخطئون، فبعضهم يأخذ بظواهر النصوص وبعضهم الآخر يقول أنه يجب أن لا نغادر دار الدين لندخل في مجال آخر.." مضيفا ومبينا أن: "الدولة الوطنية المعاصرة تستمد مشروعيتها من قاعدة تحقيق المصالح ودرء المفاسد، مشرا إلى أن " دولة الخلافة صيغة حكم غير ملزمة للمسلمين" حسب دراسة مؤصلة قدمها الشيخ عبد الله بن بيه رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة الذي أكد أنه: "لا مناص من تجديد الخطاب الإسلامي لخلاص الأمة " . وشدد العلماء والمفكرون في هذا المؤتمر الإسلامي في أبوظبي على أن طبيعة الرسالة المحمدية باعتبارها الرسالة الخاتمة، اقتضت أن تتسع أصولها ومقاصدها للبشرية جمعاء، وان تترك للرأي والعقل والتجربة الإنسانية النصيب الأوفر في تدبير ما الأصل فيه التغير والتطور كمسائل الدولة ووظائفها ومؤسساتها.