لاشك أن عشيرة الفنانين من أعقل الناس في المجتمع، وفي نفس الوقت ليست عشيرة مثالية إلى درجة "الطوباوية"، فهي لا تضم كائنات من حرير، فكيفما كان الحال هي عشيرة كسائر العشائر (طوب وحجر) لكن ما يميزها هو أن سكانها يملك أغلبهم عواطف وأحاسيس مرهفة، وهنا مربط الفرس، فالإحساس الرقيق، لايبرر أبدا ما صار يعرفه الحقل الفني بالمغرب من تبادل للشتائم والسباب في ما بين بعض فنانينا، وصل إلى حد (التعاضض) بدل (التعاضد). ولعل أغلب القراء اطلعوا في الصحف الوطنية والمواقع الالكترونية وصفحات الفيسبوك، على بلاغ شديد اللهجة أصدره مسرحيون ضد وزير الثقافة بنسالم حميش، الذي بسبب شحه الشديد يجد نفسه في كل مرة وحيدا، آخرها الدورة ال13 لمهرجان المسرح بمكناس، رفقة فنانين قلائل اختاروا المشاركة بدل المقاطعة. وليس هذا هو البلاغ الأول الذي "يتعاضض" فيه الفنانون في ما بينهم فقبل سنتين، إن لم تخن ذاكرتي الضعيفة، أصدرت النقابة الحرة للموسيقي، بلاغا (خايب) أطلق فيه مصطفى بغداد، النار على أحمد العلوي رئيس نقابة المهن الموسيقية، اتهمه فيه بانتحال الصفة وهضم مستحقات الموسيقيين، كما حملت عبارات البلاغ انتقادا لاذعا لحصيلة مشروع التغطية الصحية.. ولعل الجمهور المغربي، لايصدق أن ينشب صراع بين قبيلة الفنانين، لأنه -على سبيل النكتة- لا يمكن أن نتخيل أن يتحول ناي كان يعزف ألحانا جميلا إلى سكين أو شاقور (يشلخ) به فنان رأس صاحبه، أو أن يتحول عود كان يعزف ألحانا جميلة في يد موسيقار موهوب إلى "هراوة" يهوي بها على جمجمة زميل له، أو تتحول ريشة في يد فنان تشكيلي يبدع بها لوحات زيتية رائعة إلى مخالب أو شفرة حلاقة يشوه بها ملامح وجه زميل له.. لكن يبدو أن هذه الصورة الكاريكاتورية، بدأت تحقق على أرض الواقع بسبب سياسة الوزير صاحب رواية (مجنون سمية)، التي وصفها (السياسة، وليست سمية) أحد الفنانين ب(السياسة القذافية)، وهكذا صرنا نتابع بألم شديد، كيف بدأ يؤذي الفنانون المغاربة بعضهم بعضا، وما يزيد في الحلق غصة هو أن فناني المغرب "قْلال، وما فيهم ما يتفرق"، فضلا على أن البعض منهم يُعاني إن على المستوى المادي أو الرمزي، ولا أحد يلتفت إليه بسبب أن مفهوم الفنان في إطاره الحقيقي لم يتجذر بعد في وعي مجتمعنا المغربي بشكل مطلوب، رغم ما يبذله بعض الغيورين على الميدان من جهود مشكورة. فهل ما ينقص الفنان المغربي هو الانقسام وتبادل الاتهامات؟ لا أبدا، إذ يكفي أن تنقسم شخصيته إلى شطرين، فهو تارة يحس بأنه صار نجما كلما تحلق حوله معجبون أومعجبات، وينتشي بصورته المنشورة في وسائل الإعلام، وتارة أخرى تنتابه حالة نفسية يشعر خلالها بالاكتئاب خصوصا وأنه شخص حساس يشتغل بكل ما يرتبط بالعواطف الإنسانية، وهكذا تزداد معاناة بعض الفنانين (غير الوصوليين طبعا)، عندما يُعاني الواحد منهم المزيد من التهميش والإقصاء، وكل ذنبه أنه آمن بالمثل الدارج القائل "جُوعي فكرشي وعنايتي فراسي"، وكان ضروريا أن يُؤدي الثمن، ولم تشفع له شهرته ولا إبداعه في الحصول على حماية اجتماعية، ولولا تدخل الملك لمات مشردا في الشوارع. ومن باب الإنصاف، وليس المصالحة طبعا، يمكن القول أن الفنان المغربي بدأ يستبشر خيرا بظهور مبادرات يتمنى أن تساهم في تعويضه عن نصف قرن من التهميش والظلم، فقد كان له هو الآخر سنوات الرصاص من نوع خاص، عانى بسببها ولايزال سواء من طرف الدولة أو من بعض زملائه (من ذوي القربى) الذين يملكون شققا فاخرة وسيارات كثيرة وأرصدة مهمة في الأبناك.. إن الفنان المغربي يعاني التهميش أقله استثناؤه من برمجة المهرجانات التي تُقام هنا وهناك، حيث يتم تبذير الأموال الطائلة على فنانات هز البطون اللواتي تمتلأ بهن القنوات الفضائية، و يتم تهميش مطرب الحي بدعوى أنه لا يطرب، كما يقول المثل المعروف.. فمتى تتم إعادة الاعتبار للفنان رمزيا وماديا، ومتى يتم تنظيف الحقل الفني بالمغرب من الطفليين الذين ميعوا "السوق الفني" ؟ ومتى يتفوق الفن المغربي في اختيار النغمة الصحيحة والوضع الصحيح ؟ ومتى يكف عن عزف مقطوعات موسيقية هي أقرب إلى النشاز منها إلى النغمة الصحيحة ؟ ومتى يصيح الفنان المغربي "سلا الطرح" بتعبير المخرج المسرحي عبد العاطي لمباركي، في اشتغاله على النص المسرحي (نهاية اللعبة)، لصمويل بيكيت ؟ إن الميدان الفني بالمغرب يحتاج فيما بين الأسرة الفنية إلى التعاون، والتعاضد بحرف "الدال" وليس بحرف "الضاد"..