بعد اكتساح ليسوتو بسباعية.. "الأسود" ينهون تصفيات "الكان" بالعلامة الكاملة    أسرة الأمن الوطني تحتفي بأبنائها المتفوقين دراسيا ورياضيا وفنيا    جوائز الكاف 2024: أشرف حكيمي ضمن المرشحين الخمسة للفوز بلقب أفضل لاعب إفريقي للسنة    نشرة إنذارية: زخات رعدية قوية مصحوبة بهبات رياح عاصفية في عدد من أقاليم المملكة    افتراءات وزير سابق عن المغرب وفرنسا وإسبانيا وأمريكا في قضية الصحراء    الشرادي يكتب : عندما تنتصر إرادة العرش والشعب دفاعا عن حوزة الوطن وسيادته        شريط سينمائي يسلط الضوء على علاقات المملكة المغربية والولايات المتحدة منذ مستهل التاريخ الأمريكي    حالة ان.تحار جديدة باقليم الحسيمة.. شاب يضع حد لحياته شنقا    بمناسبة عيد الاستقلال.. توزيع حافلات للنقل المدرسي بإقليم الحسيمة    العراقي محمد السالم يعود لجمهوره المغربي بحفل كبير في مراكش    إنقاذ سائح وزوجته الألمانية بعد محاصرتهما بالثلوج في أزيلال    مصرع 4 أشخاص في حادث سير مروع    المغنية هند السداسي تثير الجدل بإعلان طلاقها عبر "إنستغرام"    مجموعة العشرين تعقد قمة في البرازيل يطغى عليها التغير المناخي والحروب وانتخاب ترامب    تصعيد الأطباء يشل الحركة في المستشفى الحسني والمراكز الصحية بالإقليم        الحزب الحاكم في السنغال يستعد للفوز    بريطانيا تفرض عقوبات جديدة ضد إيران    الفرحة تعم أرجاء القصر الملكي غدا الثلاثاء بهذه المناسبة        دراسة: البحر الأبيض المتوسط خسر 70 % من مياهه قبل 5.5 ملايين سنة    رابطة ترفع شكاية ضد "ولد الشينوية" بتهمة الاتجار بالبشر    هذه هي المنتخبات التي ضمنت رسميا التأهل إلى "كان المغرب" 2025    أجواء غير مستقرة بالمغرب.. أمطار وزخات رعدية وثلوج ابتداءً من اليوم الإثنين    جائزة ابن رشد للوئام تشجع التعايش    فتح باب الترشح لجائزة "كتارا للرواية العربية" في دورتها الحادية عشرة    انطلاق مهرجان آسا الدولي للألعاب الشعبية وسط أجواء احتفالية تحت شعار " الألعاب الشعبية الدولية تواصل عبر الثقافات وتعايش بين الحضارات"    محامي حسين الشحات: الصلح مع محمد الشيبي سيتم قريبا بعد عودته من المغرب    المغرب يستضيف الملتقي العربي الثاني للتنمية السياحية    مركز موكادور للدراسات والأبحاث يستنكر التدمير الكامل لقنطرة واد تدزي    المغرب يرسل أسطولا إضافيا يضم 12 شاحنة لدعم جهود تنظيف قنوات الصرف الصحي في فالنسيا    تزامن بدلالات وخلفيات ورسائل    الكرملين يتهم بايدن ب"تأجيج النزاع" في أوكرانيا بعد سماح واشنطن باستخدام كييف أسلحتها لضرب موسكو    فاتي جمالي تغوص أول تجربة في الدراما المصرية    ملعب آيت قمرة.. صرح رياضي بمواصفات عالمية يعزز البنية التحتية بإقليم الحسيمة    فرنسا تقسو على إيطاليا في قمة دوري الأمم الأوروبية    بني بوعياش وبني عمارت على موعد مع أسواق حديثة بتمويل جهوي كبير    "غوغل" يحتفل بالذكرى ال69 لعيد الاستقلال المغربي    المغرب يفتح آفاقاً جديدة لاستغلال موارده المعدنية في الصحراء    تنظيم النسخة 13 من مهرجان العرائش الدولي لتلاقح الثقافات    بعد صراع مع المرض...