الترقية الإدارية بين الاعتبارات الذاتية والمعايير العقلانية نص الظهير المتعلق بالوظيفة العمومية الذي مازال العمل جاريا به منذ سنة 1958 إلى حد الآن على أن إسناد المسؤولية الإدارية لأي موظف يتم عادة وفق ثلاثة معايير تتمثل في الأقدمية، والدبلوم أو الشهادة، وتقييم الرئيس (apreciation). لكن الواقع الإداري يكشف أن الحسم في التعيين في أي منصب للمسؤولية يتم عادة، وفي أغلب الأحيان، وفق الرغبة الذاتية للهرمية الإدارية التي يترأسها مدير المؤسسة الإدارية الذي له الصلاحية الكاملة والمطلقة لتعيين الشخص الذي يراه مناسبا للمنصب الشاغر أو المنصب الذي يراد خلقه. وهذه الرغبة عادة ما تحددها اعتبارات ترتبط بتقييمات ذاتية تستند إلى ولاءات شخصية أو فئوية، الشيء الذي يعكس بشكل جلي علاقة الولاء الذي يقوم عليها نظام الهرمية الإدارية في المغرب؛ وذلك على غرار علاقات الولاء الذي يرتكز عليها نظام الحكم بالمغرب. نظام التعيين الأحادي نص الظهير المتعلق بالوظيفة العمومية الصادر في 1958 والذي مازال العمل جاريا به إلى حد الآن على أن إسناد المسؤولية الإدارية لأي موظف يتم عادة وفق ثلاثة معايير تتمثل في الأقدمية، والدبلوم أو الشهادة، وتقييم الرئيس (apreciation). وبالتالي، فقد كان في النظام المعمول به، في هذه المديرية أو تلك، أن يقوم رئيس المؤسسة بانتقاء الشخص المعني بعد استشارة رؤسائه المباشرين، ليحسم بعد ذلك بشكل شخصي في هذا الاختيار، ليتم بعد ذلك بعث قرار التعيين إلى الوزير للإمضاء عليه. وقد بقي هذا النظام ساريا بكل مزاياه وعيوبه إلى حدود تعيين حكومة عبد الرحمان اليوسفي التي كان من ضمن برنامجها السياسي وضع مشروع لإصلاح الإدارة. وقد بني مشروع هذا الإصلاح في مجمله على عقلنة الهيكلة الإدارية من خلال التقليص من تعدد المؤسسات والمصالح الإدارية وتداخل الاختصاصات فيما بينها؛ حيث قامت وزارة تحديث القطاعات العمومية بمحاولة التحقق من مدى انسجام الهيكلة الإدارية لكل الوزارات مع البنية التنظيمية التي تنص عليها مراسيم تشكيلها. كما تضمن هذا المشروع إقرار نظام جديد لاختيار المسؤولين الإداريين يقوم على ضرورة فتح الترشيحات أمام الموظفين للتنافس على المناصب الشاغرة، من خلال تحديد الشروط التي ينبغي أن تتوفر في المرشحين لهذه المناصب، واختيار لجنة إدارية لانتقاء المرشح المناسب. شرعت الحكومة، في عهد اليوسفي وجطو، في وضع برامج لإعادة الهيكلة الإدارية ترمي بالأساس إلى التقليص من تعدد المؤسسات والمصالح الإدارية وتداخل الاختصاصات فيما بينها. وفي هذا السياق، قامت وزارة تحديث القطاعات العمومية بمحاولة التحقق من مدى انسجام الهيكلة الإدارية لكل الوزارات مع البنية التنظيمية التي تنص عليها مراسيم تشكيلها. بالإضافة إلى ذلك تم إقرار نظام جديد لاختيار المسؤولين الإداريين يقوم على ضرورة فتح الترشيحات أمام الموظفين للتنافس على المناصب الشاغرة، من خلال تحديد الشروط التي ينبغي أن تتوفر في المرشحين لهذه المناصب واختيار لجنة إدارية لانتقاء المرشح المناسب. نظام الترقية المعدل لتلافي كل العيوب التي كانت تشوب نظام الترقية السابق، والتي كان من أبرزها الغموض وغياب الشفافية وانفراد رئيس المؤسسة بالتعيين، تم العمل