سألتني التلميذة: - ما هو السبب الذي جعلك "تنتبهين" للحيف الموجه إليك باعتبارك امرأة؟ أجبتها بسرعة : "الدرّاجة". لا أدري كيف خرجت من فمي كلمة "دراجة" هكذا معزولة، مكتفية بذاتها وحاسمة... يبدو أنها كانت دائما هناك تتحيّن فرصتها التاريخية لتتحرر من عقالها... كنت في تلك الأثناء أشرب بعيني مشهد التلميذات المراهقات الرائق أمامي في أوضاعهن المسترخية على مقاعدهن الدراسية، بأجسادهن الحرة بسراويلهن الجينز وأحذيتهن الرياضية، بشعورهن الحرة أو المعتقلة تحت خرق ملونة، بمظهرهن الذي يكاد ينتفي فيه الفارق الجنسي مع زملائهن من الأولاد. ذكرنني بهيأتي وأنا في مثل سنهن وتذكرت "غضبي الوجودي" الذي تفجر ذات مساء بسبب واقعة الحيف الأول الذي تعرضت له عندما دخل أبي دافعا أمامه درّاجة جديدة حمراء وصرخت من شدة الفرح وعانقته معتقدة أنها لي مقابل نتائجي الممتازة التي تفوق بكثير نتائج إخوتي الذكور. تذكرت جواب أبي الذي نزل علي كالماء البارد: "الدراجة لأخويك وليست لك". الدرّاجة لم تكن فقط الحيف الأول والغضب الأول بل كانت أيضا الشرارة الأولى والوعي الأول الذي فتح عيني على الحقيقة: أنت أنثى وذلك ليس أمرا مريحا بالمرة في المجتمع الذي قذفت فيه. بعد ذلك سيظل "الغضب الوجودي" يبحث لنفسه عن صوت ليصرخ من خلاله... سيمر عبر أشكال كثيرة من الصراخ قبل أن يعثر على الكتابة ويستقر في صخبها الصامت. عندما نطقت كلمة درّاجة شعرت بحركة ما تمر مثل رعشة وسط البنات ثم تتحول بسرعة إلى نظرة تواطؤ تتوقف في عيونهن الجميلة وأنا أخبرهن وقد استبدت بي حالة من البوح، أن واقعة الدراجة ستحرمني وللأبد من الخفة التي تجعل الناس يعيشون بسلام داخل أجسادهم... أخبرتهن أنني ومنذ ذلك الوقت وجدت نفسي أحمل قضية ثقيلة ومستعصية لا أستطيع أبدا أن أضعها جانبا وأمضي، اسمها قضية النساء. أخبرتهن أنني إن كنت فعلا أومن بشيء فإنني أومن بعدالتها... لم أقل لهن أن الدراجة الحمراء ستظل في ذاكرتي مع ذلك حيفا "مضيئا" داخل عتمة منظومة الظلم العتيدة التي سأكتشفها فيما بعد، لم أخبرهن أنني سأكتشف وأنا أتقدم في السن وأتقدم في الوعي وأتقدم في الغضب، أن الحيف قانوني وثقافي وديني واقتصادي وسياسي، أردت أن أتركهن يكتشفن الحياة بمفردهن فربما يفهمن كما فهمت أن قوة التجاذب الطبيعي بين الرجال والنساء توازيها قوة تنافر ثقافي في مجتمعات تخاف من الجسد الأنثوي وتقدس القضيب وتدنس اللذة... نظرت إليهن وسمعت نفسي أقول: - إنه مجرد حق طبيعي حقنا البسيط مثل جميع كائنات هذه الأرض في امتلاك أجسادنا وعقولنا وأحلامنا... وكما طفت كلمة "دراجة" فجأة قادمة من مكان قصي في الذاكرة سوف تصعد وبنفس السرعة تلك الرسالة المؤلمة التي تركتها الإيرانية ريحانة جباري فوق الطاولة لتصفع بها وجه البشرية وتوبخ بها ذكورية هذا العالم الذي قدفت فيه بالخطأ... رسالتها لأمها قبل أن تتوجه إلى مقصلة الإعدام، تذكرت جملتها التي تقول المأساة و تختصر الألم: "لم يحبّنا العالم" صحيح ريحانة... لم يحبنا العالم رغم أننا أحببناه.