فى التاسع من شهر أكتوبر من عام 1967 لقي" إيرنيستو تشي غيفارا " مصرعَه فى أدغال بوليفيا ،وفى نفس التاريخ من العام الجاري 2016 مرّت الذكرى 49 لمقتله،وهو يُصدّر لمختلف مناطق العالم المقهورة - حسب إعتقاده - ثورة على الظلم، والحيف،والقهر، والعَنت، والتفاوت بين الطبقات الإجتماعية المستشري بين الناس ،هذا الرّجل الأسطورة الذي غدا - فى عُرف الكثيريين - رمزاً للكفاح، والتمردّ، والإنتفاض فى وجه الظلم ، والتظلّم فى مختلف أنحاء المعمور ، كان مقتنعاً بضرورة نقل الكفاح المسلّح إلى مختلف مناطق وأصقاع العالم الثالث، ولهذه الغاية أسّس جماعات تمرّد، و خلق حركات عِصيان ومواجهة ،وزرع بؤرَ حرب العصابات أو ما يعرف ب ( La guerrilla ) فى مختلف بلدان أمريكا اللاتينية وإفرقيا ، التي كان قد فجّرها، وسنّها البطل المِغوار محمّد بن عبد الكريم الخطّابي ورجالُه الصّناديد فى حرب الرّيف التحرّريّة الماجدة فى الرّبع الأوّل من القرن العشرين المنصرم . بتعاونٍ مع الجيش البوليفي، ووكالة الإسستخبارات الأمريكية تم ّ نصب كمين لغيفارا فى بولييفا منذ 49 سنة خلت فأردوه قتيلاً . يوم المُكافح البُطولي كانت بوليفيا ، والأرجنتين، وكوبا قد أحيت مؤخراً هذه الذكرى تحت رعاية الرئيس البوليفي إيفو موراليس نفسه ،حيث دشّن مؤسّسة تربوية وتعليمية كبرى فى مدينة " فايّي غراندي" تحمل إسم غيفارا تضمّ مدينة جامعية ،من المنتظر أن يستفيد منها حوالي1700 طالباً، وقد شاركت الأرجنتيين فى هذا الإحتفال بوفد هام يرأسه السفير الأرجنتيني فى العاصمة البوليفية " لا باث" ، كما حضر هذا الإحتفال مَنْ تُطلق عليهم كوبا ب: " الأبطال الخمسة" الكوبييّن الذي قضوا زهاء 17 سنة فى المعتقلات الأمريكية، والذين أطلق سراحهم بعد إعادة تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين كوبا والولايات المتحدةالامريكية فى ديسمبر(كانون أوّل) المنصرم. كما شارك فى هذه التظاهرة قائد عسكري كوبي كان قد وقع فى الأسر خلال الحرب الصومالية الاثيوبية وظلّ معتقلاً ما ينيف على 11 سنة،وقد ألقيت كلمات حماسية من طرف ممثلي هذه البلدان الثلاثة ذكّرت بما أسمَوْه ب: " كفاح تشي غيفارا من أجل التحرير والإنعتاق، الذي قدّم به خيرَ مثالٍ للعالم فى هذا القبيل" . ،كما قام الوفد الكوبي بإزاحة لوحة تذكارية وُضعت فى نفس المكان الذي عثر فيه على جثة غيفارا ورفاقه ،بالإضافة إلى إزاحة الستار عن مجسّم تذكاري كبير كان قد وُضع بجانب ضريح أقيم بنفس هذه المدينة لغيفارا.ويعرف اليوم الذي يُخلّد ذكرى مصرع غيفارا ب: " يوم المُكافح البُطولي" . ألحقت بشخصية تشي غيفارا صفتان إثنتان تقومان على طرفيْ نقيض ،وخلقت لدى الرّأي العام العالمي إتجاهين إثنين متباينين فمن جهة أصبح غيفارا لدى فئات غريضة من الناس رمزاً للثورة والتمرّد فى مختلف أرجاء المعمورضدّ الظلم، والتفاوت الطبقي، والإجتماعي فأصبح إسمُه يُقرن بالطبقات الكادحة، والفئات المقهورة، والشرائح البشرية العسيفة ، فى حين يعتبره آخرون مجرم حرب، تقع على عاتقة تهمة إقترافه للعديد من عمليات التقتيل الجماعي فى مختلف البلدان، وعلى وجه الخصوص فى أمريكا الجنوبية، وبعض البلدان الإفريقيّة . لقد أصبحت صورته الشّهيرة ذات القبّعة البريه السّوداء المستديرة التي تتوسّطها نجمة مشعّة التي كان قد إلتقطها له المصوّر الذائع الصّيت " ألبرتُو كُورْدَا " واحدة ًمن الصّور الأكثر شهرةً وإنتشاراً فى العالم على الإطلاق، كما أنّها تُعتبر واحدة من الصّور الأكثر إستنساخاً في مختلف أشكالها الأصلية ومتغيراتها، حيث إستُعمِلت،وما فتئت تُستعمَل فى العديد من التجمّعات، والتظاهرات ،والمسيرات ، والإحتجاجات السياسية، والنقابية، والعمّالية ،والطلاّبية، والإجتماعية ، وسواها ، كما أنها إستُغِلّت من جهة أخرى فى عالم الإشهار، والدعايات، والإعلانات ، وغدت تبعاً لذلك واحدةً من أشهر أيقونات رموز الحركات المتمرّدة ،والثائرة، والمضادّة فى مختلف أرجاء المعمور . صراع مع هيغل وجمود السّوفيَات لتشي غيفارا كتاب سجّل فيه "ملاحظاته الفكرية والفلسفية". وهي عبارة عن مخطوطات ، وإنطباعات، ومذكرات، ومراسلات، وخواطر، وآراء وتعاليق، وحواشٍ فلسفية، وتأمّلات فكرية و نظرية كانت قد قامت بجمعها، وتصنيفها الباحثة الجامعية الكوبية "ماريا ديل الكارمن أرييت" وكان قد كتب مقدّمتها المؤرّخ الكوبي فيرناندو مارتينيس إيريديا ، ويعالج تشي غيفارا فى هذه الملاحظات، والخواطر العديدَ من القضايا، والمواضيع الهامّة التي كانت تستأثر بإهتمامه، وتشغل باله فى تلك المرحلة المبكّرة من عمره ، وفي طليعتها فلسفة كارل ماركس حيث كان يقوم فى كلّ مناسبة ، أو كلّما سنحت له ذلك الظروف بقراءة ، وتحليل،وتمحيص، وإنتقاد أعمال المفكرين الكلاسكيين من الماركسييّن واللينينيين، كما كان يُعنى كذلك ببعض مؤلفات الكتّاب والمفكرين الذين كان تشي غيفارا يعتبرهم إشتراكيين هراطقة، أومارقين ، أو رجعيّين فى نظره . ملاحظات، و خواطر، ومذكرات إيرنيستو تشي غيفارا وآراؤه فى هذا القبيل هي عبارة عن تعاليق فلسفية، وتأمّلات نظرية مقسّمة إلى أقسام ثلاثة كبرى وهي قراءاته في مرحلة الشباب، والدفاتر والمذكرات التي كتبها في إفريقيا وبراغ وكوبا (1965-1966)، ثم خواطره،ويومياته، وملاحظاته المكتوبة في آخر المطاف ببوليفيا (1966-1967). رسالته الشّهيرة فى عام 1965 كان تشي غيفارا قد وجّه رسالةً شهيرةً إلى الزعيم الكوبي التاريخي " أَرْمَانْدُو إنْرِيكِي هَارْتْ " الذي كان يترقّب وصول تشي غيفارا فى " تنزانيا " بعد أن باءت الثورة فى الكونغو بالفشل. وبعد أن دخل الثائر الأرجنتيني خلسةً إلى بوليفيا فى ذلك الإبّان كتب يقول فى الرسالة الذّائعة الصّيت إيّاها الآنفة الذّكر أعلاه :" لقد حشرتُ أنفي- بعد هذه الفترة الطويلة من الإجازات- فى عالم الفلسفة ،الشئ الذي كنت أنوى القيام به منذ مدّة بعيدة ، وكان العائق الأوّل الذي يواجهني فى هذا الصدد هو أنه فى كوبا لم يُنشر شئ يُذكر، أو ذو أهمية حول هذا الموضوع ،بإستثناء بعض المراجع السّوفياتية التي لا تشجّع ، ولا تمنح، أو تُفسح مجالاً حقيقياً للتفكير والتأمّل ، ذلك أنّ "الحزبّ الشيوعي كان قد ناب عنك فى ذلك، وأنت ما عليك سوى الإنضباط والإنصياع ". ويضيف تشي غيفارا فى رسالته بلغة لا تخلو من السخرية والتهكّم والإزدراء قائلًا :" كمذهب يبدو فى الظاهر وكأنّه مناهض ومضادّ للماريكسية، وأكثر