على وضع نظام آخر للترقية يروم إحاطة عملية الترقية بأجواء من الشفافية وعدم الانفراد الشخصي باتخاذ قرار التعيين. فعلى سبيل المثال نص المرسوم رقم 2 -75-832 بتاريخ 30 دجنبر 1975، بعد تعديله وتتميمه، على أن وزارة المالية تفتح دعوة للترشيح لمناصب مسؤولية معينة؛ حيث سيكون كل منصب للمسؤولية موضوع طلب ترشيح يتضمن ملفا حول المعارف والمؤهلات التي يتوفر عليها المترشح، وتصوره حول إدارة وتسيير المنصب، ولا يقبل هذا الملف إلا بعد موافقة المدير المعني. لكن الجديد الذي تضمنه هذا المرسوم هو التنصيص على إنشاء لجنة تتكون من بعض المدراء في الوزارة التي أوكلت إليها مهمة الإشراف على عملية الانتقاء هذه، واقتراح المرشح المناسب لتعيينه من طرف الوزير. وطبقا لمقتضيات هذا المرسوم، تم تعيين العديد من المسؤولين من رؤساء مصالح ورؤساء أقسام في مختلف مديريات هذه الوزارة ووزارات أخرى، سواء كانت مركزية أو إقليمية. لكن غالبا ما كانت تعقب هذه التعيينات تساؤلات عن المعايير التي تحكمت في انتقاء هذا المرشح أو تلك المرشحة لشغل هذا المنصب أو ذاك بدل مرشحين أو مرشحات لهم المؤهلات والحظوظ نفسها. ولعل من بين الأسباب التي تكمن وراء هذه التساؤلات التي تبقى مشروعة، ملامسة المعايير التي يستند إليها في الحسم في انتقاء المرشحين والحسم في تعيينهم. فهل ربع ساعة أو ثلث ساعة أو حتى ساعة كافية للحكم من طرف أعضاء هذه اللجنة بأن الشخص المعني هو المؤهل للمنصب دون غيره لاسيما وأن الأسئلة التي تطرح من طرف أعضاء هذه اللجنة تكون حسب مزاج وتلقائية أي عضو من أعضائها؟ فالأمر يتعلق قبل كل شيء بمنصب إداري يتطلب معرفة دقيقة إن لم نقل شخصية بكيفية وطريقة اشتغال الشخص، واطلاع كبير على ملفه الإداري من مواظبة يومية، وتفان في العمل، والسرعة في تنفيذ المهام والأعمال المسندة إليه. من هنا يبدو من المحبذ أن يكون نائب المدير المعني، أو رئيس القسم، من ضمن أعضاء اللجنة المشرفة على انتقاء المرشحين والمرشحات، وألا يكتفى فقط باستشارتهم أو طلب اقتراحاتهم. كما ينبغي، وتلافيا للقيل والقال، أن يقوم كل أعضاء اللجنة بتعليل انتقائهم لهذا المرشح أو ذاك في محضر يصيغه مقرر اللجنة، ويوقعه الأعضاء، ليتم بعث نسخ منه إلى مختلف المرشحين المعنيين للاطلاع عليه أو استخدامه في أي تظلم إداري أو دعوى قضائية. التحكم في نظام الترقية الإدارية إن الشبكة الإدارية والبيروقراطية التي تتحكم في عاصمة المملكة، والتي تتكون من مجموعة من العائلات المخزنية، وبالأخص العائلات الرباطية والسلاوية والفاسية، بالإضافة إلى البيروقراطية العسكرية والأمنية والإدارية، وكذا بعض النخب الحزبية والنقابية والبرلمانية، والتي تترابط فيما بينها من خلال علاقات مصلحية أو مصاهرتية، هي التي تتحكم في توزيع (كعكعة المسؤوليات)، وتحسم في الشخصيات التي تقترح لتقلد المهام الإدارية بعيدا عن كل المعايير الإدارية التي لا تكون إلا معطيات أولية لمسار إداري معين. فالرباط العاصمة التي تعمل في واضحة النهار ليست هي الرباط العاصمة التي تعمل في الليل؛ حيث إن هذه الأخيرة هي التي تتحكم في الأولى. فالتعيينات الإدارية في مختلف المناصب والمهام والمسؤوليات تتحدد عادة أثناء المقابلات الشخصية، أو