ملك جمال الأردن أيمن العلي يودّع العالم    مجلس الأمن يصوت على مشروع قرار يدعو إلى وقف النار في السودان    وقفة احتجاجية بمكناس للتنديد بالإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة    مزاد يبيع ساعة من حطام سفينة "تيتانيك" بمليوني دولار    المغرب يخنق سبتة ومليلية المحتلتين ويحرمهما من 80% من نشاطهما الجمركي    ارتفاع أسعار النفط بعد تصاعد حدة التوتر بين روسيا وأوكرانيا    تراجع النمو السكاني في المغرب بسبب انخفاض معدل الخصوبة.. ما هي الأسباب؟    خبراء يحذرون من "مسدس التدليك"    شبيبة الأندية السينمائية تعقد دورتها التكوينية في طنجة    دراسة علمية: فيتامين "د" يقلل ضغط الدم لدى مرضى السمنة    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    حشرات في غيبوبة .. "فطر شرير" يسيطر على الذباب    دراسة تكشف العلاقة بين الحر وأمراض القلب    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مؤسسة ياولدي
نشر في هسبريس يوم 24 - 11 - 2016


ميلاد حزين
بقرية نائية شبه معزولة وسط أدغال بالقرب من تازوطا ؛ التابعة لعمالة صفرو . لم يكن هناك ما يربطها بالعالم الخارجي سوى طريق جبلي صخري منعرج أشبه بأفعوان يطوق جبلا غابويا هناك ؛ تسلكه قوافل البيكوبات وشاحنات مهترئة محملة بالسوقة والشياه في طرقها من وإلى صفرو ..
كانت نظراتها تائهة في غور سحيق ؛ تترقرق مياهه في ضوء أشعة شمس ذلك الصباح البارد ، بين فينة وأخرى كانت تقذف بسؤال إلى السائق : - " هلا اقتربنا من صفرو ..؟ "
= " أمامنا هذا السفح .. لنلج الطريق الرئيس .." .. لم تتمالك حادّة أن شعرت بدوار حاد ومغص يعصتر أحشاءها ، فناولها كيسا من البلاستيك كعادته مع كل الركاب الذين ينوون اجتياز هذه الأصقاع بصحبته داخل مزمجرته "لابان" كما يدعوها الأهالي .
- " لا .. أنا .. أنا ..حا .. "
قاطعها وعينه على جدول جار يخترق طريق الشاحنة :
= " .. أعلم .. أنك حامل .. هوّني على نفسك .. سندخل المدينة بعد قليل .." كان يتحدث إليها ممسكا بمقود كبير بكلتي يديه وهو يهتز في مقعده ، والشاحنة تترنح ، وهي تشق طريقها وسط مياه جارفة ؛ محملة بالحصى وجذوع أشجار نخرة .
بعد أن لاحت لها من بعيد معالم أبنية المدينة ، تماسكت وأخذت تمرر كفها على جبينها الندي ، في حين اكتسحت عينيها حمرة بادية ، فعاودها الغثيان مصحوبا بصداع أفقدها وعيها بالمرة ... لم تسترجعه إلا بعد أن فتحت عينيها لتجد نفسها في سرير جوار مولودها ، يملأ الغرفة صراخا وأنينا . تأملته في صدرها وهي تحاول إرضاعه والدمع يغالب جفونها . استندت على شقها الأيسر حاضنة لابنها ، وما هي إلا لحظات حتى راحت في نوم عميق !
أينك ياولدي ؟!
حلت وجبة الفطور ، فسارعت إحدى الممرضات إلى إيقاظها وسط لغط وصراخ الرضع ؛ تزدحم بهم قاعة هناك صحبة والداتهم . استيقظت مذعورة وهي تحملق في مكان وليدها الشاغر !
