لا يروم هذا المقال القيام بقراءة أدبية في رواية "هوت ماروك" التي نشرها الشاعر والقصاص اللامع ياسين عدنان في طبعتها الثانية الصادرة عن منشورات الفنك، الدارالبيضاء 2016 كباكورة لأعماله الروائية؛ بل ينحصر في التقاطات لمجموعة نصوص متفرقة حول البيئة في مراكش، وردت في متن الرواية، مع وجود خيط ناظم يجمع تلك النصوص، ويحوّلها إلى كتلة مترابطة، تبوح بالمنسي والمهمل في القضايا البيئية في مراكش، وينطق بمكنونات نفسية صاحب الرواية، وما يختلج صدره من أحاسيس ومشاعر، بل وحتى مواقف وردود فعل من التحولات البيئية التي طرأت على مدينة مراكش خلال العقدين الأخيرين، مما يجعل من موضوع البيئة مكوّنا من مكونات بنية النص الروائي، في سياق منجز إبداعي غني بدلالاته وإيماءاته. من نافل القول إن هذه القراءة في تيمة البيئة، كما وردت في رواية "هوت ماروك"، تأتي متساوقة مع حدث قمّة التغيرات المناخية الذي تشهده مراكش هذه الأيام، وما يرتبط بذلك من التزامات أخلاقية تجاه البيئة، تطال كل مكونات المجتمع الدولي قادة ومسؤولين ومفكرين وقواعد بشرية. فمراكش التي غدت قبلة لأصحاب القرارات، ومنظمات المجتمع المدني، والمخططين وذوي الخبرات الإستراتيجية في المجال البيئي، هي المدينة نفسها التي تناولتها رواية "هوت ماروك"، وطرحت بعض مشاهدها البيئية. وليس من قبيل الصدفة أيضا أن طرق باب البيئة في هذا المقال يأتي منسجما أيضا مع هواجس كاتب الرواية، الذي أشار في ظهر غلاف الكتاب إلى أن "مراكش الحاضرة البستان، وما تتعرض له من ترييف واغتيال للأشجار"، تعد من بين القضايا التي وضع عليها الأصبع في روايته. بيد أن مراكش التي تناولتها رواية "هوت ماروك" ليست هي مراكش الحمراء الساحرة التي تسحر عيون السياح، والتي تحدث المسؤولون في قمّة المناخ أنها ستلج باب السياحة الذكية، والاقتصاد الأخضر. إنها مراكش العميقة، مراكش الهامشية التي تحتل جغرافية ضيقة يتقاسمها سماء حي المواسين وحي عين إيطي وحي المسيرة، مراكش العشوائية التي يعرف المؤلف -وهو ابن المدينة- دروبها ومسالكها وأزقتها وعوراتها معرفة دقيقة، لذلك فهو يرصد محيطها البيئي والإيكولوجي "الواقعي" بطريقة فنية، وبأسئلة متقنة، مستقاة من دهاليز الواقع، دون مساحيق، ومن صلب النفسية الجشعة لسماسرة العقارات الذين لا يراعون في البيئة إلاّ ولا ذمة. وإذا كان الروائي ياسين عدنان قد وظف المتخيّل والافتراضي وشبكة الفضاء الأزرق، والبلاغة الاستعارية، والإضمار والإيحاء والهمز واللمز والسخرية، والمناجاة والخواطر، التي تستلزم فك الشفرات، واستنطاق المضمرات لكشف عورات المجتمع المغربي، وفضح التحولات السياسية السلبية التي عرفها منذ السبعينيات، فإنه اعتمد بالنسبة إلى المشاكل البيئية التي عصفت بمراكش -ولا تزال- آلية الإدانة والنقد المباشر، بالرغم من التجائه أحيانا إلى مظلة الخيال والمراوحة بينها وبين الواقع لصقل الحدث فنيا داخل الرواية، أو توظيف أشخاصها وأبطالها بأسماء اختارها من وحي خياله ليصنع منها حدثا ممتعا سلسلا ينساب معه القارئ حتى يصل إلى معرفة النهايات البئيسة. إن النصوص التي يقدمها الروائي ياسين عدنان حول مشاكل البيئية بمراكش هي تشخيص دقيق، يتم عبر سرد مشوّق لهذه المشاكل، وتأريخ غير مألوف للمشهد البيئي الذي يمرره الخطاب