في السادس من دجنبر في كل سنة يحتفل الإسبان بيوم الدستور، وهو يوم عطلة إدارية منذ سنة 1983، رغم أن الاستفتاء العام على الدستور نظم سنة 1978. احتفال يعكس القيمة الاعتبارية التي تكتسيها هذه الوثيقة التشريعية بإسبانيا. وهي قيمة لا يثمنها إلا الجيل الذي عاشها وعاش معها سنوات طويلة من الديكتاتورية في العهد الفرانكوي. صحيح أن دستور 1978 هو ثامن دستور في التاريخ الحديث لإسبانيا، منذ دستور 1812 المعروف بدستور قادس الذي جاء كمحاولة لجمع الشمل الإسباني ردا على الأطماع التوسعية لنابليون بونابارت؛ غير أن ظروف آخر الدساتير يختلف من حيث ظروفه عن الآخرين، بحيث إنه كان فاصلا في تحديد مستقبل إسبانيا نحو الانتقال الديمقراطي. فبعد وفاة فرانكو في 20 نونبر 1975 تم تعيين خوان كارلوس ملكا ورئيسا للدولة بعد يومين أي في 22 نونبر 1975، وكانت رئاسة الدولة حينها تعمل حسب القوانين الفرانكوية. ورغم أن خوان كارلوس في قسم اعتلاء العرش أقسم بتطبيق مبادئ الحركة الوطنية "الموبيمينتو" إلا أنه بادر إلى تنفيذ مخططه الرامي إلى تحويل إسبانيا إلى ديمقراطية برلمانية. وكان أول إجراء قام به هو الضغط لاستقالة كارلوس أرياس نافارو رئيس الحكومة آنذاك الذي كان يمثل استمرارا للفرانكوية، وقد نجح في ذلك بحيث استقال نافارو في 01 يوليوز 1976 وتم تعيين أدولفو سواريث ذي الثلاثة والأربعين سنة على رأس الحكومة في 03 يوليوز. ومن حينها بدأ الاثنان الاشتغال على الانتقال الديمقراطي بتعاون مع بوركواتو فيرنانديث ميراندا الذي كان آنذاك رئيسا للكورتيس الاسباني والمشهور بشعاره خلال فترة الانتقال الديمقراطي: " من القانون إلى القانون بالقانون". غير أن الاشتغال على نص الدستور لم يتأتى إلا بالتوافق بين جميع القوى السياسية اليسارية منها واليمينية والوسطية، الوطنية والجهوية، وحتى تلك التي كانت لديها نزعة جمهورية. وقد أسندت مهمة صياغته لسبعة شخصيات تنتمي إلى مختلف الأطياف السياسية البارزة آنذاك وهي: غابرييل سيثنيروس لابوردا عن اتحاد الوسط الديمقراطي؛ مانويل فراغا إريبارني عن حزب التحالف الشعبي؛ ميغيل هيريرو رودريغيث دي مينيون عن اتحاد الوسط الديمقراطي؛ جوردي صولي تورا عن الحزب الإشاراكي الموحد بكاطالونيا؛ خوصي بيدرو بيريث يوركا رودريغو عن اتحاد الوسط الديمقراطي؛ ميكيل روكا إيجونيينت عن حزب العهد الديمقراطي من أجل كاطالونيا؛ غريغوريو بيثيث باربا عن الحزب الإشتراكي العمالي الإسباني. لكن الاحتفال بيوم الدستور هذه السنة لم يكن عاديا، خاصة وأن إسبانيا عاشت خلالها حالة خاصة في مسلسلها الديمقراطي ألا وهي إعادة الانتخابات العامة وتكوين حكومة أقلية. وطوال الفترة الممتدة من 20 دجنبر 2015 إلى اليوم، طرحت مسألة إعادة النظر في الدستور الاسباني غير ما مرة. وتختلف درجة تعاطي السياسيين مع فكرة الإصلاح الدستوري بين من جعلها جزءا من البرنامج الانتخابي للحزب ويرى فيها ضرورة قصوى لترسيخ الديمقراطية الحقيقية مثل حزب بوديموس (نستطيع)، وبين من يرى أن صلاحية الدستور مازالت مستمرة وإن كان لا يرفض تغيير بعض بنوده إذا دعت الضرورة إلى ذلك، خاصة مسألة الوريث الذكر للتاج الإسباني وإدراج أسماء الحكومات المستقلة في نص الدستوركما هو الشأن بالنسبة للحزب الشعبي. غير أن المسألة الأكثر حساسية في تطرق بعض الأحزاب للإصلاح الدستوري