مهن تنقرض.. في غياب رؤية استباقية! هذا واقعنا: بطالة مصطنعة وصلتنا من العالم الغربي، لتنضاف إلى البطالة الطبيعية.. واقع يتمثل في تشغيل الآلة على حساب الإنسان.. وبتعبير آخر، تعطيل الإنسان لتشغيل الآلة.. إنه إفراز لسوء الاستخدام التكنولوجي.. فالآلات من المفروض ألا تكون فقط في خدمة فئة بشرية محدودة.. ولا يجوز، في نفس الوقت، أن تكون وبالا على أغلبية ساحقة.. وفي غياب سياسة تشغيلية متطورة، أوصلتنا المكننة إلى بطالة مطلقة.. بطالة تعني اللاشغل.. اللامدخول.. اللامورد.. بطالة تجعل الناس بلا عمل.. ويوما عن آخر، تدخل مهن بشرية جديدة في طور الانقراض، في غياب رؤية استباقية علاجية لمكونات الدولة.. فلا الحكومة تفكر في تشغيل أشخاص متعودين على أعمال تقليدية، أو غيرها، أو التدخل لمنحهم تعويضات عن "بطالة قسرية"، كما هو الشأن في الدول الديمقراطية، بقوة حقوق الإنسان.. ولا الأحزاب تفكر في حقوق من أصبحوا بلا عمل.. والأحزاب عندنا، للأسف، عبارة عن شبكات انتهازية، لا أقل ولا أكثر.. والدولة، بكل مكوناتها، لا تقبل منطق المعارضة.. ترتفض من ينتقدها.. رغم أن النقد يبتكر أفكارا جديدة.. وحلولا.. وهذا ما يفسر غياب الحلول.. وبالتالي رؤية استباقية في السياسة الحكومية لبلدنا.. الحكومة تقرب منها من يطبلون لها.. لا تريد إلا من يمجد رأيها.. الرأي الآخر عندها مرفوض، ولو كان هو الحل! ورغم التعنت، تتبجح الحكومة بأنها ذات بعد نظر.. ذات رؤية سياسية بعيدة المدى.. وإذا كانت هي فعلا كذلك، فأين هي الرؤية الاستباقية؟ لماذا لا تنعكس على واقعنا المعاش؟ أين هي سياسة التوقعات؟ - حكومتنا تبدو بعيدة عن الواقع.. مبرمجة على البهرجة والتظاهر والفخفخة أمام العالم الخارجي.. لها وجهان: وجه واضح سلبي مع الداخل، ووجه انتفاعي سري مع الخارج! ولو كانت لها رؤية استباقية، لأدركت أن انقراض مهن جديدة، في خضم غياب معالجات آنية، هذا يعني طوابير أخرى من العاطلين والمعطلين، إناثا وذكورا، وبالتالي مشاكل اجتماعية في تصاعد.. ويعني أن السيادة أصبحت للآلة.. وأن البشر في تقهقر مهني، وبلا أفق.. وفي خضم هذا الواقع، تختفي مهن تقليدية عديدة.. ومن أبسطها مهنة التسلق على النخل، وإسقاط أشجار الزيتون، وغيرها من المهن الفلاحية التي أصبحت تقوم بأغلبها آلات.. وعشرات الآلاف من المهن التي يمارسها بشر بشكل متكرر، كلها أصبحت ممكننة.. تقوم بها آلات.. فالآلات تكرر نفس الحركات، وبلا تفكير، فتحرث وتزرع وتقطف... وهذه مهن متكررة الحركات، وتتم بشكل آلي.. وعندها يتراجع دور البشر.. ونحن اليوم أمام اختفاء لمهنة السائق.. فلا سائق للسيارات، في أمد قريب.. ولا ربان للطائرات.. ولا للبواخر.. البرامج الذكية تقوم بالمهمة.. وآلات تتم برمجتها حتى لعمليات جراحية دقيقة.. وكل هذا يتطور، ويأخذ مكان الريادة في حياتنا اليومية، على حساب الشغل البشري.. ويصبح البشر عاطلين عن العمل.. وبلا مدخول.. ولا ما يضمن حياة كريمة.. والآلة تشتغل.. وحدها تشتغل.. وفيها ما قد يقوم مقام المهندس.. والطبيب.. والأستاذ.. والصحافي... ويضر هذا الاكتساح الآلي بكثير من المهن الثقافية والإعلامية وغيرها... ومن أمثلة أخرى للمهن الآيلة للانقراض، مهنة الصحافة التي تتعرض لاكتساح بديل، هو الإعلام الروبوتي.. وأصبحنا نرى في شاشاتنا وجوها رقمية مشحونة ببرمجيات إعلامية متنوعة، فتتشبه بالإعلاميين البشر، وفي حالات تتفوق على أمهر المهنيين، في إعداد وتقديم الأخبار.. وتتحول إلى نجوم روبوتية، بشكل بشري، في الأجناس الصحافية، من ربورتاجات وتحقيقات واستقصاءات وغيرها... - وحتى في المسرح والسينما! ونجوم روبوتية تتقمص شخصية البشر في تدريس العلوم، وحتى في تلقين الأخلاقيات! لقد دخل العالم عصر أشباه البشر.. بشر في شكل روبوتات.. كل المهن تنتقل منا نحن البشر إلى قبضة الآلات.. آلات أكثر دقة في الأداء، وجودة في الإنتاج، والتزاما بالوقت.. ونحن نسلم مفاصل حياتنا للآلات، مستسلمين صاغرين لحالنا الاستهلاكي.. الآلات تنتج، ونحن نستهلك.. ويتقهقر دور الإنسان في الإنتاج والتوجيه والمراقبة.. وأصبحنا أمام تحولات اجتماعية سلبية، نتيجة تشغيل الآلات نيابة عن بشر.. والبشر يتم إقصاؤهم، وإهمالهم.. والمستفيد هو "رأس المال".. - في غياب رؤية استباقية! وقد أوصلنا "الرأسمال التكنولوجي" إلى تغييب الدور الاستباقي للدولة.. وهذا حاصل لبلدان في العالم، ومنها بلدنا.. إننا أمام عولمة المشاكل التشغيلية: تشغيل الآلة على حساب حقوق الإنسان في حياة كريمة.. وصلنا إلى هذه الحالة.. واصبحنا في عمق خلل اجتماعي واقتصادي وسياسي... خلل يقودنا إلى مآل واحد: انهيار دولة البشر.. وسيادة دولة الروبوت! [email protected]