الإعلامي الرسمي، تأريخ ميداني عياني، يسير فيه المؤلف سيرا على الأقدام، ليفضح العورات، وينبش في المناطق المعتمة، ويخترق خطوط المراقبة الشائكة. وفي ذات الوقت تجسد نصوص روايته شكلا من أشكال الاحتجاج والإدانة لما آلت إليه المدينة من وضع مزرٍ على يد أعداء البيئة. وتأسيسا على ما تم تجميعه من نصوص رواية "هوت ماروك"، يمكن تحديد المجالات التي تبحر فيها بالقارئ، في ثلاثة مشاهد بيئية تشكل غصة في حلق المدينة الحمراء: أولا- الزحف الإسمنتي على المجال الأخضر: أو ما عبّر عنها صاحب الرواية ب"ترييف" المدينة، وهي ظاهرة كرستها ورفعت من إيقاعها الهجرات القروية والنمو الحضري السريع، ممّا فتح شهية مافيات العقار، وجعلها تسلك سلوكا ممنهجا، يتحول فيه المستثمر العقاري إلى ذات بدون قيمٍ، وإلى متوحش رأسمالي يلتهم المساحات الخضراء التي تمدّ المدينة بالمقومات الجمالية، وتحدّ من تلوث الهواء والانبعاث الحراري والتصحر، ليقيم الصخر مكان الزهر. ولعلّ ما زاد من تفاقم هذه الوضعية سيادة أشكال الفساد الإداري والتدبيري التي جعلت المستثمر العقاري يدمر الغطاء النباتي بمراكش، ويغتال جمالها الأخضر. وفي هذا السياق، أفلح كاتب الرواية في التقاط مشهد إعدام أشجار النخيل واللبخ والواحة التي كانت تعرف بالحاضرة البستان، وتحويلها إلى أراض جرداء، عوضت غراسة الأشجار بغراسة العمارات السكنية. ويصف هذا الإعدام لأشجار النخيل بالاغتيال الهمجي، وهي التفاتة غير مألوفة تفتح ثقبا صغيرا يطل منه القارئ على مدينة يتم تعريتها من زيها الأخضر تحت سمع وبصر الناس، وبدون مراقبة أو عقاب، أما الفاعل فهم منتخبو المدينة الذين جعل المواطن مسؤولية إدارة المدينة بين أيديهم. وأمام هذه الكارثة البيئية التي تهدد الشجر والبشر في المدينة الحمراء، وجه صاحب "هوت ماروك" أصابع الاتهام إلى المسؤولين والمنتخبين الذين كان يفترض أن يحصنوا بيئتها بدل تدميرها. ويظهر مجمل صك الاتهام في ثنايا الرواية أنه في الأربعينيات من القرن الماضي استنبت الفرنسيون على امتداد رصيف شارع الداخلة الذي كان يعرف بشارع الحوز عشرات الأشجار الخضراء التي شكلت ممرا وارف الظلال، يقي من حرارة الشمس ويعمل على تنقية الهواء؛ بيد أن مافيا العقار، الذين آلت إليهم أمور المدينة، دمّروا شجر اللبخ المتواجد في طريق الصويرة، والجاكرندا المستنبت في طريق البيضاء. كما أتوا على واحة النخيل المحيطة بالمدينة، وعمدوا تحت مبرر توسيع الطرق وفتحها أمام حركة السيارات إلى إحراق مئات من أشجار واحة النخيل بصبّ البنزين على جذورها وإضرام النار فيها، دون أن تمتد يد السلطة لمعاقبتهم. والنتيجة هي أنه بعد أشهر قليلة نبتت العمارات الجرداء مكان النخل في الواحة. "هل من مدينة بلا شجر؟!"- يقول الكاتب – "... مراكش منهكة في اغتيال الأشجار، المجزرة متواصلة ولا أحد يستنكر، احتلت الجرافات شارع الحسن الثاني، وبدأت تجتث بطريقة عشوائية أشجار اللبخ الضخمة" (ص 308). إنه نص يروم إنصاف البيئة، وخطاب يسعى إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مخلفات العدوان البشري على المجال الأخضر بمراكش، وعدم ترك بقعة الزيت تتسع فوق قطعة الثوب. ثانيا- النفايات ومشاكل البيئة الصحية: تتناثر في رواية "هوت ماروك" بعض النصوص التي ترسم صورة قاتمة