على امتداد الأسبوع الذي تلى وفاة محسن فكري، تداولت وسائل الإعلام، ووسائط التواصل الاجتماعي، ثم جزءاً كبيراً من الرأي العام كلمة "الحكرة"، التي رُفعت في الشعارات التي عمّت الميادين والساحات، وأخذت بعض الخرجات الاحتجاجية اسم مسيرات الكرامة ضد الحكرة؛ ثم كلمة "الفتنة"، التي نُعتَ المحتجون بكونهم يدعون إليها ويحرضون عليها. واضحٌ أن خطاب الفتنة ليس جديداً، بما يحمله من تخويف وتخوين أحياناً، ضد ممارسات وتصورات ووجهات نظر، لا تكون دائماً متطابقة مع ما نعتقده ونؤمن به؛ خطاب الفتنة يستفيد من عائدات التغيير المادية والرمزية دون أن يساهم في تسديد فاتورته، التي تقتطع من دموع الأمهات وحياة الشهداء، خطاب الفتنة ذاكرته قصيرة وبُعد نظره آني ومرحلي، يتدثر خلف رداء التعقل والحكمة وادعاء النضج، نسيّ أن ما تحقق كان بفعل تضحيات لا يمكن لأحد اليوم أن ينكر فضل أهلها. سياق حديث الفتنة، جاء إثر رفع رايات تحيل على دعوات انفصال الريف عن الدولة المركزية كما تأسست في المغرب منتصف خمسينيات القرن الماضي، وهي نزوعات ليست جديدة، بحيث انتعشت قبلها فكرة الإطاحة بالمَلكية، فكانت المحاولات الفاشلة التي يعرفها الجميع. خطاب الانفصال لم يعد يغري أحداً، لكنه ينتعش في لحظات الأزمة، ومحاربته والتصدي له ومحاولة استئصاله من عقول الناس والمؤمنين به، ثم إدخالهم إلى السجن، بناءً على أفكار ومعتقدات خارجة عن الإجماع، كمن يطارد الساحرات، لأن الجواب على عقيدة الانفصال، يتعيّن أن يتأسس على معطيين اثنين: الجواب الأول: ضرورة فتح المجال السياسي أمام التعددية والحرية المسؤولة، بما يعنيه ذلك من الكف عن التدخل في المجال الحزبي والنقابي والجمعوي، وضرب العمل السياسي الجاد والمستقل، ثم حفظ الحقوق وصون الحريات واحترام كرامة الإنسان المغربي أينما كان، وجعله معتزاً بمغربيته وبوطنه، عبر تعزيز وترسيخ مواطنة حقيقية، بالإضافة إلى جعل القانون أسمى تعبير عن إرادة الأمة، يخضع له الجميع على قدم المساواة، بما يعنيه ذلك من إعادة الثقة لسلطان القانون وهيبة المؤسسات. الجواب الثاني: لا أحد ينكر العلاقة القائمة بين السياسي والاقتصادي، فأحدهما يؤثر في الآخر، وبالتالي فإن الجواب الاقتصادي عن أي خطاب انفصالي أو انقسامي في إطار وحدة الدولة المُؤسَّسة على جهوية متقدمة بصلاحيات موسعة، يجب أن يقوم على محاربة الفساد والريع والتوزيع غير العادل للثروة، وهي وصفة عملت الدولة على تجريبها في الأقاليم الجنوبية بعدما تيقنت بأن هذا الاختيار هو عين العقل، رغم اصطدامه في التنزيل بمقاومات متعددة. الجواب الاقتصادي يجب أن ينفذ إلى عمق المشاكل الاجتماعية التي يعانيها المغاربة يومياً، خصوصا التعليم الذي اعترف الجميع بفشل وصفات إصلاحه، والصحة المعتلة بحيث أن مستشفيات المغرب لا تسرّ عدواً ولا تفرح صديقاً، وبطالة الشباب القلب النابض للمجتمع، وسكن غير لائق، إنها أربع أولويات ملحة، في وقت لا يمكن لعاقل أن ينكر المجهودات المبذولة خلال العقد ونصف الماضي على مستويات متعددة منها الاقتصادي والاجتماعي والحقوقي والسياسي. لقد أبانت وفاة محسن فكري في عمقها على معطيين على قدر بالغ من الخطورة: أولاً: إذا كان خطاب التغيير في ظل الاستقرار، وأن المغرب هو البلد الآمن في محيط اقليمي وعربي متفجر، خطاب معقول وحكيم، فإن شرط الاستقرار هو الثقة، لأن العديد من المغاربة اليوم لا يثقون في المؤسسات، لا يثقون في التدابير التي تعلنها الدولة في حالة الأزمة، لا يثقون في حسن نية