= " ولدي .. ولدي .. ولدي " . ممرضة تقترب منها : " ... ربما نقلوه للفحص .. الآن حل وقت مغادرتك المستشفى .. أنا فقط مكلفة بأسرة الولادة .. يمكن لك أن تتصلي بجناح الفحص .. هذه ثيابك التي أتيت بها .."
كلما ولت وجهتها عند جناح هناك إلا وتبرأ من المسؤولية ، وأحالها على جناح آخر ... قضت صباحها تهرول بين الأجنحة وغرف المستشفى مولولة حينا وصارخة أخرى : " .. أينك ياولدي ؟! "
رثى لحالها أحد الحراس .. تقدم ورجاها بإيداع نسخة من بطاقتها الشخصية ووعدها بإخبار شيخ القرية في حالة العثور على وليدها ثم غادرت منكسرة الجوارح ، ولم تصدق بعد أنها وضعت وليدها وسرقوه منها .
الرضيع في أيد أمينة
في جنح الليل وفي ضوء خافت ، تسلل شخص مقنع إلى حيث حادة ترقد بجوار وليدها .. فدثره بملاءة وخرج من بوابة خلفية هناك أفضت به مباشرة إلى سيارة كانت في انتظاره . داخلها نزع قناعه فإذا هو امرأة في عقدها الرابع ، التفتت إلى المرأة السائقة : - " .. إنه نائم .. " . أومأت إلى امرأة محجبة كانت قاعدة خلفها : = " .. حليبه يوجد في علبة هناك .. دعيه ينام .. أمامنا نصف ساعة ، لندعه في غرفته .. " وقبل أن تصك الباب بتوأدة ناولت المرأة رزمة مودعة إياها بهذه العبارة : " الله يكثر خيرك .. وسرنا يبقى مدفونا " . تحركت السيارة باتجاه فيلا ؛ متوارية وسط أشجار الصنوبر فبدت وكأنها قلعة حصينة . سارع الحارس إلى الضغط على زر لينفتح باب سرداب يؤدي إلى طابق سفلي ؛ اعتادت الحاجة بهية استخدامه كلما تأخرت ليلا ، لتتحاشى جلبة نباح كلابها الأربعة ... وبعد أن اطمأنت على الرضيع في غرفة خاصة ، ولجت غرفتها وتجردت من عقالها ، وجعلت تتأمل تقاسيم وجهها أمام مرآة من البلور الخالص ، كانت في سن الأربعينيات ممشوقة القوام ذات نظرات حادة ، خالطت شعرها الكستنائي خصلة فضية لامعة أكسب وجهها صرامة وهيبة لا تقاوم ، كم من عامل ارتعدت فرائصه وهي تقف إلى جواره لتستطلع نشاط المعمل الذي تديره منذ أن توفي زوجها لأزيد من عشر سنوات .
عادت إلى الغرفة المجاورة وجعلت تتفرس وجه المولود في ظل شعاع خافت ألقى به فانوس كان منصوبا هناك بأحد زوايا الغرفة ... أيقظت المربية لتسر في أذنها : ** " سأهتم بك بمقدار اهتمامك به ... ناديه رضوان ... رضوان " بعدئذ دلفت إلى غرفتها وارتمت في سريرها لتستسلم إلى نوم عميق ...
* * *
حادة تطلق علاقتها بالسكان
انتشر خبر اختطاف وليد حادة بين أهالي قريتها الذين ما زالوا يتداولون مقتل زوجها بالغابة ؛ مقتل ظل يلفه الغموض لشهور خلت ، وإن كانت بعض الأقوال ترجح اعتراض سبيله من قبل قطاع الطرق وهو يهم بنقل كيس من الحشيش إلى جهة مجهولة .