من ذلك فإنهم فى كثير من الأحيان يسبّبون لك الأذىَ، والأضرار،والمضايقات،والمتاعب ". أمّا الحاجز الآخر التي واجهني- يقول غيفارا- " فهو ليس أقلّ أهميّةً من سابقه ، إنه يتمثّل فى عدم معرفتي ودرايتي للّغة الفلسفية ، لقد تصارعتُ بكلّ ما أوتيتُ من قوّة وضراوة مع المُعلّم الفيلسوف الألماني "جورج فريدريش هِيغل " ولكنّه لم يُمهلني طويلاً، إذ فى الجولة الأولى أوقعني بضربةٍ قاضيةٍ طريحاً مُجندلاً على الأرض ".! كان تشي غيفارا شديدَ الإنتقاد فى ذلك الإبّان كذلك لخطط ومشاريع تلقين الفلسفة فى النظام التعليمي للإتحاد السوفياتي آنذاك ،كان قد إقترح على الزعيم الكوبي المذكور" أرماندو إنريكي هارت " الذي كان قد تمّ تعيينه سكرتيراً عاماً لمنظمة الحزب الشيوعي الكوبي أن يعمل على إعداد برنامج جديد لدراسة الفلسفة فى كوبا ، إننا نجده يقول له فى هذا الصدد : "لقد أعددْتُ برنامجاً دراسياً خاصّاً بى يمكن دراسته، وتحليله، وتحسينه لوضع لبنة أولى لبناء مدرسة حقيقية للتفكير"، ويعلّق غيفارا على ذلك قائلاً :" لقد قدّمنا الكثير، وينبغي علينا الآن كذلك أن نطلق العنان لتفكيرنا وعقولنا ". هَوَسُ الإطّلاع والقراءة والتّحصيل كان تشي غيفارا شديدَ العناية بالتحصيل والإطّلاع ، ويولي إهتماماً خاصاً للقراءة، والمطالعة ، وكان قد نشر مقالات،ودراسات ،وتعاليق حول مختلف الكتب والمؤلّفات التي قرأها وإلتهمها قبل رحيله، مثل تعاليقه على الكتب التي كان قد قرأها فى إفرقيا، وبراغ، وبوليفيا ما بين 1965 و1967 حيث أغتيل فى قرية "لاَ إِغِيرَا" فى بوليفيا.وكان غيفارا قد أطلق على هذه القراءات "قراءات الشباب" التي يعالج فيها مطالعاته الأولى المبكّرة من عمره القصير، إذ لم يمهله القدر كثيراً فى رحلة عمره القصيرة والمثيرة . ويشير الباحث" مَاوْريسْيو بيسينت" :"أنّ الذي يثير الإنتباه فى هذا الخصوص هو مدى إهتمامات غيفارا الواسعة والمتشعّبة، والعدد الهائل من الكتّاب، والمؤلفين الذين قرأ لهم فى هاتين السنتين والنصف . فإلى جانب البندقية - عندما كان فى الكونغو- كان يحمل كذلك أجندةً صغيرةً يسجّل فيها عناوين،وبعض ملخّصات جميع الكتب التي قرأها، وإلتهمها ،والتعاليق التي دوّنها بشأنها ، فما بين شهري أبريل(نيسان) ونوفمبر(تشرين ثاني) من عام 1965 دوّن فيها الأعمالَ الكاملة ل:"لينين"، وتاريخ العصور الوسطى ل:"كُوسمسنسكي"،ثم المجلد الرابع من الأعمال المختارة ل:"ماو تسي تونغ"، والأعمال الكاملة للشاعر الكوبي المعروف خوسّيه مارتي، وأوْرُورا رُوخا، وبيّو باروخا، وكتابي"الإلياذة" والأوديسة لهوميروس"، ومسرحية "ليلة القتلة" للكاتب الدّرامي الكوبي "خوسّيه تريانا". وما بين شهري أغسطس(آب) وسبتمبر(أيلول) من عام 1966 حيث كان غيفارا قد عاد إلى كوبا يتدرّب ويهيّئ نفسه فى سريّة تامة للمغامرة البوليفية التي لقي فيها مصرعَه، تجدر الإشارة فى هذا السياق أنه سجّل فى أجندته كذلك أسماءَ بعض الكتّاب والمؤلفين الآخرين أمثال :بابيني، وشكسبير ،وماركس ،وأنغلز، وسواهم. يبدو إيرنيستو تشي غيفارا فى هذه المذكّرات، أو الخواطر، أو الملاحظات التي خلّفها لنا وكأنّه قد أشهر الحربَ الضّروس ضد التحجّر، والجمود، إننا