من دخل البيت الأبيض لغة أمريكية جديدة أم قديمة؟ اختارت الأغلبية من الذين صوّتوا في الانتخابات الرئاسية الأمريكية (8 – 11 – 2016) دونالد ترامب رئيسا جديدا لأمريكا؛ أمريكا الدولة الأكثر تقدما وأقوى تأثيرا في العالم، منذ الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918). لقد أنصت الأمريكيون والعالم باهتمام إلى لغة ترامب المباشرة، التي غابت عنها تلوينات لغة السياسيين المعتادة في التعامل الداخلي بين فرقاء اللعبة الديمقراطية، ولباقة اللغة الدبلوماسية المألوفة في الخطابات الموجهة للخارج. وتابع الجميع تهديداته بعدم الالتزام بتعهدات الإدارة الأمريكية السابقة واتفاقياتها، في حال انتخابه؛ تلك الإدارة التي حملها تقهقر أمجاد أمريكا، حسب تعبيراته. وبسبب حدة لغته وبعض شعاراته المتطرفة، المعادية للسود وللمكسيكيين وللمسلمين، والداعية، وفقا لتصريحاته، إلى ضرورة استعادة أمجاد أمريكا وإعادة الاعتبار للأمريكيين البيض بقيمهم الأنجلو – سكسونية التاريخية، وبسبب التشابه الكبير بينه وبين الزعيم اليميني الإيطالي بيرلوشكوني، بسبب ذلك وغيره، وقفت ضده وسائل إعلامية أمريكية كبرى، وعارضه بعض من قيادات الحزب الجمهوري أنفسهم الذين ترشح باسم حزبهم، ووقف ضده بعض الفنانين المعروفين عالميا، إضافة إلى أنصار وصول المرأة لقيادة أمريكا، وأنصار الزواج المثلي، وإلى عدم اطمئنان العالم الخارجي إلى لغته المباشرة. في الحديث عن مستقبل العلاقات الأمريكية مع مختلف دول العالم ومنظماته وهيئاته. فما أهمية فوز ترامب بالرئاسة الأمريكية على الرغم من تلك المعارضة. لكن، من يحكم أمريكا؟ حينما قال الأديب جوزي ساراماغو البرتغالي إن الشعب الأمريكي شعب كبير، لكن، غالبا ما يميل إلى انتخاب رؤساء صغار، ربما كان يقصد أن سياسات الولاياتالمتحدة تكون في الغالب أكبر من رغبات الرئيس، أو أن مجالات سياسة الرئيس وحدودها لا تتجاوز ما تقرره المؤسسات الأمريكية، وجزئيات صغيرة وتشريفات دبلوماسية تدخل في المظهر العام لمكانة أمريكا في العالم. وأقرب مثال على ذلك الرئيس أوباما الذي كانت رغباته طافحة. ويتذكر الجميع أنه وعد بأشياء كبيرة؛ لكن مؤسسات الدولة الأمريكية لم تأخذ بها، لأن رغبات رئيس أمريكا ليست أوامر، كما هو شأن رغبات الرؤساء والحكام المستبدين، لأنه محكوم بالدستور، وبأعراف الدولة ومؤسساتها، السابقة عنه والمستمرة بعده. وأقواله ليست مقدسة؛ فالمثل الأمريكي نفسه يقول: "لا تقل لي شيئا، لكن أرني ماذا ستفعل؟ لا وجه للمقارنة بين سلطة رئيس أمريكي ورئيس دولة مستبد وهناك من يرى أن فوز ترامب لم يعد إلى وعوده الانتخابية بقدر ما يعود إلى مهاراته وتقنياته في التسويق، كفاعل اقتصادي وتجاري كبير. وقد طبق تلك المهارات نفسها في حملته الانتخابية، إذ أبان عن مقدرة لترويج شخصه السياسي لا تقل عن مقدرته على ترويج مشاريعه الاقتصادية وعلى تسويقها تجاريا. إضافة إلى حسن توظيف دراسات وخبرات المستشارين المختصين في علم النفس الاجتماعي la psychologie sociale وعلم نفس الحشود la psychologie des foules من أجل الحصول على أغلبية أصوات الناخبين الأمريكيين البيض بصفة خاصة. ونعتقد أن أقصى ما يمكن أن يحققه ترامب في البيت الأبيض قد لا يتجاوز سقف ما وصل إليه رونالد ريكَن. لذا فلا وجه لمقارنة كاملة بين رئيس الإدارة الأمريكية وبين رئيس أي دولة أخرى في العالم يحتكر كل السلط، بل يحتكر كل شيء؛ فهو وحده ولي كل الامتيازات والنعم... إلخ. لذلك، فإن الخطأ الذي يقع فيع البعض عندما يتكلم عن رئيس أمريكي، كونه يقرن صورته بصور رؤساء دول عربية وإفريقية، الآمرون الناهون وحدهم في كل شيء، الذين لا رقيب عليهم، ولا حسيب لهم، وأقوالهم لا تناقش. فوز ترامب بين معارضي رئاسته وبين المرحبين بها والسؤال، إذا كان الأمريكيون، بمؤسساتهم الإعلامية ونخبهم، يعرفون محدودية دور رئيسهم وسلطته، وقد عاشوه مع الرئيس أوباما، منتهية ولايته، الذي وعد الأمريكيين والعالم بعشرات الوعود، دون أن يقدر على أن يحقق منها إلا القليل جدا، فلماذا تخوف بعض الأمريكيين من وصول ترامب إلى كرسي البيت الأبيض، إلى درجة خروج البعض في مظاهرات معارضة لما تفوه به أثناء حملته الانتخابية، حاملين لافتات مكتوب عليها "ترامب ليس رئيسي"؟ وماذا يعني فوزه بالنسبة إلى محميي الإدارة الأمريكية في العالم؟ ثم إلى ماذا يشير انتخابه بالنسبة إلى الذين منحوه أصواتهم؟ يمكن أن نختصر دوافع الذين خرجوا في مظاهرات يعلنون رفضهم لرئاسة ترامب في ما يلي: أولا، أن بعض الأمريكيين الذين يعتقدون أن دولتهم رائدة في احترام حقوق الإنسان، وأن هذه الريادة ستنتكس في ظل وجود رئيس أعلن في حملته الانتخابية عن معاداته للأقليات والأجانب، إلى درجة منع المسلمين وغيرهم من دخول أمريكا. ثانيا، يرى معارضوه أن ما يعتبرونه ثقافة وأخلاقا تعكس الحداثة التي تدعو إلى الإجهاض والاعتراف بزواج المثليين عالميا، وتحقيق المزيد من الحرية للنساء، يمكن أن تصاب بنكسة على يدي ترامب وإدارته. ثالثا، إن الآمال التي كان يعلقها هؤلاء الأمريكيون على إيصال أول امرأة أمريكية إلى هرم الدولة في أمريكا قد أُحبطت. ما يعني أن مكانة المرأة السياسية في المجتمع الأمريكي أقل من مجتمعات شبه القارة الهندية (الهند وباكستان وبانغلاديش). أما الذين صوتوا ضدا على هيلاري كلينتون لصالح ترامب فقد كان دافعهم الأول هو الخوف من ترسيخ دور الأقليات الذي مهد له اعتلاء ابن مهاجر إفريقي لم يمر على دخوله أمريكا أكثر من 60 سنة، ويفقدهم بالتالي دورهم المركزي في مؤسسات الدولة الأمريكية، التي بناها المهاجرون الأوروبيون الأوائل المتحدرون من أصول أنحلو سكسونية بالدرجة الأولى. سبب انزعاج الدول الخارجية وبخاصة المحميين أما ما أزعج المحميين (رؤساء الدول الذين تحمي أمريكا أنظمتهم وتضمن سلامتهم من كل ثورة) فهو اللغة المباشرة التي عبر عنها ترامب بقوله: "من يريد أن نوفر له الحماية عليه أن يدفع المقابل". ما يعني أن ترامب لم يكن يعرف أن أولئك يدفعون فعلا ثمنا باهظا مقابل ضمان سلطتهم من قبل أمريكا. وانزعاجهم إلى إمكان "كشف المستور". وتبقى العلاقات الأمريكية الأوروبية والصينية ذات مجاهل بالنسبة إلى ترامب. وحينما سيتعرف على متاهاتها ومنافذها سيعيد حتما حساباته ويغير لغته، كما غيّرها الشاعر القديم، حين تخلى في مدة ستة أشهر فقط عن لغته القديمة الفظة، التي وصف بها الخليفة المتوكل العباسي، بالكلب في الوفاء والتيس في مواجهة الخطوب؛ فحين انتقل إلى بيئة تمتاز بالرقة واللباقة في التعبير، أصبح يتكلم بلغة الهوى والعشق الذي يأسره من حيث يدري ولا يدري، وعن الشوق القديم وجمال الحياة. ولا نعلم كم سيستغرق الرئيس ترامب من الزمن لكي ينتقل من لغة التهديد والوعيد إلى لغة التعاون والاعتماد المتبادل؟ لكن، لا بد أنه ستتغير تعبيراته. فبعيدا عن تهويل بعض التحليلات التي تأخذ مما يسمى "حصانة" السيادة الوطنية والاستقلال إزاء تفوهات ترامب بشأن علاقة أمريكا مع الدول الأخرى في حال فوزه، فإن مصالح المجتمع الأمريكي، وخطاب مؤسسات الدولة الأمريكية هي التي ستروض ترامب وليس العكس. هل فوز ترامب إعلان عن انتصار النزعة القومية على العولمة؟ وفي الأخير، فإن فوز ترامب "المفاجئ" يشير، من بين ما يشير إليه، إلى أن زمن القومية الممثلة لظهور الأنظمة القديمة، القائمة على التناسب العرقي، وعلى الجذور الثقافية المشتركة لا يزال هو الزمن الأقوى عند الأمريكيين البيض من العولمة ومن كل دعوة أو فلسفة تعمل للتقليل ولتجاوز النزعة القومية. وهل يمكن القول إن غالبية المصوتين الأمريكيين لبوا صوت العاطفة على حساب العقل والمنهجية البرغماتية، التي هي منهجية أمريكية في زمن التمهيد للانفتاح على العالم، وأنهم الآن فضلوا اللجوء إلى حصن ثقافتهم ومعتقدهم القديم؟ وأن التحولات التي صوت لصالحها الناخب الأمريكي في رئاسيات 2016 ليست مسألة أمريكية خاصة، بل هي ظاهرة عامة في الدول الديمقراطية العريقة، قبل أصحاب شعار "الانتقال الديمقراطي"؟ أو لم تنسحب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مؤخرا؟ أو لم ترتفع كثير من الأصوات المنادية بالخروج من الاتحاد الأوروبي؟ *أكاديمي مغربي مقيم في كندا