كانت حادة في جميع أماسي السوق الأسبوعية ، أول من تستقبل شاحنة السوقة ، علها تظفر بخبر سار عن وليدها ... مضت الأسابيع والشهور وهي على حالها ، حتى صار السوقة يتحاشوا رؤيتها ويشيحون بوجوههم عنها ، ومنهم من يحولق في أعماقه ومنهم من يصفق لسانه بكلمة اللطيف ... حتى اعتادوا على رؤيتها وهي تعبر إلى الغابة كئيبة بخطوات مثقلة هائمة لا تلوي على شيء ، بين فينة وأخرى تطلق صرخاتها لتردد صداها الشعاب والقمم المجاورة : = " .. أينك ياولدي ...؟ !" فتشرأب الأعناق من خلف الأبواب وتتنصت الآذان وتتمتم الألسنة " .. مسكينة إنها حادة الحمقاء ... !"
* * *
الرضيع رضوان
كرست الحاجة بهية شطرا من أوقاتها لإصباغ كامل حنوها ورقتها وحدبها للرضيع رضوان ؛ تحرص على حضور وجبات إرضاعه وهدهدته في أحضانها .. وأحيانا كثيرة تتأمله وهو يغنو ويترنح في مشّايته تتحرك به الهوينا بمدرج معشوشب يخترق حديقتها ذهابا وأيابا بواسطة جهاز التحكم اليدوي Stroller Command جلبتها من أمستردام . ولكم كانت سعادتها في ذروتها وهي تلاحظ رضوان يتتبعها بنظراته شبه النائمة كلما هدهدته ولمست بشرته الناعمة انتفضت جوارحه وصدرت منه نغنغات تهفو إليها الحاجة بهية بجميع جوارحها ، لتنسيها مشاقها في المعمل وتشعرها بنوع من الأمان الذي غادرها منذ رحيل زوجها الألماني Buce .
المرأة صاحبة القناع
قعدت سكينة لوحدها ترثي لأحوالها التي ساءت بعد فصلها عن العمل ، وهي لم تكن سوى منظفة بالمستشفى غير مدرجة في أي قانون خدماتي . كانت مطلقة تأوي إلى بيت مع الجيران ، كثيرا ما تتراءى لها فعلتها وهي تحاول جاهدة طردها بين ناظريها بإدمانها على شرب الدخان . ساورتها نفسها أن تستطلع أخبار الحاجة بهية التي تعاقدت معها على إقبار السر ... إنه لزمن طويل مر على الحادث ، فهل زالت بإقامتها الأولى أم رحلت ... ماذا عسى أن يكون حل بذلك الوليد ؟ ..وهل ... لم تطق الاسترسال في تأنيب الضمير لها فقررت الذهاب إلى فاس لتستعطفها عن شغل بالمعمل .
وفي وقت مبكر حلت بالموقع ، واتجهت توا إلى بواب الفيلا : + ".. سيدي .. هلا دعوت لي الحاجة .. أنا راغبة في ملاقاتها لأمر هام "
++ " .. ومن تكونين ...؟ " صرخ في وجهها وهو يتأمل سحنتها من أم رأسها إلى أخمص قدميها .
+ " .. أنا سكينة العاملة بالمستشفى سابقا .." ++ " .. سأبلغها بالأمر ‘إن كانت في غرفتها .. وإلا " .. قاطعته + " ..وإلا ... ماذا سيدي ..؟ " ++ " وإلا ستكون غادرتها إلى المعمل من الباب الخلفي .. انتظري .."
وما زالا كذلك ، إذا بسيارة فخمة تتوقف بالباب ، ترجل منها سائقها الذي بدا غلاما يافعا بشعر أشقر أخذت الرياح تداعب بعضا من خصلاته على ناصيته .. فتقدم من المرأة يسأل : *** " من تكن هذه ..." ++ ".. تقول إنها قادمة لتوها من صفرو .. اسمها سكينة " ولسماعها بهذا الاسم نزلت بسرعة متوجهة إلى ابنها رضوان : * " .. طيب .. طيب .. عد أدخل السيارة إلى الجراج سأنظر في الأمر " ... تقدمت منها الحاجة بهية ، وقد عرفتها من تقاسيم وجهها والندبة البادية على خدها الأيمن :
* " ..آشريفا ... لاباس .. ياك لاباس .."
