أصبحت مشاكل البيئة والتغيرات المناخية من أخطر المشاكل التي يعاني منها العالم المعاصر، إذ استفحلت ظاهرة التصحر والاحتباس الحراري وانعدام التوازن البيئي وتلوث المياه والهواء، بسبب إقامة المشاريع الصناعية التي لا تراعي سلامة البيئة، وبسبب أطماع الإنسان وأنانيته وعدم قدرته على ضبط غرائزه، واستعمال الموارد البيئية استعمالا يستهدف الرفاه المادي، دون مراعاة ما ينتج عن ذلك من أضرار بيئية، ما أدى إلى استنزاف العديد من عناصر البيئة أو تلويثها، حتى بدأ الآن الحديث عن أزمة بيئية عالمية لا تقل خطرا عن الأزمات الاقتصادية والحروب المدمّرة. وفي هذا المنحى، انتقد آل غور في كتابه "الأرض في الميزان"، الاستهلاك المفرط لموارد البيئة، الذي انتهى بالحضارة المعاصرة إلى أزمة بيئية خطيرة. ونظرا لتفاقم الأزمة البيئية التي صارت تهدد ساكنة الأرض، تمّ عقد مؤتمرات وملتقيات دولية تمخضت عن إصدار قوانين وإجراءات لتفادي ما يمكن تفاديه من نتائج كارثية. لكن هل يكفي عقد مثل هذه القمم لمحاصرة أخطار البيئة ومعالجتها؟. أحسب أن أي معالجة لمشكل البيئة بمعزل عن المسؤولية الأخلاقية تبقى صيحة في واد، لأن مصالح الدول الصناعية، وجشع القوى الكبرى، تخترق الالتزامات الدولية. كما أن أنانية هذه الدول تجعلها تدوس كل مبادئ الحفاظ على البيئة من أجل تحقيق مآرب صناعية أو نووية، فتكون الدول الثالثية التي تعتبرها الحائط القصير ضحية هذا العدوان على البيئة. ومن هنا تأتي أهمية التفكير في دور الأديان ومدى مساهمتها في إيجاد مواثيق أخلاقية للحد من تداعيات المشاكل البيئوية. وسأبسط النظر في هذه المقولة من خلال نموذج الإسلام، الذي سعى إلى جعل العلاقة بين الإنسان والبيئة علاقة انتماء واندماج، تنتفي فيها كل أشكال العدوان، وحدّد في الوقت ذاته مجموعة من القواعد الأخلاقية التي تتم من خلالها الاستفادة من الموارد البيئية، باستهلاكها على قدر الحاجة، وعدم استنزافها أو احتكارها من قبل جهة معينة، واستغلالها بطريقة عادلة تفي بحاجيات جميع الناس دون تمييز؛ بل جعلت أدبياته التشريعية هذا السلوك الأخلاقي تجاه البيئة في مرتبة الوجوب الديني الذي يترتب عليه إما الثواب أو المعاقبة. لقد اهتم الإسلام اهتماما كبيرا بمحددات أخلاق البيئة، إلى حدّ أن مصطلح (( الأرض)) الذي يحيل في المفهوم الإسلامي على معنى البيئة، تكرر في القرآن 450 مرة. وجعل النص القرآني كوكب الأرض وما في باطنها وسطحها من ثروات طبيعية ملكية مشتركة بين البشر، وليست حكرا على جنس دون الآخر: ((وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ )) (الرحمن/10). وتلك قاعدة أخلاقية تجسد مطلب عدالة البيئة والمناخ الذي تطالب به الجمعيات الحقوقية والمجتمع المدني، لكن غالبا ما يتم تجاوزها من طرف الدول المهيمنة على مقدرات العالم من أجل الاستئثار بزبد خيراتها. وبما أن الإنسان هو المسؤول الأول عن المحافظة على البيئة أو تخريبها، فإن الخطاب القرآني يحصّن علاقته بالبيئة أخلاقيا بتذكيره بانتسابه إلى الأرض، وتنبيهه بأنها هي الأصل والأم والحاضنة في الحياة والممات ((مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ)) ( طه/55). وإلى جانب تذكير المتن القرآني بعلاقة الأمومة التي تربط الإنسان بالأرض، يسعى أيضا إلى بناء علاقة محبة وتعاطف بين الطرفين، من خلال التأكيد أن الله سخّر للناس كل موارد البيئة من مياه وأشجار وغطاء نباتي وثروة