حدد قانون الأحزاب بالمغرب مهام الهيئات السياسية وأدوارها، وجعل من وظائفها الأساسية تأطير المواطنين، وضمان تمثيلة أصواتهم لدى المؤسسات الدستورية، إلا أن الكثير من فصوله، باتت غامضة، وتتطلب مراجعة حقيقية تروم إلزام الأحزاب السياسية بتقديم دفتر تحملات صحبة وثائقه القانونية، كإجراء يروم تأهيل المشهد السياسي، وحمايته من داخله، وتوفير شروط صحية ومناعة قوية ضد ما يتهدده من اندحار وشلل السياسي محتمل، وذلك في إطار بيئة سياسية سليمة تروم صيانة مسلسل الديمقراطية الصاعدة التي انخرط فيها المغرب. وليتمكن الحزب من تطوير مؤسساته، والعمل على تجدر أفكاره ومشاريعه لدى جميع الشرائح المجتمعية، يتعين على القائمين بشؤون إدارته توفير الشروط المادية، والمعنوية، والقانونية المتعارف عليها في التدبير المؤسساتي المحترف، والرامية إلى تحفيز الفاعل السياسي على المساهمة في الدفع بعجلة هيئته الحزبية، والدفاع عن مبادئها، وحمل لواءها في إطار رؤية شموليه تروم تعبئة الموارد البشرية والمادية، وتسخير الطاقات من أجل تحقيق مختلف الأهداف في الأمد الطويل. وتتمة لما رصدناه في مقالتنا السابقة من أبراز لمعالم ومجالات العجز السياسي لدى الأحزاب المغربية، وقوفا عند أسباب الوهن الذي أصابها إبان العقد الماضي، نعرض في هذا التحليل الرامي إلى تسليط الضوء على أساسيات العمل المؤسساتي الاحترافي، ونقترح لمجالات إضافية وأدوات ومقاربات من شأن العمل بها أن تساعد الحزب السياسي على تنظيم نفسه، وتطوير فعاليته ليتمكن بعدها من تحقيق أهدافه، وتحرير هياكله من الرتابة في الأداء، ومن الأساليب الركيكة والعتيقة التي ترهن حركته في إطار مشهد سياسي يتسم بالتعقيد الشديد. دينامية الولوج الحزبي والبرمجة إن تفعيل هذا المحور في مخططات وبرامح الحزب كإجراء يروم توفير أدوات متجددة تدعم وظائفه، وتقوي قدرته على الجذب انسجاما مع الأحداث السياسية اليومية، ومع مختلف القضايا والانشغالات المجتمعية، وتمكنه من بسط قنوات جديدة تفتح باب الولوج أمام لأعضاء الجدد ضمن هياكله والانخراط في مؤسساته، هو ما يبعث على بث النشاط والحيوية في التنظيم، وضخ دماء جديدة في منظماته. برمجة الولوج إلى الحزب وتوسيع العضوية تكمن قوة الحزب في قدرته على تجنيد الفئات الشعبية الواسعة، وتعبئتها يشكل مستمر رغبة في إدماجها والرفع من نسبة الولوج والانخراط في التنظيم الحزبي، وتتطلب عملية توسيع قاعدة الحزب صياغة مخطط الولوج الحزبي مع الأخذ بعين الاعتبار بعدة أبعاد أساسية من حيث الكم (بقدر ما توفر الحزب على مناضلين بقدر ما يضمن التمثيلية داخل مؤسسات الدولة)، ومن حيث الكيف (بتطوير الحزب واكتسابه لمجموعة من الكفاءات الإدارية المرتبطة بوظيفته، والتي تضمن له الفعالية في الأداء على عدة مستويات في مختلف تنظيماته الحزبية). برمجة الأنشطة وتحقيق الأهداف تشكل حركية الأعضاء الجدد، مطلبا أساسيا يروم تفعيل عمل المكاتب المحلية، والإقليمة،والجهوية، والوطنية، وخلق دينامية متواصلة تروم المساهمة في إنجاح الأنشطة الحزبية، وذلك من خلال تتبع جدول أعمال وقرارات الاجتماعات، وتقيم نتائج الأنشطة، وتدبير الاختلاف، وحل الأزمات، وفض النزاعات، واعتماد أليات تشاور تساهم في خلق الأثر الإيجابي لدى الفئات المستهدفة على جميع المستويات الترابية والاجتماعية والمؤسساتية. تطوير التمويل والمفهوم المقاولاتي للحزب السياسي. تطرح المصادر المالية للحزب تحديات حقيقية قانونية وأخلاقية، خاصة في ظل تفشي ظاهرة الريع الذي يطغى على الاقتصاد الحزبي بالمغرب، وبدلا من أن تطور االهيئات السياسية ماليتها انطلاقا من نظرة مقاولاتية تعتمد على التمويل الذاتي (استثمار في منابر إعلامية تخدم أهداف الحزب، وبيع مجسمات ووثائق حزبية، وتنظيم أنشطة سياحية..