الاشارة الاولى مباشرة بعد مقتل محسن فكري بين فكي آلة طحن الأزبال.. وعلى خلفية الضجة التي أحدثتها الواقعة الأليمة، خرجت أصوات مسؤولة في الدولة تطمئن المغاربة وتؤكد لهم بأن التحقيق سيأخد مجراه.. ثم خرج السيد رئيس الحكومة بتوجيه لأعضاء حزبه وللمتعاطفين معه، يقضي بعدم الاستجابة بأي شكل من الأشكال لأي احتجاج بخصوص ما أسماه بالحادث المأساوي. هذا التوجيه يمكن قراءته من عدة نواح، أبرزها لا يتمثّل في تملّص السيد رئيس الحكومة من دعم قضية عادلة، على الأقل لكونها تفجّر مأساتين نائمتين؛ الفساد الذي يعرفه قطاع الصيد البحري في المغرب عامة والحسيمة خاصة، ومعاناة التجار الصغار من طغيان بعض رجال السلطة؛ ولكن أنه لا يخص أعضاء حزبه فقط، إنما يخص المتعاطفين مع الحزب أيضا. قد يكون المقصود ب "المتعاطفين" -بحسب قول رئيس الحكومة- أولئك الذين صوتوا لحزب العدالة والتنمية في الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة، أو أولئك الذين كانوا سيصوتون عليه لولا أن حالت بينهم وبين ذلك ظروف، أو غلبوا على ذلك خيار المقاطعة.. ما بثه السيد رئيس الحكومة ليس أمرا ولا استجداء، ولكنه توجيه بحسب ما جاء في بلاغه. وهو لا يوجهه لأعضاء الحزب ولكنه يوجهه للمتعاطفين معه أيضا، لماذا يوجه ولا يأمر أو يستجدي؟ وهل يمكن أن يكون في التوجيه شيء من هذا وذاك؟ وأي أمارات يمكن استخلاصها من ذلك؟ يوجّه لأنه راجح العقل ولأنه في المقدمة: أن توجه الشخص، يعني أن لا سلطة لك عليه، لذلك لا تستطيع إعطاءه أمرا مباشرا، ولكنك من ناحية أخرى، تدرك أن هذا الآخر يُكنّ لك نوعا من الاحترام، يُقدرك، يُجلّ رأيك، يرى فيك بعض الحكمة.. وبهذا يمكن أن ينصاع لتوجيهك في حال انتصر رأيك على رأيه وفق ميزان عقله هو. أما حين تستجديه، فأنت في هذه الحالة أيضا لا تملك سُلطة على المستجدى، وقد يرى فيك عاقلا، وقد يرى فيك أحمقا، لكنك هنا تلجأ بكل الوسائل العاطفية المتاحة لديك لجعله يتأثر برأيك.. أما الأمر فلا يتطلب من الطرف المأمور أن يقتنع أو يتأثر، هو ملزم بالتنفيذ وحسب. هل وجه السيد رئيس الحكومة لأعضاء حزبه أمرا، و للمتعاطفين معه استجداء كل واحد منهما يلبس قناع التوجيه؟ ما الذي يجعل رئيس الحكومة يعتقد بأنّ هناك من بين المتعاطفين من يقدره رأيه، ويراه حكيما –في هذه القضية بالذات- إلى الحد الذي يجعله يُغلّبه على رأيه الشخصي؟ ألم يخش السيد رئيس الحكومة، وهو يبث توجيهه هذا إلى المتعاطفين مع حزبه أن يخسَرهم ويخسر ثقتهم بسبب دعوته لعدم التفاعل مع قضية إنسانية مؤثرة أشعلت في ذاكرة المغاربة كل حرائق الظلم التي راح ضحيتها بؤساء وهم يكدحون من أجل لقمة العيش؟ أسئلة لا نملك إجابات عنها.. لكن المؤكد أن هذا "التوجيه" بما يخفيه من دلالات قد جر على رئيس حكومتنا وابلا من الانتقادات الغاضبة، ولعل كثيرا من المتعاطفين مع حزبه لم يعودوا –بعد توجيهه- كذلك. هل خشي ابن كيران مِن أن يزلّ أبناء حزبه زلة برلمانية حزب الحصان ؟ البرلمانيون وأعضاء الأحزاب، هم أيضا مواطنون مغاربة، وقبل ذلك بشر تختلف مواقفهم وآراؤهم.. أن يكون هؤلاء ضد التظاهر أو معه فتلك آراؤهم الشخصية التي يتوجب علينا -نحن المدافعون عن قيم العدل والحرية- احترامها. أما أن تبلغ سلاطة اللسان، بواحدة ممن يفترض أنهم يمثلون الشعب ويدافعون عن مصالحه إلى حد وصف جزء لا يتجزأ من شعب هذا الوطن الكبير، بصفات عنصرية لا تروم إلا زرع رقعة من الحقد بين أبناء الوطن الواحد وإشعال نيران الفتنة؛ فإننا هنا لا نملك إلا أن نتأسف مرة أخرى لأن السيد رئيس الحكومة حرمنا من التعرف على الأصوات العنصرية في حزبه (إن وُجدوا) ! الإشارة الثانية: ظهر رئيس الحكومة في مقطع فيديو، وهو يعطي تصريحا آخر يقول فيه ما مفاده؛ بأن الدولة تقوم بواجبها من أجل معرفة ملابسات القضية فإذن ليس للاحتجاج معنى. ولأننا من المتعاطفين مع حزب العدالة والتنمية، الذين لا يُكنون له غير التعاطف، ولا يعتقدون بأي حال من الأحوال أن آراء السيد رئيس الحكومة في هذه الواقعة بالذات صائبة، فإنه يحق لنا أن نطرح السؤال التالي: هل للاحتجاج معنى أم أنه جهد ضائع؟ الاحتجاج ليس مرادفا للمظاهرة ليست المظاهرات إلا شكلا من أشكال الاحتجاج. الاحتجاج لا يعني بالضرورة النزول إلى الشارع، فهو قد يكون بالكلمة المنشورة في جريدة أو موقع إخباري أو تواصلي.. قد يكون من خلال عمل فني، من خلال تصريح لقناة تلفزية أو جريدة.. الاحتجاج كلمة شاملة، إنها تعبير عن الامتعاض والغضب إزاء موقف معين.. تعبير فيه كثير من الرجاء في أن يتحقق الهدف المنشود. وهدف المحتجين وهدف المسؤولين بمن فيهم السيد رئيس الحكومة واحد: معاقبة الجناة وضمانات حتى لا يتكرر هذا النوع من المآسي. فلم يخشى رئيس حكومتنا من الاحتجاج؟ المسألة بسيطة فلنفترض أن المسألة كما قال السيد رئيس الحكومة بسيطة (بحسب ما جاء في تصريحه) وسيسفر التحقيق فيها عن نتائج، فإننا باعتبارنا مواطنين مغاربة ننتظر من نتائج التحقيقات أن تجيبنا على الأسئلة التالية: من الذي اصطاد أسماك أبو سيف التي ضُبطت لدى سماك الحسيمة المغدور وهي في فترة راحتها البيولوجية؟ كيف تم الترخيص بخروجها من الميناء؟ ومن المسؤولون عن ذلك؟ لماذا تقرر إتلاف الأسماك عوض حجزها وتوزيعها على من هم أحق بها مِن ألسنة النيران والحشرات الضارة؟ " مندوب الصيد البحري أخبرنا بأنّ شحنة الأسماك يجب أن يتم رميها وسط النفايات، وهذا ظلم لأن الأسماك لا ترمَى، وكان يمكن أن يطالها حجز كي توجه إلى الاستهلاك بدار الأطفال (الخيرية) أو السجن المحلي أو دار العجزة، ولم يكن ذلك سيشكل لنا مشكلا وسيخفف من خسارتنا ل6 ملايين سنتيم" يقول أحد شركاء شهيد لقمة العيش محسن فكري، وِفق موقع هسبريس. أمن أجل إخفاء أثر الجريمة: اصطياد سمك في فترة يمنع فيها ذلك ؟ من الذي ضغط زر التشغيل وأمر بذلك وثمة إنسان في الشاحنة؟ وبعد الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، يصبح الحديث عن معنى الاحتجاج أوضح، على أن هذا الاحتجاج -إن تبينت للقارئ الكريم أهميته- يفترض فيه شيئين اثنين: أن يكون راقيا حضاريا يليق بشعب كان أذكى من أن تجرفه موجة الربيع العربي الدامي. وأن يكون مُركّزا مِن حيث المطالب؛ وأهمها تلك الظروف والحيثيات التي أدت إلى طحن المواطن الإنسان، والتي تطحن العديد من الفقراء الذين يجنون لقمة العيش بمنتهى المرارة بفعل تغطرس بعض رجال السلطة ممن باعوا ضميرهم ووطنهم. [email protected]