حول إشكالية النفايات التي تعاني منها مراكش، وضمنها نص يتعلق بحي "الموقف" بالمدينة القديمة بمراكش الذي انتقل إليه رحال العوينة للسكن مع عمه عياد، قادما من حي عين إيطي العشوائي. فبالرغم مما عرفه هذا الحي من تحسن في سلم مراتب السكن مقارنة مع الأحياء المهمشة، فإنه لم يسلم من وخزات الأزمة البيئية، وهو ما يرصده النص الروائي من خلال ثلاثة مؤشرات: - انعدام الإنارة بهذا الحي، بسبب تصنيفه وفق السلطات العمومية في صنف البناء العشوائي. مع إشارة نص الرواية إلى أنه كان بالإمكان أن يظل حتى بدون ماء صالح للشرب ولا شبكة للصرف الصحي لولا انتخابات فترة السبعينيات التي وظفت مصلحيا لهذا الغرض (ص 69- 70). - انفتاح الحي على سوق لبيع الخضر والسمك جعله مرتعا لأكوام الأزبال والنفايات، وفضاء يتجمع فيه العشرات من الحرفيين البسطاء الذين ينتظرون حظهم من زبون رحيم يطلبهم للخدمة لعمل بسيط. وبالرغم من أن الحي الذي سكنت فيه عائلة رحال العوينة يوجد في قلب المدينة الحمراء، فإنه لم يسلم بدوره من مشاكل بيئية خطيرة: أوراش النجارة التي تخنق أنفاس سكانه، وتجعلهم مكرهين على إغلاق النوافذ، وبالتالي حرمانهم من حقهم في الحصول على نصيبهم من أشعة الشمس، خاصة في فصل الشتاء. -يضاف إلى ذلك انتشار حرفة نقش العظام التي أكدت التقارير المنجزة حولها أنها تتسبب في تلويث البيئة؛ ناهيك عن المواد الكيماوية التي تستعمل في دبغ الجلود، والروائح الكريهة التي تنبعث من صهاريج الدباغين وتزكم الأنوف. (ص 70- 71). عند تحويل بوصلة الرواية اتجاهها نحو شارع الداخلة لتسرد لنا حدث انتقال رحال العوينة إليه ليشتغل فيه كمسيّر لسيبير كافي "أشبال الأطلس"، تبرز إشكالية بيئية أخرى: فمقابل السيبير كافي، توجد قنطرة تمّ حفر طريق لها بغرض غراستها حتى تكون بمثابة ديكور لتجميل المدينة؛ لكن لسوء طالع مراكش، وبسبب سوء تقدير المسؤولين، تتحول الحفرة المذكورة في فصل الشتاء إلى بركة يزداد منسوب مياهها كلما هطلت الأمطار، مع ما تسببه المياه الراكدة من استجلاب للحشرات الضارة التي تهدد السلامة البيئية. في موضع آخر من الرواية، يعبّر ياسين عدنان عن تذمره من مشهد النفايات المتكدسة في شارع الداخلة بسبب الباعة المتجولين الذين لا يتورعون عن إلقاء أكوام عديدة من الكرتون والأكياس البلاستكية، ويدأبون على ذلك إلى ما بعد منتصف الليل. لذلك تظل الحاويات تستقبل طوال الليل هذه النفايات حتى تفيض عن الحاجة، وهو ما يجعل سكان العمارات المجاورة مجبرين على رمي قماماتهم بجانب حاويات الأزبال أو حتى على أرصفة الطرقات أحيانا. أما عمال النظافة فلا تظهر وجوههم إلا بعد الفجر وهم يمتطون شاحنات مترهلة لا يحتمل بطنها الذي أصابه الصدأ كل أرتال النفايات المتراكمة بروائحها الكريهة وفطرياتها وحشراتها في منظر لا يسرّ الناظرين. ويرفع المتن الروائي - في أماكن أخرى من الرواية- سقف كارثة النفايات وتسيّب الأزبال في شوارع مراكش وأمام أبواب العمارات، فيصور عبر شخصيات متخيّلة، ولكنها لا تبعد عن الواقع أن هول منظر النفايات وبشاعته وما يتمخض عنه من كوارث صحية، حرّك الرأي العام في شكل مظاهرات احتجاجية ضد أعداء البيئة من سلطات محلية وشركات نظافة أجنبية متعاقدة مع بلديات المدينة. (ص 344- 345). هكذا، يصور ياسين عدنان