تأخذُ خطبة الجمعة أهميّتَها -عند كل المسلمين- من قداستها ،ومن كونها خطاباً توجيهيا وإقناعيا مؤثّرا في أفكارهم و وجدانهم. كما أنها تُشكّل ،عند الكثيرين منهم ، مرجعيةً لمعرفة الإسلام و تعاليمه.ومن المفروض أن تضطلع هذه الخطبة بمهامها التوعوية و الدعوية على أكمل وجه ، وعلى قدر من الرقيّ الفكريّ والحضاريّ في محتواها، وأن تجسّد- نظرياً- جوهرَ الإسلام و قيمَهُ. منذ صَدرِ الإسلام وخطبُ الجمعة تؤدّي وظيفتَها في توثيق صِلَة المسلم بدينه، وإيضاحِ ما أشْكَلَ عليه من قضايا الفقه والسيرة النبوية، وبذلك أخذتِ الخطبةُ طابعاً مهماً وخطيراً في الآن نفسِه:فالأهميةُ نابعةٌ من دورالإرشاد والتعليم ، والخطورةُ متأتيةٌ من التَّعسُّفِ والزَّيغِ الذي قد يعتري الخطباء. من الهامّ أن ندرك أن قداسة خطبة الجمعة لا تسري على الخطباء،فهم أشخاص مجتهدون،ومؤلّفون يُصيبون ويُخطِئون .ومن بين أشد الأخطاء والانحرافات التي طَبَعَتْ نصَّها ومحتواها أنها- بسبب تعسّف الكثيرمن الخطباء- رسّخت فكرةَ الدعاء على غير المسلمين ممّن عُدُّوا كفّاراً وأعداءً للإسلام . فلا تكاد تخلو خطبة،إلا نادرا ، من فقرةٍ أخيرةٍ يجعلها الخطيبُ لَعْناً ودُعاءً على غير المسلمين، وتأصَّلت هذه الفقرة حتى اعتادتِ الأسماعُ عليها. ويتخذُ الدعاءُ صِيَغاً كثيرةً منها:((اللهم عليك باليهود والنصارى فإنهم لا يعجزونك،اللهم يتّم أطفالهم و رمّل نساءهم،اللهم زلزل الأرض تحت أقدامهم،اللهم أهلكهم كما أهلكت عادا و ثمودا...اللهم دمّر أعداء الدين..)) فلا يصعبُ على المتلقي أن يُدركَ كمَّ الكراهية المُعبَّر عنها في هذا الخطاب. إن خطباء الجمعة لَيُمثّلون رافِداً هامّاً في التكوين النّفسي والثقافي للمجتمع الإسلامي الذي تَستفحِل فيه الأميّةُ بشكلٍ مُخيفٍ، وتكاد تنعدم القراءةُ بين أفراده ، فتتحوَّلُ الخطبةُ إلى قراءة غيرِ مباشرةٍ ومعرفةٍ جاهزةٍ ، و يصير نصُّها كلاماً ذا قدسيةٍ و تأثيرٍ، و يتمُّ تلقّيه بتعظيم وإجلال خاصّة عند المسلمين ذوي المستوى المعرفي و الفكري المتدني. فلنا أن نتخيّل التأثيرَ القويَّ الذي تنتجه الخطبةُ في المسلم حين يُساءُ توجيهُها، فتنقلبُ هذه الجُرعةُ الدينيةُ الأسبوعيةُ ضَرباً من التّحريض و الكراهية ، ولنا أن نتخيّل ما قد يرسِّخه الدّعاءُ على غير المسلمين من غلٍّ وأحقادٍ .ألا يهدمُ هذا الخطابُ روحَ المحبّة والتّسامح، ويؤسّسُ لعقلية العَداءِ ورفضِ الاختلاف؟ألا يَحيدُ عن الأعراف والمواثيق العالمية الرّافضة لكلّ أشكال التمييز؟وهل هناك من أساسٍ ديني وأخلاقي يجعل اللعنَ والدعاءَ على غير المسلمين مشروعاً؟ قد يجد بعضُ الخطباء الملتزمين بلعن غير المسلمين ضالّتهم وسندَهم الشرعيَّ في بعض النصوص القرآنية مثل ((لُعِنوا في الدنيا والآخرة))النور:23،أو الحديثية مثل:((لعنة الله على اليهود والنصارى اتّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد.))فنقول بأنّ خطابَ التسامح أَوْلى بأن يَسودَ ويتأصَّل في خطبِ الجمعة لا خطابَ الكراهية ، ولنا الكثيرُ من النصوصِ الشرعيةِ الداعيةِ والمؤسِّسةِ للتسامح والمحبة والتعايش بين شعوب العالم كما في حديث :((ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان،ولا الفاحش ولا البذىء)).فلماذا ،إذن، يتمّ تجاهلُ مثلَ هذه النصوص التي تفيض رقياً وتحضّراً ،على حساب نصوص أخرى أَتَتْ في سياق تاريخي وثقافي غيرِالذي نحياه؟ لا نستغرب ما وصلت إليه مجتمعاتُنا الإسلاميةُ من تنامي التطرّف و التشدّد، فقد تغلغلت فيها كراهيةُ الآخر وأصبحت غِلظةً نحوه،لا بل صارت عند بعض الجماعاتِ إباحةً لدمه و ماله.كما لا نستغرب انضواءَ آلاف المسلمين،خاصّة الشباب،تحت راية ما يسمّى الدولة الإسلامية نظراً لما مثّلتْهُ من تجسيدٍ وتطبيقٍ لمشاعر الكراهية ؛فما كان نصّاً يَلعَنُ صار حِقداً يُمارسُ على الأرض تقتيلا وإبادةً للمخالفين . من اللازم والضروري على القائمين على الشّأن الديني وخطباء الجمعة أن يَعُوا ما لخطبهم من جَليلِ التأثير، فَيَعمَلوا على الرّقي بمحتواها النبيلِ عن مُجرّدِ اللّعنِ والدّعاءِ على الآخرين، وأن يجعلوها نفحةً من التّسامي الرّوحيِّ وروضةً من رياض المحبةِ ، حيث تَعلو نفوسُ المسلمين مع علوِّ الخِطابِ وجَمالِهِ.