نجده بعد قراءته لكتاب "نهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية" لأنغلز يقول على سبيل المثال :" لقد قدّم العلماءُ عطاءات ثمينةً فى الحقل العلمي، وفى مجال الإقتصاد ، إلاّ أنّ القاعدة المثالية التي ينطلق منها هؤلاء العلماء تُفضي بهم إلى سبل الحيرة، والضلال،والتساؤل، ينبغي معالجة المشاكل التي تَتْرَى، وتطرح أمام أنظارنا بروح متفتّحة بناءً على مبدأ اللاّأدرية العلمية الدّقيقة ." الكلمة والسّلاح أداتان للنّصر يؤكّد الباحث "نيستور كُوهَان" أنّ :"غيفارا فى خواطره،وملاحظاته، وكتاباته يؤمن بالإنسان الجديد، كما أنه لا يرفض كلّ ما هو رأسمالي، علماً أننا أمام رجل يمارس الماركسية، وهو يصارع بدون هوادة من أجل تحرير وفكّ الإشتراكية من قيودها المذهبيّة المكبَّلة والجامدة ، كما أنه واجه بقوّة، وصلابة،وضراوة الميولات، والإتجاهات البيروقراطية التي تعمل على تجميد الثورة وتقليصها ،وحصرها فى بلد واحد وحبسها بين الدهاليز، والممرّات الوزارية ،وكان يومئ بذلك عن عدم قبوله بشكلٍ كلّي للنموذج السّوفياتي آنذاك على ما يبدو ". تقرّبنا كتابات تشي غيفارا من حياته الخاصّة، كما أنّها تدنينا من أعماله الأولى، وإهتماماته،ومشاغله،وأحلامه المبكّرة .وتشير الباحثة الكوبية "ماريا ديل الكارمن أرييت" فى هذا الصدد : " لقد جاءت قراءات ثم كتابات إرنيستو تشي غيفارا لتملأ فراغاً حول كلّ ما كناّ نعرفه عن أفكاره الفلسفية ،وصلته أوعلاقته بالماركسة" وتضيف الباحثة أنّ هذه النصوص تعرّفنا عن قرب بمختلف مراحل حياة إيرنيستو غيفارا بدءاً بمرحلة المراهقة عنده ، وبشرَخ شبابه الأوّل لديه ، ثم دراساته للأعمال النظرية التي طفق الخوضَ فيها غداة وصوله إلى بوليفيا". لقد كان إيرنيستو تشي غيفارا يحمل فى يدٍ البندقيةَ، ويحمل فى اليد الأخرى القلمَ أيّ (السلاح والكلمة)، حيث كان يعتبر هاذين العنصرين أداتين أساستين لا مناص منهما لتحقيق النّصرعنده ،وكانت مشاريعه الثورية تتوازَى، وتنسجم مع تطلّعاته،وإهتماماته، وإنشغالاته الفكرية والفلسفية على حدٍّ سواء. "تشي " هو الإسم أو اللقب المُختصر الذي عُرف به إيرنيستو تشي غيفارا فى العالم أجمع ، أتمّ دراسةَ الطبّ عام 1953 ثمّ سخّر حياته وأوقفها على الثورة الكوبية،وكان صديقاً حميماً للزعيم الكوبي فيديل كاسترو وذلك منذ أن إنخرط فى المكسيك ضمن البعثة الثورية المسمّاة " يَاتيِ غْرَانْما" التي حرّكت وحفزت عام 1956 الكفاحَ النهائي من أجل التحريرالوطني للجزيرة الكاريبيّة كوبا. وفى 8 من أكتوبر1967 جُرح غيفارا خلال المعركة فى بوليفيا إلى جانب رفيقين له ، وبعد أن أُلْقِيَ عليه القبض، عُذّب ثمّ أُعْدِم فى التاسع من أكتوبر من نفس السنة . وفي عام 1997 تمّ العثور على رفاته الذي تمّ نقله إلى كوبا، حيث دُفن بكلّ المراسيم الشرفية المَهيبة فى ضريح مشهود يُسمّى "سانتا كلارا " بهذه الجزيرة الكاريبية الصّاخبة الغريبة الأطوار، وكان إيرنيستو تشي غيفارا قد وُلد فى 14 من شهر يونيه 1928 بمدينة روساريو بالأرجنتين. * كاتب، وباحث، ومترجم، وقاصّ من المغرب، عضو الاكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- كولومبيا.