+ " ..حدثتني نفسي أن أزورك .. بعد مدة غياب طويلة ..أتذكرين سيدتي .. تلك الليلة .. "
قاطعتها بصرامة بادية * " ..لا أذكر .. لا بأس .. أترغبين في شيء ..؟ "
+ " .. سيدتي لقد فصلوني منذ مدة عن العمل .. وأنا الآن ..أ "
* " .. أعلم .. إذن ترغبين في شغل ..؟ طيب ..عودي إلي بعد شهر .. فأنا منشغلة هذه الأيام ، تخابري مع البواب ..هيا ..سيكون خيرا .." ولّت سكينة أدبارها .. وعقدت عزمها على أن تعود لزيارتها ..
* * *
رضوان على موعد مع المستقبل
انفردت بطاولة في ركن من حديقتها ، تتأهب كعادتها لتناول وجبة فطورها ، فإذا برئيسة الخدم تحمل الصينية وهاتفها النقال الذي كان يرن : * " .. نعم .. آلو .. نعم أنا والدته .. يس .. فانكيو .. رجاء .. غود باي "
ما إن وضعت الموبايل حتى رمقت رضوان قادما من بعيد فاغرورقت عيناها بالدموع . ناداها : *** " ياأحلا أم في الدنيا .. صباحك سعيد .." دنا منها وقبل رأسها ويديها الإثنتين.. فلم تتمالك أن قالت والدمع يغالبها: *" ..لا أدري آفرح أم أترح للخبر الذي جاءني للتو من نيويورك .."
*** " ..أمي .. أمي .. ماذا دهاك .. قولي ما الذي .."
* " .. أفادوني بأن المعهد لعلوم الجينات قبِل بانضمامك للدراسة هناك .."
*** " .. وما يعكر مزاجك .. ويستدر دموعك بهذه الغزارة .. العالم قرية آخذة في الصغر .. سأحرص على مشاهدتك كل حين .. وأعدك بحصد الدرجات العليا ؛ كما عهِدتني منذ سنوات .."
* " .. أعلم .. أعلم .. لكن كنت أنيسي في غربتي .. آمل أن تظل .."
*** " .. سأظل بقربك .. أتعلمين ماما إن وسائل التواصل جد متطورة .. سنتحادث دوما .. فلا تتشاءمي "
قبلها وحمل الموبايل *** " ..هل الكل تمام .. والسلعة التي كانت مقررة أن تصل .. وصلت .. طيب الحاجة تثني على عملكم ، وقد أمرتني أن أصرف لكم علاوة في رواتبكم .. نعم ؟ .. 200 ده .. وأعانكم الله "
راداوي بأمريكا
بعد انصرام شهر على حلوله بأمريكا ، أحس رضوان بوجوده في بيئة أخرى وعالم آخر ؛ يحتدم فيه المال بالأعمال . مجتمع معرفي رقمي إلى أبعد الحدود ، لا وجود فيه للصدفة ، الكل خاضع لبرمجة دقيقة . تعرف إلى عدة أصدقاء زملاء المعهد من ذوي جنسيات مختلفة ، يستضيفونه من حين لآخر ليتعرف إلى عائلات أمريكية ثرية ممن حظوا بولوج هذا المعهد حديث العهد بتخصصه والفريد من نوعه في العالم ؛ والذي يمكن من التعرف إلى هندسة الجينات وتسلسلها داخل العائلة الواحدة خلف خمسة أجداد ، والتحكم في بذرها بأجسام أخرى ..
كان محبوبا وسط الأصدقاء ؛ ومن فرط مناداتهم له بالهاتف أو داخل أقسام الدراسة أطلقوا عليه إسما مختزلا Radawi بدل رضوان . لم تكف أمه لحظة عن تتبع أخباره ، واطلاعها على ارتقائه في مدارج الدراسة ، وكلما آوت إلى فراشها غازلتها فكرة بيع ممتلكاتها والانتقال إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتعيش بقية حياتها إلى جانب ابنها رضوان .