هذه المشاهد البيئية المتعفنة في مراكش، لكن بريشة هادئة، ولغة رائقة ونصوص متماسكة، ومتعة عجيبة تنسي القارئ بشاعة أكوام النفايات المتناثرة والأزبال المتدفقة على أرصفة شارع الداخلة. ثالثا- إشكالية ندرة المراحيض في مراكش: تقدم رواية "هوت ماروك" نصوصا بالغة الدلالة حول المشاكل البيئية في مراكش من خلال نصوص تنطق بمأساة انعدام المراحيض أو قلتها في مراكش، مما يزيد من تفاقم الأخطار المهددة للبيئة، وذلك في أسلوب كوميدي جميل وهادف. وفي هذا السياق، لم يتردد صاحب الرواية عن استعمال المصطلحات "الساقطة" والسوقية لتوصيف المشكل؛ بيد أن وقاحة اللغة الساقطة الموظفة في النص أضفت مسحة جمالية على الفكرة التي كان بصدد معالجتها. ولن ندخل في تقييم المصطلحات الفنية والأدبية التي استخدمها ياسين عدنان بحكم عدم اختصاصنا، بل نقتصر على استشفاف المشاكل البيئية الناجمة عن انعدام المراحيض في المجالات الهامشية بمراكش كما كشف عنها النص الروائي. ففي حيّ عين إيطي، يعتبر المرحاض ترفا غير متاح للجميع. لذلك بات من المألوف أن يقضي أغلب ساكنته حاجتهم في أكياس بلاستيكية، ترمى في خنادق محيطة بالحي. بينما تقضى الحاجات الصغيرة كالبول في البيت نفسه، لتصرف بعد ذلك نحو قنوات صرف غير صحية، قبل أن يكتب لها الانسياب من هناك في اتجاه وادي إيسيل. وبالرغم من توفر بعض البيوت كبيت العم "عياد" على مراحيض لا تتجاوز مساحتها المتر المربع الواحد، وبفتحة ضيقة غالبا ما تؤدي كثرة استعمالها إلى اختناقها، فإن كثيرا من سكان حي عين إيطي كانوا - تجنبا لاحتمال اختناق المرحاض وفيضانه- يلجؤون إلى الهواء الطلق لإفراغ أمعائهم. ( ص 149). وحتى في شارع الداخلة الذي يعتبر من الفضاءات المتطورة نسبيا في مراكش، يعد المرحاض من طينة الأحلام التي يحلم بها العمال والباعة المتجولون المنتشرون على أرصفة هذا الشارع. لذلك، لا غرابة أن يتحول مرحاض سيبير كافي "أشبال الأطلس" ومقهى ميلانو إلى مسرحين للتشاحن والشتائم والصراخ بين مرتاديه الذين يبطئ بعضهم في قضاء الحاجة ولا يترك الفرصة للآخرين، أو يرفضون الأداء للسيدة العجوز التي تقوم بالإشراف عليه، مما تمخض عنه إغلاق مرحاض مقهى ميلانو ليشتد عود أزمة المراحيض بهذا الفضاء، ويلجأ البعض إلى قضاء حاجتهم أينما ولوا وجوههم ووجدوا الفرصة سانحة. (ص 381). وبعد، فتلك مجرد التقاطات سريعة من إشكاليات بيئية متشعبة، تمثّلتها رواية "هوت ماروك" باقتضاب، لكن بعمق، بخيال، لكن بانشداد كبير للواقع، بغضب، لكن في هدوء، بشغب، لكن بالتزام ومسؤولية. وأحسب أن الجمع بين هذه المتقابلات هو ما أعطى للرواية ونصوصها حول البيئة زخمها ونقاط قوتها. إنها تجسد بامتياز نصا فاضحا، لكن بلغة راقية وسرد مشوق، وظف صاحبه أحيانا "لغة الشارع الوقحة"، دون أن يفقد النص ذرة من هيبته الأدبية، بل زادته هذه الوقاحة الضرورية في مثل هذا المقام رونقا وجمالا يحكي قصة مدينة صاخبة، يفد إليها السياح من كل صوب وحدب، مع أنها مدينة موبوءة بمشاكل بيئية لم يستطع كاتب هذا المقال المتواضع أن يلملم كل خيوطها، ليترك النص حافلا بالتشويق لكل قارئ يتطلع إلى معرفة المزيد من تفاصيل تحولات المغرب المتناقضة، ويتلقف نصوصا حول التاريخ البيئي "المسكوت عنه" في المغرب المعاصر من أفواه الروائيين.