الزيارات العائلية، أو المناسبات الخاصة، أومن خلال المصاهرات التي تلعب دورا أساسيا في صعود وترقي عدد من المسؤولين، خاصة في المناصب الإدارية العليا للمملكة. والتقرب من عائلة مخزنية أو المصاهرة مع عائلة مسؤول إداري كبير عادة ما يوفر أكبر الحظوظ للمتنافسين أو المتنافسات على مربع المسؤولية الإدارية. ولعل هذا التنافس الحاد بين كبار المسؤولين، الذي يكون في ظاهره تنافس بين الأشخاص وفي عمقه تنافس بين عائلات منتمية لشرائح متنفذة، يؤدي في الكثير من الأحيان إلى خلق العديد من المديريات، أو المناصب التي يكون الهدف منها ليس تلبية أو تغطية حاجة إدارية حقيقية، بقدر ما يكون في الواقع إرضاء لطموحات نخب إدارية تلهث وراء تحقيق المكاسب والامتيازات، وإشباع رغبات ذاتية في التمتع بالسلطة والوجاهة. وهذا ما أدى بالطبع إلى تعدد كمي في الإدارات، وتداخل في الاختصاصات الإدارية، سواء بين الوزارات، أو داخل الوزارة نفسها، أو بين مصالح المديرية نفسها؛ إذ ليس من المعقول أن تجد وزارة تقنية تتفرع إلى أكثر من 12 مديرية بما تضمه كل مديرية من أقسام، ومصالح مركزية وخارجية، الشيء الذي يكلف ميزانية الدولة نفقات إضافية تصرف عادة في شكل تعويضات عن المسؤولية، وتعويضات عن التنقل، وتعويضات عن السفر سواء داخل البلاد أو خارجها، إلى غير ذلك من التعويضات، مما يزيد من ثقل الكتلة الأجرية في ميزانية الدولة السنوية. وقد تفاقم هذا الوضع بتعاقب الحكومات التي خلفت حكومة اليوسفي، والتي شهدت خلق وزارات جديدة، ومديريات ومندوبيات سامية، ووكالات جهوية، ومؤسسات عمومية وشبه عمومية، لإرضاء طموح نخب حزبية وإدارية ولجت مؤخرا دواليب التسيير الحكومي والإداري. وعموما، يبدو أن الإجراءات التي تبنتها حكومة اليوسفي وكرستها حكومة بنكيران لم تؤد، إلى حد الآن، لا إلى التقليص من التعدد الكمي لمناصب المسؤولية، ولا إلى شفافية المعايير التي يتم من خلالها انتقاء المسؤولين: - فبالنسبة لتقليص مناصب المسؤولية، هناك معارضات عدة تواجه هذا الإصلاح، تتمثل في استمرار تحكم البيروقراطية المركزية في عملية التعيينات الإدارية وكذا عدم رغبة المسؤولين في التخلي عن امتيازاتهم، بالإضافة إلى ولوج نخب إدارية شابة ذات عقلية مصلحية، تتطلع بدورها إلى التمتع بكل الامتيازات التي تمتعت وتتمتع بها سابقاتها. - أما بالنسبة للمعايير الجديدة التي من خلالها يتم انتقاء المسؤولين الإداريين، فما زال يشوبها، حتى الآن، الكثير من الغموض الناتج بالأساس عن الكيفية التي يتم بها تكوين اللجان الإدارية، والطرق التي يتم بها الحسم في انتقاء المرشحين. لذا، فإن تغيير هذا النظام الهرمي الذي مازال متحكما في الإدارة المغربية الحالية ينبغي أن يستند إلى ثقافة إدارية جديدة تقوم بالأساس على ثلاثة مستويات: - على الصعيد الفكري، لابد من إعادة تكريس مبدأ المرفق العام؛ حيث ينبغي أن يغرس في الموظف الجديد فكرة أن ولوجه إلى سلك الإدارة هو قبل كل شيء هو لخدمة المصلحة العمومية وليس لتحقيق طموحات شخصية في الترقي والحصول على الامتيازات والمكاسب، فمن يريد أن يحقق ذلك عليه أن يقتحم مجال مقاولات القطاع الخاص والمشاريع الفردية التي أصبحت تتحكم فيها أخلاقيات ما يسمى بالمقاولة