يوما بعد آخر تزداد ضراوة معارك تحرير مدينة الموصل، مركز محافظة نينوى، شمالي العراق، من تنظيم "داعش". وبالتزامن تزداد أوضاع المدنيين تدهوراً، في ظل حرب شوارع تدور في أحياء سكنية عدة شرقي المدينة، منها: عدن، الإخاء، القدس، شقق الخضراء، الانتصار، الزهراء، والشيشان. وبعد أن انهار خط الدفاع الأول لمسلحي "داعش" في منطقة كوكجلي، باتوا يعتمدون على القناصة والسيارات المفخخة والعبوات الناسفة، في محاولة لإعاقة تقدم القوات الحكومية والمليشيات الموالية لها. وبإسناد جوي من التحالف الدولي بقيادة الولاياتالمتحدة، تواصل القوات الحكومية تقدمها وسط أحياء سكنية، وهو ما يرد عليه "داعش" بقذائف هاون كثيرا ما تخطئ هدفها، لتصيب مبان سكنية. وفي ظل هذا الوضع الميداني، تكاد تنعدم المياه الصالحة للشرب شرقي الموصل، ويفتقد السكان للتيار الكهربائي؛ جراء تعرض أبراج نقل التيار لأضرار جسيمة، وامتناع أصحاب مولدات الكهرباء الأهلية عن تشغيلها وتزويد المواطنين بالطاقة؛ خشية التعرض للقتل. ومن بين سكان الموصل المحاصرين في هذه المعارك عائلة "أبو أحمد" المكونة من ستة أفراد وتسكن حي القدس شرقي المدينة. بعد جهد كبير، تمكنت الأناضول من التواصل مع "أبو أحمد" عبر إحدى شبكات الهاتف النقال، ليروي جانبا من المأساة. يقول الرجل الذي فضّل عدم ذكر اسمه كاملاً خشية على حياة أسرته من ملاحقة التنظيم: "لا يوجد تيار كهربائي، فمنذ يومين ونحن نقضي الليل على أضواء المصابيح النفطية (الكيروسين) ولم نعد نرى الشارع ليلا". وعن مدى قربهم من القتال الدائر، يوضح أن "جميع من في المنزل يسمعون أصوات الانفجارات والطلقات النارية المتبادلة بين مسلحي داعش والقوات العسكرية (الحكومية)". ويتابع بقوله: "وضعت جميع أفراد أسرتي في غرفة واحدة.. أغلقت أبواب المنزل بإحكام، ووضعت أشرطة لاصقة على زجاج النوافذ؛ لعله لا يتهشم جراء الانفجارات والقصف المتواصل". ويخشى "أبو أحمد" من احتمال نفاد المواد الغذائية في منزله، حيث "تعتمد العائلة على ما لديها من خزين غذائي في إعداد الوجبات اليومية، ولم يعد أي من أفرادها قادر على الخروج لشراء ما تحتاجه؛ بعد أن اشتد القتال في المنطقة". وعن عدم نزوحه مع العائلات التي خرجت من الموصل في بداية المعارك، يجيب: "سمعت عن مأساة العائلات التي نزحت إلى مخيم الخازر، وما تواجهه من أوضاع صعبة للغاية في ظل التقلبات المناخية القاسية التي تمر بها المنطقة؛ لهذا فضلت البقاء في منزلي حتى وإن كان مصيري الموت". ويتراوح سكان الموصل بين 1.2 و1.5 مليون نسمة.وحتى اليوم نزح منهم قرابة ثلاثين ألف شخص، توجه بعضهم إلى مخيم الخازر في إقليم شمال العراق، والذي يقول القائمون عليه إنه يتسع لأربعين ألف شخص. ويختم "أبو أحمد" قائلا: "نحن محتجزون في المنزل.. لا يوجد ما نخسره أكثر؛ فطيلة العامين الماضيين اللذين قضيناهما تحت سيطرة تنظيم داعش، كانت حياتنا معرضة للخطر كل يوم". ومنذ السابع عشر من الشهر الماضي، تتواصل عملية عسكرية لاستعادة الموصل من "داعش"، بمشاركة 45 ألفاً من عناصر الجيش والشرطة العراقية، مدعومين بالحشد الشعبي (مليشيات شيعية)، وحرس نينوى (سني)، إضافة إلى "البيشمركة"، وهي قوات إقليم شمال العراق. جانب آخر من مأساة المدنيين في الموصل يرويها "سامر"، وهو أحد سكان حي الشهداء، وفضل الاكتفاء بذكر اسمه الأول، لدواعٍ مماثلة. ففي اتصال مع الأناضول، يقول "سامر" وهو في العقد الرابع من عمره: "خرجت على دراجتي الهوائية من حي الشهداء إلى النور في الجانب الأيسر من الموصل، بحثا عن محل (متجر) لبيع الخبز، لكن وجدت كل المحال مغلقة، فعدت بلا خبز". وعن كثافة مسلحي "داعش" في المناطق التي مرّ بها أثناء رحلة بحثه عن الخبز، أشار إلى أنه "لم يلتق بالكثير منهم كما في السابق". ومع اقتراب واحتدام المعارك في الشوارع لم يعد ممكنا شراء المواد الغذائية من المحلات، فبحسب سامر، "أُغلقت جميع المحال التجارية أبوابها، وباتت الشوارع خالية من المارة، لتبدو المدينة وكأنها مدينة أشباح". وبضيق وغضب، يختتم حديثه: "الظرف الحالي داخل المدينة صعب للغاية؛ فالجميع في انتظار الحسم وتحرير الموصل من مسلحي داعش الذين يسيطرون على المدينة منذ صيف عام 2014". المشهد في الموصل، بحسب رويات بعض سكانها، يبدو قاتما، وربما يزداد تدهوراً أكثر وأكثر خلال الأيام القليلة الماضية؛ مع استمرار توغل القوات الحكومية في أحياء سكانية جديدة. وما يثير رعب المدنيين في الموصل هو احتمال تمكن مسلحي "داعش" من الصمود طويلا؛ وهو ما يهدد بنفاذ المواد الغذائية والمستلزمات الصحية، وربما يدفع المدينة إلى كارثة إنسانية.