تضطلع جمعيات وهيئات الدفاع عن حقوق الإنسان "Watchdog"، بعدة مهام وصلاحيات تتصل بتعزيز الحكامة الأمنية، وتوطيد المراقبة المواطنة على عمل السلطات العمومية، من بينها إحداث آليات لرصد مزاعم انتهاك حقوق الإنسان، والتحري حول صحتها، ومراسلة السلطات المعنية بشأنها، وذلك قبل إصدار بلاغات كتابية تشير فيها إلى المعاينات والتوصيات والمطالب التي انتهت إليها إجراءات التقصي. ولئن كانت مهمة "الرقيب" هي من صميم اختصاص منظمات المجتمع المدني العاملة في مجال حقوق الإنسان، إلا أن النهوض بهذه المهمة يبقى مشروطا بمدى قابلية المنظمة أو الجمعية المعنية لتطوير فهم شامل لموضوع الحكامة الأمنية، وأن يكون تملّكها لهذا المفهوم في مستوى باقي الشركاء والمتدخلين المؤسساتيين سواء في مجال التشريع أو القضاء أو الأمن وغيرهم. كما أن مهمة الرقيب، بالمفهوم المعتمد في مجال حقوق الإنسان، تقتضي التجرد من التوظيفات السياسية والإيديولوجية، والنأي عن المنطلقات الحزبية، والابتعاد عن تحقيق المكاسب البرغماتية، أو خدمة أجندات خاصة بعيدة عن الدفاع الجاد عن منظومة حقوق الإنسان. كان ضروريا التعريج على هذه الفكرة، لنفهم بعض مرتكزات تدخل المجتمع المدني في مجال حقوق الإنسان، ولنعرف أيضا هل صادف منتدى الكرامة لحقوق الإنسان جادة الصواب، أم أنه أساء التقدير، عندما أصدر بلاغا أصليا وبلاغا آخر توضيحيا، في إطار التفاعل مع وفاة محسن فكري، وهي القضية التي باتت تعرف في الإعلام الوطني بقضية "سمّاك الحسيمة". البلاغان: الشيء ونقيضه. في البلاغ الأول، الذي أصدره منتدى الكرامة ثلاثة أيام بعد الفاجعة، جزم، بصيغة التأكيد والتوكيد، على أن حجز أسماك الفقيد محسن فكري من طرف الشرطة، خارج الميناء والقيام بإتلافها في الشارع العام !، هي أمور لا يمكن أن يغطيها عمل النيابة العامة، وأنها إجراءات يعوزها التقعيد القانوني، لأنها ، بحسب تعبير المنتدى، "تبتعد كل البعد عن تطبيق مقتضيات الظهير بمثابة قانون الصادر في 23 نونبر 1973 المتعلق بتنظيم الصيد البحري، كما وقع تعديله وتتميمه". كما جرح المنتدى، بتشديد الراء، في النيابة العامة لدى محكمة الاستئناف بالحسيمة، وفي الفرقة الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، وطالب بتكليف نيابة عامة أخرى لتسيير البحث في القضية، فضلا عن فتح بحث موازي من طرف الفرقة الوطنية للدرك الملكي. أما البلاغ الثاني، الذي أصدره المنتدى في 7 نونبر الجاري، أي بعد أسبوع من البلاغ الأول، عاد منتدى الكرامة بصيغة أكثر تلطيفا ومرونة، وقال بأنه "يتابع بدقة واهتمام مسار التحقيق الذي يشرف عليه الوكيل العام للملك بالحسيمة"، والذي كان قبل عشرة أيام فقط جزءا من المشكل قبل أن يصبح اليوم جزءا من الحل. كما أن البلاغ أسقط من قائمة مطالبه إجراء تحقيقين في النازلة، دون أن يقدم للرأي العام أي تفسير مقنع لهذا الارتداد بنسبة 180 درجة. وفي البلاغ الأول كذلك، زعم منتدى الكرامة أن تدخل عناصر الأمن الوطني في القضية مشوب بعيب "انعدام الصفة"، التي هي مناط الاختصاص النوعي، قبل أن يؤكد في البلاغ الثاني بأن صلاحية التحقق من المخالفات المرتبطة بالصيد البحري هي من اختصاص هيئات وأجهزة توجد من بينها فئة ضباط الشرطة القضائية التابعين للمديرية العامة للأمن الوطني ! مع تمييزه بين صلاحية المعاينة والبحث وصلاحية المطالبة بتحريك الدعوى العمومية. ما الذي جرى إذن، بين 31 أكتوبر (تاريخ البلاغ الأول)، و7 نونبر (تاريخ البلاغ الثاني)؟ هل أصغى حامي الدين لعين العقل القانوني وفطن إلى انزلاقاته ؟ أم أن معطيات جديدة طفت على السطح وجعلته يتراجع عن مواقفه المبدئية مما أسقطه في فخ التناقض؟. من المؤكد أن المديرية العامة للأمن الوطني كانت قد أصدرت بلاغا رسميا في أعقاب البلاغ الأول لمنتدى الكرامة، قدّمت فيه قراءة قانونية لمقتضيات الظهير المنظم للصيد البحري، وحددت الأساس القانوني لتدخل عناصرها في قضية وفاة محسن فكري، وهو البلاغ الذي تعاملت معها الصحافة الوطنية على أنه رد مبطن على ادعاءات منتدى الكرامة، وإن كانت مصالح الأمن قد فضلت أن يكون بلاغها بشكل متجرد وعام دون الإشارة إلى جهة بعينها. البحث عن محضر المخالفة ! (لا تسألوا عن أشياء إن تُبدَ لكم تسؤكم) في البلاغ الأول والثاني، ردد منتدى الكرامة لحقوق الإنسان نفس التساؤل، "من هم الموظفون المخولون أو ضباط الشرطة القضائية الذين أنجزوا محضر مخالفة المرحوم محسن فكري؟" وهو سؤال موجه للاستهلاك الإعلامي ولا يخلوا من مناورة مكشوفة، على اعتبار أن منتدى الكرامة لا يريد جواب عنه، وإنما يريد خلق حالة من الغموض واللبس والارتياب. لأنه لو كان بحاجة فعلا إلى جواب على هذا التساؤل، فقد كان حريا به أن يطرحه بشكل مكتوب إما على الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بالحسيمة، باعتباره الجهة التي أشرفت على البحث، أو على مندوبية الصيد البحري المختصة نوعيا في تحريك المتابعات القضائية في هذا الصنف من القضايا، أو كان بإمكانه استغلال علاقة الصداقة والارتباط الحزبي مع وزير العدل والحريات ويطرح عليه السؤال مباشرة. أما وإن الغاية لم تكن بتاتا هي الحصول على المحضر المذكور، وإنما كانت هي إحداث فرقعة إعلامية، وجلبة في النقاش العمومي، و"تقطير الشمع" على السلطات العمومية، فإن منتدى الكرامة فضل طرح هذا الإشكال في صورة سؤال عام دونما حاجة إلى انتظار الجواب. لكن منتدى الكرامة لم يكن يدرك أن طرحه لهذا السؤال سيجعله كمن يصيح بأعلى صوته في قعر بئر مهجور، سرعان ما سيرد عليه الصدى بجواب لم يكن ينتظره ! بالفعل، يؤكد مصدر أمني، لقد حرر ضابط الشرطة القضائية بمدينة الحسيمة محضرا رسميا بعد توقيف سيارة نقل الأسماك، وأحاله مباشرة على مندوب الصيد البحري بأمر من النيابة العامة، مرفقا بالأسماك المحجوزة والسيارة المستعملة في النقل، مع تذييل الخطاب بالعبارة التالية "أحيله عليكم لاتخاذ المتعين قانونا طبقا لتعليمات النيابة العامة". هل يشفي هذا الجواب غليل عبد العلي حامي الدين، أم أنه سيصدر بلاغا ثالثا يبحث فيه عن عيب أو خلل وهمي في إجراءات الضابطة القضائية، وذلك من منطلق المثل الشعبي " مالك مزغب". وفي انتظار ذلك، نتمنى أن يستحضر منتدى الكرامة فكرة محورية مؤداها أن الانتصار لقضايا حقوق الإنسان لا يعني بالضرورة التشكيك في عمل عناصر الأمن ومخاصمة إجراءات الشرطة القضائية، لأن الأمن قبل أن يكون خدمة عمومية، وقبل أن يكون مرفقا عموميا، فهو في الأصل حق من حقوق الإنسان (الحق في الأمن).