* * *
طارئ صحي سيغير مجرى الحياة
بينما كان ذات يوم منهمكا في أعماله المخبرية والإعداد إلى رسالته في الماجستير ، إذا بهاتفه يرن :
*** " .. نعم .. هو هذا ابنها رضوان .. ماذا ؟ ..متى ..كيف ..إغماءة ؟!..."
أقفل الخط ، واتصل مباشرة بشركة الطيران لحجز تذكرة سفر في أول طائرة متجهة إلى المغرب . وفي ظرف عشر ساعات مرت ككابوس مظلم لم يغمض له جفن وهو يعدو بين ردهات مطارات جون كينيدي وكازابلانكا وفاس سايس .
توجه مباشرة إلى المصحة ليجد في البوابة جوقة من بعض العاملين بالمعمل ، وأمارات الأسى بادية على وجوههم . خرج الطبيب الرئيسي ممتقع الوجه فلم تطاوعه أحاسيسه وهو يشيع وجوه الزوار بهذه العبارة : " ..البقاء لله .." ، وفي أثرها تحول الجناح إلى مأتم نواح .. وبكاء ..حينا وهتاف حينا آخر :أينك يابهية القلب .. راحت المرأة البهية .. الله يرحمها ؛ في حين كان رضوان مشدودا إلى أذرع العمال الذين وفدوا بكثافة .. كان قلبه يعتصر ألما وهو لم يحضر نزعاتها الأخيرة .
مضت على وفاتها عدة أسابيع ؛ خلالها كان العمال لا يفترون عن الحديث .. عن مناقبها وتمرسها بالعمل .. وقوة شكيمتها ، لكنهم ؛ وفي آن واحد ؛ يتناقلون بينهم في سرية تامة أمر عقمها وتربيتها لابنها رضوان بالتبني ، كما كشفت لهم امرأة اشتغلت بينهم لبعض الوقت تدعى سكينة العرجا القاطنة بصفرو .
وكان لرضوان أعين وآذان تحمل له كل شاذة وفاذة ؛ تطرأ على نشاط المعمل أو تجري على ألسنة العاملين . سكنته الهواجس والهواتف المؤرقة : لماذا ...لم تطلعه أمه على هذا السر ..؟ وهل الأمر يحمل في طياته جناية ؟ .. وأين هي أمه الحقيقية.. ياللهول !
فصمم على التوجه إلى المستشفى بصفرو ...
ولما دلف إلى مكتب المدير ، وقف هذا الأخير وبادره بتحية معتقدا أنه أمام مسؤول رفيع المستوى يحل بالمستشفى :
+++ " نحن في الخدمة سيدي .. هل هناك من أوامر أو طلبات ...؟ !"
رضوان بعد أن هدأ روعه : *** " .. أنا .. أنا .. أنا فقط .. أريد أن أعرف مولودا من مواليد هذا المشفى ؛ افتقدتموه ولم تعثروا له على أثر .. هلا ساعدتموني في إطلاعي على هذا الملف ؟ "
+++ " .. نعم ، سأحاول .. وإن كنت لا أتذكر مثل هذه الحالة .. على الأقل منذ تعييني على رأس هذا المشفى .." .
عمد إلى سجل ، وأخذ يقلب صفحاته ويتتبع بسبابته أسطره ... وبعد لأي توقفت سبابته ورفع رأسه متوجها إليه خافتا صوته :
+++ " ..عثرت على حالة .. وقعت بتاريخ .. بتاريخ 12/12/1981 أي منذ ثلاث وعشرين سنة .. مولود لأم تدعى حادة .. العطفا حادة ، جاءتنا من .. من قرية ازرع بالقرب من تازوطا .. هذا كل .. م "
*** " .. شكرا سيدي ... العطفا حادة هي .."
+++ " .. نعم هي والدته .. لكن سيدي هلا أطلعتموني من تكونون .. ومن أوفدكم إلينا .. هل هو تفتيش .. مراقبة .. م ؟ !"
