ما يكتنف عملية تشكيل الحكومة الآن من مصاعب وعوائق،هو نتيجة طبيعية لتداعيات العملية الانتخابية التي جرت يوم 7 أكتوبر 2016.إن السيناريو الذي حبكته التجربة الحكومية الأولى قد تكرر من جديد من خلال العطب المنهجي الذي تتعرض له كل مرة عملية التشكيل الحكومي.تصريحات السيد رئيس الحكومة اتجاه ما يعانيه من صعوبات في سبيل تشكيل الحكومة، تنم على أنه لم يستفيد من الدرس الأول في حكومة، 2012 وأنه على ما يبدو قبل بقانون اللعبة الانتخابية سياسيا ولم يقبل بنتائجها ميدانيا.الآن هناك صعوبات جمة لتحقيق التوافق وتشكيل الحكومة ،لا تنحصر فقط في تصلب بعض الموافق في الأحزاب المرشحة للتحالف،بل يوجد الخلل أيضا في الآليات والمنهجية التي تباشر بها عملية التشكيل الحكومي،بناء على نتائج انتخابية لم تكن حاسمة في ترجيح الأطياف. ها هو السيد رئيس الحكومة الآن يدعو إلى اعتماد المنهج الديمقراطي وسلطته المعيارية في تحديد شكل الحكومة المقبلة وترسيم خرائطها السياسة مع ضرورة الاحتكام إلى الأغلبية التي تقرر مصير الصراع على السلطة،وذلك حفاظا على مبادئ وقيم الديمقراطية المنهجية ،كما يقول ؟ إن السيد بن كيران رئيس حكومة سابق وأمين عام "أقوى حزب في المملكة"، وصاحب السبق التاريخي في قيادة حكومة منتخبة مرتين متتاليتين، وهو أعلم الناس بخريطة العمل السياسي التي يوجد في قلبها الآن، يدرك جيدا أن نتائج العملية الانتخابية غير حاسمة في تشكيل حكومة بنسبة سياسية مريحة،لأنها تعاني من عدة اختلالات، كونها تأسست على نسبة المحاصصة السياسية للأطياف الكبرى، وحماية الأحزاب الصغيرة لتستثمر كآلية من آليات تشتيت الأصوات، والتخويف من القطبية السياسية وتهديدها المزعوم للتعددية الحزبية، مع اعتبار المناصب الحكومية ريع سياسي يجب تقسيمه بين الفرقاء السياسيين. رئيس الحكومة الحالي، يعلم جيدا أن هذا المنطق سيؤدي حتما، إلى بناء الهيكل الحكومي على أدرع وفروع يكون أغلبها ممن لم يحرزوا على قبول شعبي بعد الفرز، فإذا كان هناك ضرورة للاحتكام إلى المنطق الرياضي، فإن المنطق الديمقراطي يرفض أن يستولي أناس لم ترجحهم للمسؤولية أصوات الناخبين يوم الاقتراع،على المناصب الحكومية بواسطة تقسيم سياسي نسبي وإرضائي. فلنتذكر جيدا هذه الكلمة التوجيهية التي وردت في خطاب صاحب الجلالة الموجه من العاصمة السنغالية بمناسبة ذكرى 6 نونبر حين قال :" إن المغرب يحتاج إلى حكومة جادة ومسئولة، غير أن الحكومة المقبلة لا ينبغي أن تكون مسالة حسابية، تتعلق بإرضاء رغبات أحزاب سياسية، وتكوين أغلبية عددية، وكان الأمر يتعلق بتقسيم غنيمة انتخابية" (1) .هناك تفسير منطقي يجب إحلاله في المعادلة الحسابية، أكثر مما يجب إحلال منطق الرياضيات حين نقبل على تحليل واقع تستعصي إشكالاته باستمرار.فدوافع المنطق الرياضي تتوخى المقاربة العددية لتصنيف من يحالف ومن يخالف طبقا لترتيب الأطياف السياسية وأولوياتها في تشكيل حكومة تقوم على "الحصيلة" و"العدد". لكن لنكن منطقيين، إنها حكومة تلبي طموح المشاركين فيها طبقا لحساب النسبة، ولو كان ذلك على حساب الجودة والفعالية والقوة والكفاءة، فمن يلبي إذن طموح الناخبين في تشكيل حكومة ناجحة وقوية وفعالة وكفئة تؤدي عملا ناجحا ما أحوج المغرب إليه الآن ؟ فالمنطق الرياضي في هذا الباب لا يبلور روح الديمقراطية، وتركيبته الحسابية براغماتية محضة تمكن المستفيدين من الريع الحكومي الناتج عن عملية إرضائية لا أقل،وبالتالي فالحكومة، ستكون حكومة شتات وغير منسجمة وهشة أيضا.في حين المقصود هو حكومة قوية "ببرامج واضحة وأولويات محددة للقضايا الداخلية والخارجية،وقادرة على تجاوز الصعوبات التي خلفتها السنوات الماضية"،كما قال جلالة الملك في نفس الخطاب المشار إليه.ولعل التعريف الديناميكي لهذه الحكومة المطلوبة هو أن تكون حكومة جيدة وبنيتها الإدارية منسجمة وقوية. يمكن استحضار منطق الفعالية والكفاءة للخروج من الأزمات المتراكمة اقتصاديا واجتماعيا وتدارك المنطق الرياضي بتفهم عواقبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية،فهذا أفضل من الإصرار على الاحتكام إلى مقاربة"العدد والحصيلة"ومنطق الرياضيات. أكيد أنه من الطبيعي أن تضع شروط التحالف الصعب، السيد بن كيران، أمام "الأمر الواقع" وهو سيجد نفسه مضطرا لقبول الوضع كما تحدده شروط تحالف يزعجه، فقد سبق له أن رفضه من قبل في مجريات التشاور حول مشاركة حزب"الأصالة والمعاصرة "في التشكيل الحكومي الحالي، لكنه لم يستعمل المنطق الرياضي في حسابه ووفق منهجه الصائب، كما يستعمله اليوم مع عزيز أخنوش.لذلك فأمامه خيار من اثنين؛ إما التعامل مع نتائج المنطق الرياضي في سياق المشروعية الانتخابية،التي تقول أن حزب"الأصالة والمعاصرة"طرف قوي في المعادلة الحكومية وأحد الأعمدة الصلبة التي يمكن أن تتشكل منها حكومة منسجمة وقوية، وإما رفض هذا الخيار وقبول تشكيل حكومة فسيفساء غير منسجمة ذات أقطاب سياسية هشة وطموحة تشكل خطرا على استقرار الحكومة وتعيد سيناريو الاستقالة الحكومية لسنة 2012 ؟ وخلاصة المعادلة أن السيد بن كيران لم يقبل بإلياس العماري حليفا له،لأنه قوي عدديا،والمنطق الرياضي البنكيراني حذر من خطورة نسبة المحاصصة السياسية التي تلعب لصالح حزب التراكتور، في الحكومة والتي تهدد بتقسام محتمل للقرار السياسي وسلطة رئيس الحكومة، فأغلظ الأيمان على أن لا يقاسم "الأصالة والمعاصرة" شيئا من غنيمته الحكومية وأنه لا مساومة على القرار السياسي وصلاحيات الرئيس، علما أن القرار السياسي لا بد أن يتوافق ويتلاءم وينسجم لخدمة الصالح العام، لتبقى مسألة المرجعية السياسية والأيديولوجية الحزبية هي آخر الحساب.إلا أن الموقف الصارم لحزب العدالة والتنمية لم يقبل إلياس العماري لأنه قوي، ولم يقبل بعزيز أخنوش الحديث العهد بالمسؤولية الحزبية، نظرا لعامل النسبة الانتخابية "37 هي 37 لا ّأقل ولا أكثر"، كما يقول بن كيران،في حين تفرض المرحلة الصعبة التي نعيشها الآن انفتاحا وتسامحا أكثر وتوسعا في الرؤيا والأفق السياسي تجاوزا لكل اختلاف من أجل المصلحة العليا للبلاد ؟ (1) الخطاب الملكي السامي يوم 6 نونبر 2016 بمناسبة المسيرة الخضراء الذي ألقاه جلالة الملك من "دكار"