هي تلك المتعلقة بنظام الجهات أو الحكومات المستقلة، وخاصة جهة كاطالونيا التي أسالت العديد من المداد وكانت في صلب النقاش طيلة دورات التصويت على مرشح رئاسة الحكومة في البرلمان، سواء أثناء الانتخابات الأولى أو الثانية. فالحزب العمالي الإشتراكي يرى أن التغيير الدستوري يجب أن ينصب على إرساء نموذج فيدرالي للجهات ويستبعد إقامة استفتاء لاستقلال كاطالونيا. في حين نجد أن حزب ثيودادانوس (مواطنون) كان قد وضع في برنامجه الانتخابي بعض المقترحات المتعلقة بإصلاح الدستور، خاصة المرتبطة بالمدة القصوى لرئاسة الحكومة التي يقترح تحديدها في ولايتين (8 سنوات)، وكذا عدم تسييس المحكمة الدستورية وإنشاء جهاز قضائي خاضع للتصويت الشعبي المباشر وهو مطلب يتقاسمه مع بوديموس وااليسار الموحد، ثم تخفيض توقيعات المبادرات التشريعية الشعبية من 500.000 توقيع إلى 250.000. أما حزب بوديموس، وهذه هي نقطة الخلاف بينه وبين الحزب العمالي الاشتراكي، يذهب إلى حد القول بضرورة منح الفرصة للكاطالانيين لتقرير مستقبلهم بأيديهم، وهو موقف أقل حدة من حزب اليسار الموحد الذي ينادي بحق كاطالونيا في تقرير مصيرها، في حين يشدد بوديموس على ضرورة تحصين الحقوق الاجتماعية في نص الدستور وعدم المساس بها تحت أية طائلة وهي كذلك نقطة يتوافق فيها مع ثيودادانوس واليسار الموحد. ومهما كانت دواعي هذه المقترحات الإصلاحية للدستور، والتي يمكن إدراج البعض منها في خانة الخطابات الانتخابية، فإنها تعكس مدى الحركية السياسية التي تعرفها إسبانيا رغم التعثر الكبير الذي عرفه تشكيل الحكومة الأخيرة. وواقع الحال يقول بأن عهد الثنائية الحزبية قد انتهى، وأن الأحزاب الجهوية بدورها بدأت تقول كلمتها، وأن بعض الشعارات التي رفعت في مظاهرات حركة 15 مايو بدأت تسمع في قبة البرلمان الإسباني. غير أن بعض هذه الخطابات، خاصة المتعلق منها باستقلال بعض الجهات، لا تعكس آراء غالبية المواطنين الإسبان، فالحزب العمالي الإشتراكي والحزب الشعبي وثيودادانوس يتقاسمون الوعي بضرورة الحفاظ على الوحدة الوطنية لإسبانيا وعدم إخضاع الدستور الإسباني للمزايدات السياسية والطروحات الانفصالية والعمل على أن تتسع إسبانيا للجميع. يحتفل الإسبان إذا بالذكرى الثامنة والثلاثين من إقرار الدستور، وهو يوم لم يحتفل به جميع الإسبان بحيث إن 300 بلدية إسبانية لم تتوقف عن العمل ولم تعتبره يوم عطلة، وتغيبت عن حضور الحفل، كما هو معتاد، أحزاب المعارضة التقليديون وانضاف إليهم في هذه السنة بابلو إيغليسياس وإريخون الأول والثاني في حزب بوديموس على التوالي، رغم أن الحزب كان ممثلا في حفل مجلس النواب؛ وقد بدأ الحديث عن ضرورة إصلاح الدستور لما أثبتت التجربة الديمقراطية الاسبانية أن بعض النقائص تشوبه. فهل سيتمنع راخوي في الإقدام على هذه الخطوة التي لا تخلو من صعاب؟ أم أن منطق الديمقراطية سيفرض نفسه وسيتم فتح نقاش وطني لإصلاحه؟. ففي يوم السادس من دجنبر 2016، في خضم الاحتفال، وبعد ثمانية وثلاثين سنة، سيكرر كل من رئيس الحكومة الحالي، ماريانو راخوي، ورئيسة مجلس النواب الإسباني آنا ماريا باستور، ما يشبه شعار بوركواتو في ذكرى يوم الدستور بمجلس النواب الإسباني، أن لا شيء سيتم خارج إطار الشرعية، ولن يتم إصلاح الدستور إلا إذا كانت هناك فعلا دواعي منطقية وضرورية لذلك. *أستاذ جامعي