المواطنة. - على الصعيد الهرمي، حان الوقت لكي تتخلى الإدارة المغربية على النظام الهرمي الذي ورثته من الإدارة الفرنسية القائم على (هرمية عسكرية صارمة) تبدأ من الأعلى إلى الأسفل. فقد أصبح من غير المستساغ أن يعين موظف في إدارة مدنية ويطلق عليه (Chef de division)، مثلا. فهذه الهرمية العمودية لابد من تعويضها بهرمية أفقية يتم من خلالها الاشتغال من خلال النظام الأنجلوسكسوني القائم على المجموعات أو الخلايا، والذي أثبت فعاليته ومرونته في مواجهة تعقيدات العمل الإداري وتسييره. بالإضافة إلى ضرورة خلق نظام التداول على مناصب المسؤولية بين الموظفين؛ إذ بعد كل أربع سنوات لابد أن يتخلى الموظف المسؤول عن منصبه لأحد من زملائه يكون قد تهيأ لشغل هذا المنصب الذي يتركه بدوره لزميل آخر، وهكذا دواليك. وبالتالي ستتاح الفرصة لغالبية الموظفين لتجريب مشاق المسؤولية واستيعاب صعوباتها، كما سيكسر نظام احتكار مناصب المسؤولية والخلود فيها. فالمسؤولية الإدارية ليست وظيفة، بل هي فقط مهمة ظرفية يمكن أن تتداول لإشراك كافة الموظفين المؤهلين لتحملها، الشيء الذي سيسمح بدمقرطة الوظيفة العمومية وانتشار نظام التداول على المناصب. - أما على الصعيد المادي، فينبغي التقليص من الامتيازات المالية والمكاسب الكبرى التي تمنح للمسؤولين في الإدارة؛ ذلك أن تمتيع هؤلاء بمختلف التعويضات قد ساعد على انتشار التكالب على مناصب المسؤولية بين الموظفين، وخلق هوة واسعة بين هذه الشريحة من المسؤولين وزملائهم من الموظفين؛ إذ لا يعقل أن يتمتع أي موظف، مهما علت درجته وسمت مسؤوليته، بمستوى معيشي يغاير مستوى جل زملائه الذين يقضي جل وقت عمله معهم، وله مستوى رتبهم نفسه وشواهد تعادل شواهدهم. لذا من الضروري ألا تمنح للمسؤول إلا تعويضات محدودة عن المهام التي يقوم بها، وبشكل لا يخلق فجوة اجتماعية كبيرة بين شرائح الموظفين. كما يجب أن يكرس نظام التوازي (Assimilation)؛ حيث في مقابل منح تعويضات للموظفين الذين عينوا في مناصب المسؤولية، تمنح تعويضات مقاربة لمرؤوسيهم من الموظفين الذين يشتغلون معهم، الشيء الذي سيخفف من التنافس والتكالب على المسؤوليات، خاصة وأن الإدارة العمومية، وبالأخص الإدارات المركزية، أصبحت منذ منتصف الثمانينات من القرن الماضي تستقطب أطرا ذوي مستويات تكوينية وعلمية متقاربة. فهذا النظام سيجعل لعبة المنافسة بين الأطر لعبة غير صفرية؛ بحيث سيفسح المجال لأولئك الذين لم تسمح لهم الظروف الإدارية، أو أولئك الذين لا يرغبون في تحمل أعباء أية مسؤولية لأسباب شخصية وذاتية، بالحصول على بعض المكاسب والتعويضات حتى ولو لم يتحملوا أية مسؤولية. عموما، فإن إعادة هيكلة الإدارة من خلال التقليص من تكاثرها الكمي وتغيير نظامها الهرمي يتطلب نشر الوعي بمبادئ المرفق العام، واستبدال العقلية الإدارية السائدة القائمة على المصلحة الشخصية والقرابة، وخوصصة المنافع والمكاسب، والولاء الشخصي وعلاقات التبعية، وسيادة روح المسكنة والخنوع، وإلغاء الفجوة الطبقية بين شرائح الموظفين. فالإدارة العمومية، بمكوناتها الهيكلية ومواردها البشرية، وإمكانياتها المادية والمالية، هي قاطرة كل تحديث يمكن أن يعرفه المجتمع المغربي، سواء في حاضره أو في مستقبله.