*** " .. هون عليك ياهذا ... سأكشف لكم عن هويتي لاحقا .."
خرج رضوان ، تشيعه نظرات الاندهاش الممزوج بالخوف من قبل بعض العاملين هناك .. وأوعز إلى السائق بالتوجه إلى القرية ؛ وفي الطريق ؛ أخرج هويته ليقارن بينها وبين التاريخ المسجل بالمستشفى ، ليتأكد له أنه هو !.. هو المولود الذي تم اختطافه منذ 23 سنة !...
سرحت به التخمينات وصور تراجيدية شتى ، وهو يتأمل مشاهد تلك الأصقاع .. والغابات التي عبرتها أمه وهي حامل به !
ولشد ما ذهل أهالي القرية وهو يرمقون هذه السيارة الفارهة التي جنحت إلى قريتهم .. ترى هل ضلوا السبيل وهم عائدون من رحلة صيد ؟ ! ياللغرابة .. شاب .. بهذه الوسامة .. لا يشاهدون مثله سوى في الأفلام البوليسية !
مكث السائق قابعا داخل السيارة .. في حين ترجل رضوان وتوجه إلى شيخ طاعن في السن "
*** ".. سيدي .. مرحبا .. مرحبا قريتكم جميلة ، لا شك أنك سمعت بامرأة تدعى حادة ..؟ "
قاطعه الشيخ :++++ " .. حادة الحمقاء ..؟ ومن لا يعرفها في هذه القرية ..؟ حتى هذه الجبال .. والأحراش تعرفها .. وكم من مرة رددت صراخها ونداءها "
رضوان مستوضحا :*** " .. نداء .. ؟.. هل كانت تنادي أحدا ؟.."
++++ " .. كانت تنادي أينك ياولدي .. وهذا له قصة .. يقال إنها فقدت وليدها بالمستشفى حيا .."
*** " .. مسكينة .. هذه المرأة .. حادة وأين هي الآن ؟ "
++++ " .. بقيت على هذا الحال مدة طويلة حتى فقدت عقلها .. وذات صباح فوجئ السكان بعدم سماع صراخها المعهود ، فتفقدوها داخل منزلها .. ليجدوها قد فارقت الحياة .."
أجهش بالبكاء وخذلته عواطفه .. فإذا بالدمع يفور من مآقيه مدرارا :
*** " .. أين .. هو .. قب...رها ؟"
وقف الشيخ على عكازته .. مشى ورضوان يمشي في أثره .. وخلفه سارت حشود من أهالي القرية . توقف الشيخ وأخذ يتبين المقابر بنظرات حادة حتى حطت على القبر فالتفت إلى السائل :
++++ " .. هذا هو قبرها .."
فانطلق حافي القدمين ليرتمي عليه .. ممسكا بترابه بين قبضتيه وقد دفن وجهه بالرغام وهو يصيح أمي ... أمي ... أمي لم أكن أعلم .. أنك .. أمي كم صبرت وعانيت أمي ..أين ولدك .. هاهو ولدك .. "
مؤسسة ياولدي
في أعقاب الفاجعة التي ألمت به في فقدان أميه ، عمد رضوان إلى بيع جميع ممتلكاته ، خص منها مبلغا هاما صرفه في مشروع مؤسسة بالقرية أطلق عليها مؤسسة ياولدي وبمعونة أصدقائه بأمريكا ، أوقفها على نزلائها اليتامى والمشردين من أطفال البلدة ، كما عبّد الطريق المؤدي إليها من النواحي المجاورة .. وتعهد برعايتها من ماله الخاص ، وتتبع أنشطتها ولو من أمريكا التي قرر الالتحاق بها كلية واستئناف أنشطته الدراسية .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.