حيوانية، ومعادن وبحار وصخور، لتكون في خدمتهم وتنميتهم. الماء، الذي يعد أهم عناصر البيئة وأساس الوجود، يظهر في النص القرآني أنه مسخّر لخدمة البشرية، سواء في المجال الزراعي أو الحرفي، أو في كل مناشط الحياة، علما أن العلوم المعاصرة، ومنها علم الكيمياء الحيوية، أثبتت أنه ضروري لحدوث جميع التفاعلات والتحولات التي تتم داخل أجسام الأحياء وإنعاش عناصر البيئة. وفي الاتجاه نفسه أشار القرآن إلى أهمية الأمطار ودورها في إعطاء الحياة للأشجار والغطاء النباتي ((وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ)) (الأنعام/99). فلولا مياه الأمطار لما أمكن للنباتات الخضراء المحتوية على الكلوروفيل أن تقوم بصنع الغذاء. كما يبين النص القرآني أيضا أن الله سخرّ البحار وما تحويه من ثروات لتكون مصدرا لغذاء الإنسان. وللمزيد من تحبيب البيئة للإنسان وإقامة علاقة تكامل وارتباط بينهما، يركز الخطاب القرآني على كون البيئة ليست مصدرا ماديا للبشر فحسب، بل مصدر أيضا لاستمتاعهم بالجمال واكتساب الحكمة والمعرفة، إذ لا يمكن أن يعيشوا دون ذوق جمالي، ودون زاد معرفي يمكنهم من اكتشاف أسرار الطبيعة. وبخصوص الجانب الجمالي، تلفت النصوص القرآنية انتباه الإنسان إلى مظاهر الجمال في البيئة، وتعرض عليه نماذج منها، وتحثه على التأمل فيها والاستفادة من منظرها لتغذية حاسته الجمالية، لأن الاستفادة من جمال البيئة يؤدي إلى إشباع حاسة الجمال لدى الإنسان، ويولّد لديه مشاعر الحب والعطف والرفق بالطبيعة، وغيرها من أشكال الحس الأخلاقي الرقيق، ما يجعله يحافظ على مواردها، ويسعى إلى تنميتها بكل الوسائل. أما الاكتساب المعرفي من البيئة فيتجلى في أن الإسلام جعل منها خزانا لمعرفة الحقائق التي يسعى الإنسان إلى اكتشافها: ((قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ )) (العنكبوت/20). والسير في الأرض كما هو وارد في هذه الآية، إنما هو سلوك بيئي معرفي، فحينما يدرك الإنسان أسرار الطبيعة من خلال التأمل فيها تشيع في نفسه الطمأنينة، وينجذب إلى البيئة، ويشعر بكثير من التعاطف معها. فالإسلام يستهدف تحبيب البيئة للإنسان من خلال سرد عدد كبير من المنافع المادية وغير المادية التي تقدمها له، وهي منافع مادية وجمالية ومعرفية. ومع أن الحديث النبوي القائل: ((أكرموا عمّتكم النخلة، فإنها خلقت من طينة أبيكم آدم))، لا يرقى إلى مرتبة الأحاديث الصحاح، فإنه يحمل دلالة إيحائية على حرص العقل الإسلامي على إكرام شجر النخل وسعيه الحثيث إلى خلق وشائج من النسب بينها وبين الإنسان، وهو نسب العمومة، ما يؤكد ما سبق أن ذكرناه حول فلسفة الأخلاق في الإسلام، القائمة على جعل الإنسان منتميا ومنتسبا إلى البيئة. ومن الأكيد أن الإنسان عندما يحسّ بهذا الانتماء النسبي "البيولوجي"، وتتماهى ذاته مع البيئة، فإن سلوكه يتميز بأخلاقية عالية، وحرص فطري على المحافظة على موارد البيئة، فتنعدم لديه معاني الاستهتار واللامبالاة بها وحبّ احتكارها، وغريزة العدوان عليها؛ ويصبح بهذا السلوك وكأنه يتعامل مع أخيه أو أي كائن ممن يحبه من بني جنسه، حسب القواعد التي يمليها عليه ضميره الأخلاقي، بما يحفظ حقوق البيئة ويحميها من الهدر والاستنزاف. وحين تكون للإنسان هذه المرجعية الأخلاقية في تعامله مع البيئة، تصبح الأهداف التي تسطّرها القمم العالمية حول تدبير الأزمات البيئية أهدافا قابلة للتحقيق. *أكاديمي ومؤرخ مغربي