الخ)، تستمر الأحزاب المغربية في رهن قراراتها بتمويلات الدولة، مما يساهم في تكريس التبعية، والخضوع لشروط اللعبة السياسية، وذلك بالاعتماد على تمويلات الأعيان مقابل المقاعد المحلية والبرلمانية، والانخراط في أجندات الجهة الممولة، مما يهدد الأحزاب في استقلاليتها، وخاصة أمام الوضعية المالية المزرية التي يعاني منها جل الأعضاء، وغياب المحفزات على الولوج إلى التنظيمات الحزبية (عدم الرغبة) كنتيجة لغياب الثقة في قيادات تنعدم فيها المسؤولية الأخلاقية. تدبير العلاقة العامة وتطوير الشراكات بالاعتماد على مقاربات ناجعة وأدوات تنظيمية تروم خلق منظمات موازية للحزب السياسي، وتطوير علاقاته العامة مع مختلف الطيف السياسي، وباقي المتدخلين الاقتصاديين، والاجتماعيين، والحفاظ على ديمومتها، يتمكن الحزب من أجراءة رؤيته، وتنزيل مشروعه المجتمعي، وتدبير تموقعه في المشهد السياسي، إذ لا غنى للمؤسسة الحزبية عن قوى موازية وضاغطة تروم المساهمة من خلال قنواتها تدبير الشأن العام والتأثير فيه، وتغيير واقعه، وتوسيع دائرة المتعاطفين مع الحزب، والتحرر من دائرته الضيقة التي يدور في فلكها أعضاءه، وتقوية فرصه في استمالة أصوات الناخبين في المحطات الانتخابية. تأمين التواصل اليومي مع المتعاطفين وتحسين صورة الحزب عبر وسائل الإعلام يمثل العرض السياسي للحزب وأخباره، ومواقفه إزاء قضايا الشأن العام في البلاد مدخلات أساسية لفهم سلوكيات قياداته، وتتبع الوظائف والمسؤوليات المجالية التي يتحملونها في التنظيم الداخلي، كمنتوج حزبي بات يتطلب في عصرنا الحديث التعريف بمضامينه من خلال إشراك المتعاطفين في قضايا الحزب، وبسط قنوات تواصل جديدة غير مكلفة وسريعة تروم التعريف بأنشطته عبر مواقع التواصل الاجتماعي، من فيس بوك وتويتر، ومواقع إليكترونية، وحملات الدعاية عبر البريد الاليكتروني، مع التركيز على تحسين صورة الحزب عبر الفضاء الإعلامي في كل المناسبات. تحتاج الكثير من الأحزاب المغربية إلى إعادة النظر في طرق اشتغالها، وذلك من خلال إيلاء مزيدا من الاهتمام بالقضايا التنظيمية وهيكلتها، وملائمتها مع التحولات المجتمعية في مجالات الثقافة، والتسييس، والبحث عن المعلومة، والتعبير عن الحق في الاحتجاج عبر وسائل التكنولوجيا الحديثة، والقدرة على ترجمتها إلى وقفات ومسيرات ميدانية. وعموما، تبقى مشكلات الهيكلة الحزبية من القضايا المرتبطة بغياب الإرادة السياسية، وضعف التنظيم، والتقصير في برمجة الأنشطة، وغياب البصمة الحزبية وأثرها على المجتمع، صحيح أن الأخلاق السياسية تتغير من حزب لأخر، إلا أن الديمقراطية لا تكتمل إلا بتصحيح مسار الأحزاب وتأهيل تنظيماتها، ونمذجة أسلوبها في العمل، وتحديد سقف حد أدنى من التوافق حول أساسيات العمل الحزبي، والالتزام بقواعده في ظل مشهد حزبي صلب وقوي يدعم الإجماع الوطني، ويجنب البلاد الوقوع في منزلقات الفتنة والتفرقة، والنزاعات المستنزفة لطاقاته، ولموارده المادية والبشرية.