الدولة مهما عبّرت عنها، وذلك راجع إلى عقود من سوء الفهم بين الدولة وبين المواطن الذي يسمى بصيغة الجمع: الشعب، الدولة لم تتعود استشارة الناس، واشراكهم في تدبير الموارد المادية والرمزية، بل تعودت على تدبير فردي ممركز لا يأخذ بعين الاعتبار رأي الناس وما يشتهون. مؤشرنا على ذلك، أنه ليلة وفاة محسن فكري، كان الشغل الشاغل للمحتجين في الحسيمة وهم يحاورن عامل الاقليم ووكيل الملك، هو البحث عن الضمانات، مع تذكير المسؤول الترابي والمسؤول القضائي بالقضايا التي فُتح حولها تحقيق لم تظهر نتائجه بعد. ثانياً: أضحت السمة البارزة للخطب الملكية في الآونة الأخيرة، ذات نَفَسٍ نقديِّ، كاشفٍ لمشاكل المرفق العمومي، وناقدٍ لأداء المؤسسات المنتخبة وغير المنتخبة، بحيث تستهدف مواضيع وقضايا اجتماعية تهم التعليم والإدارة وتوزيع الثروة، في الجهة المقابلة هناك تنامٍ مضطرد لخطاب السياسات العمومية، خصوصاً بعدما خصص له دستور 2011 حيزاً مهماً، لكن المفارقة المثيرة في هذا الصدد هو أن العائد المادي لا يصل إلى المواطن حيث هو، وأن السياسات العمومية لم تساهم في حفظ كرامة المغربي، وذلك بسبب الفساد الذي يشبه قاطع الطريق، فكان أكثر من الفتنة وأشد. إن الاحتجاج سلوك إنساني متأصل في الذات البشرية، يأخذ شكلاً فردياً في حالة التعرض للظلم أو الحيف أو انتهاك حق من الحقوق، أو يأخذ أشكالاً جماعية أكثر تنظيماً. ومن ثمَّ فإن وظيفة الاحتجاج تُفهم في سياق تفكيك بنية ميزان القوى، التي تميل لصالح السلطوية كلما ترهلت التنظيمات السياسية والنقابية والطلابية. إن الاحتجاج والضغط الشعبي يعدّلان ميزان القوى لصالح مطالب الحرية والكرامة وحقوق الإنسان، في هذا الصدد يمكن استحضار مثال الحراك الشعبي إبان دينامية حركة 20 فبراير، فقبل الحراك حصل إجماع لدى الباحثين في علم السياسة والقانون الدستوري أن إجراء تعديل دستوري لم يكن مطروحاً ضمن الأجندة السياسية، لأنه وقع تقدير لدى الفاعل السياسي المركزي، أن الاجتماعي أولى من السياسي، فكان الحديث عن المفهوم الجديد للسلطة، ثم مدونة الأسرة، والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية. وبالتالي فإن تغيّر ميزان القوى سنة 2011، عجّل بتعديل الدستور، من خلال مجموع المكتسبات التي حملها، مع الحاجة إلى المزيد من العمل من أجل تحقيق دولة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. لقد وقع تقدير لدى بعض العقلاء مفاده أن تقسيم المغاربة إلى جهتين: الداعين إلى الاحتجاج عقب وفاة محسن فكري هم شياطين ودعاة للفتنة والتقسيم ومناهضي الاستقرار، ويتربصّون بالمغرب بالدوائر، ويهددونه في أمنه، وأن المتخلفّين عن الاحتجاج ملائكة وذوو حكمة وتبصّر وبعد نظر، لا يفي بالغرض، ولا طائل من وراءه، وأن الصورة العامة ليست بهذه السوريالية، وخير مثال أمامنا هو حراك 20 فبراير الذي كان حضارياً، وتدخلت الدولة كثيراً بعنف لكسر جماجم الشباب المحتجّ، ثم الدينامية الاحتجاجية التي وقعت بعد الافراج عن دانيال كالفان مغتصب الأطفال، وجاءت الدينامية الاحتجاجية بعد وفاة محسن فكري، وهي ثلاث محطات الأقوى في ظرف الخمس سنوات الماضية منذ الأحد 20 فبراير 2011 إلى الأحد 30 أكتوبر 2016، وبين هاذين المحطتين جرت مياه كثيرة تحت جسر المجتمع، الذي أصبح أكثر وعياً بأن الاستقرار اختيار لا خلاف حوله، ولكن في ظل دولة تحترم حرية الإنسان المغربي ولا تحتقره ولاتمتهن كرامته. *باحث في العلوم السياسية وحقوق الإنسان، كلية الحقوق بوجدة.