"إرحل" فعل أمر من رحل بمعنى سار ومضى وانتقل، وهو ضد حلّ بحذف الراء وتثقيل الام، فلكي نفهم مغزى هذا النداء الذي ترفعه الأمّة اليوم في وجه الطغيان والاستبداد، لابد أن نبحث في ما حلّ بساحتها بعد أن أخرجها الإسلام من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ، على حد تعبير ربعي بن عامر وهو يحاور رستم قائد الفرس قبل معركة القادسية ، وكان مع ربعي رمح مُسلّم وثوب ممزق وفرس كبير معقور بلغ هذا الفرس من العمر عتياً.! يقول له رستم ومعه وزراؤه وأصحابه وهو يضحك: جئتم تفتحون الدنيا بهذا الفرس المعقور والرمح المسلّم والثوب الممزق؟ فرد عليه ربعي بن عامر بلسان الواثق: إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. فرد عليه هذا الشقي بعد أن أدهشه رد ربعي بن عامر: لا تخرج من قصري أو إيواني حتى تحمل تراباً على رأسك، فحمل ربعي بن عامر تراباً وقال لأصحابه هذه بشرى أن يملكنا الله أرضهم. وبعد ذلك دخل سعد بن أبي وقاص تلك الأرض وانتصر، ودخل إيوان الضلالة وحطم وكر الوثنية الفارسية وهو يقول ما ورد في القرآن: " كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين، كذلك وأورثناها قوماً آخرين، فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين" .
ما لذي حلّ بهذه الأمة حتى انتقلت من ثقافة :" متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟" التي أطلقها عمر بن الخطاب، إلى ثقافة "والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه"!التي أطلقها عبد الملك بن مروان بعد توليه الحكم؟
إنها بقية من ثقافة رستم قائد الفرس وثقافة هرقل عظيم الروم التي أنكرها جيل الصحابة، ولكن في غياب المؤسسات التي لم تتبلور آنئذ، لم يكن للأفراد كبير تأثير على مجريات الأحداث التي كانت تسير وفق منطق التاريخ الذي كان لصالح كفة الاستبداد بعد سقوط الإمبراطوريتين العظيمتين آنذاك: إمبراطورية الفرس وإمبراطورية الروم، لكن دون سقوط منطقهما في الحكم.
ففي انتقاده لمسلك بني أمية في توريث الحكم قال عبد الله بن عمر:"إن هذه الخلافة ليست بهرقلية ولا قيصرية ولا كسروية يتوارثها الأبناء عن الآباء، ولو كان كذلك كنت القائم بها بعد أبي"، وقال عبد الرحمن بن أبي بكر:" يا بني أمية، إن هذا الأمر كان لرسول الله ، وقد كان في أهله من لو جعله فيه لكان له أهلا ، فلم يفعل، فأعدتموها يا بني أمية أعجمية كلما هلك هرقل قام هرقل!"
في ظل هذا النظام السلطوي نشأت ثقافة الاستبداد وقامت على ثلاثة أركان:
1) فقه التحريم الذي شل قدرات الأمة وأخرجها من دائرة المباح الواسعة إلى ضيق الفتاوى المكبّلة لحركيتها في التفاعل مع واقعها المتغير من أجل بناء العمران، فالفقهاء بعد تحييدهم عن الكلام في الشأن العام وإشغالهم بأحكام الطهارة والحيض والنفاس، ابتعدوا شيئا فشيئا عن الواقع المتغير من حولهم واشتغلوا بالحواشي والمختصرات، خصوصا بعد القرن الخامس الهجري، ولما كانت العامة مرتبطة بدينها تسأل عن حكم المستجدات والنوازل، لم يكن للفقيه بد من إعطاء جواب غالبا ما يكون بالتحريم أو الكراهة،فقام بإبعاد الناس عن واقع أبعد هو منه قسراُ، ولم يسعه أن يقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنتم أعلم بشؤون دنياكم "! وفي الحديث أيضا : " إن الله حدّ حدودا فلا تعتدوها وفرض فرائض فلا تضيعوها وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تسألوا عنها". والقاعدة المعروفة في الفقه هي أن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد نص بالتحريم، لكن الفقهاء قالوا إنه ما من صغيرة أو كبيرة إلا لله فيها حكم وهذا صحيح لكن أن يكلف الفقيه نفسه عناء البحث عن ذلك الحكم، ففي ذلك نظر والله أعلم، وقد كان من جملة الحجج التي أدلى بها الفقيه الذي أفتى بجواز جماع الجثة بعد ردود الفعل القوية من المجتمع المدني، أنه لا يسعه السكوت عن حكم قضية وردت عليه من بعض السائلين!!
2)التصوف الطرقي الذي كان وراء تكلس العقل المسلم وانكماشه وإسلاس قياده للأميين الجهلة الذين نصبوا أنفسهم باسم الولاية والمشيخة الزائفة قائمين على عقول الناس وأرواحهم،تعبر عن ذلك مقولتهم المشهورة " المريد بين يدي شيخه كالميت بين يدي مغسله "! وهو أسوأ أنواع الإستبداد الذي ابتليت به الأمة، وهو دخيل على ثقافتها، ورثته عن الرهبانية عند النصارى والبرهمية عند الهنود،فبعد أن كان التصوف السني زهدا في متاع الدنيا الزائل ورحلة في أعماق النفس لتنقيتها من شوائب الرياء، والبحث في حقائق التوبة ودقائق الإخلاص وحقيقة التوكل والأخذ بالأسباب دون الالتفات إليها، أضحى بعد القرن السادس ظلمات بعضها فوق بعض، حيث فرّ الناس إلى الزوايا وتركوا العلم، ولم يبق حي أو بيت إلا دخلته الخرافة التي سوّق لها المشايخ باسم الدين من أجل استغلال العامة أسوأ استغلال، فتشكل مناخ القابلية للإستعمار بتعبير المفكر مالك بن نبي، وبعض الحركات الإصلاحية اليوم تعتمد هذا المنهج الفاسد لإخراج الأمة من أزمتها، لكن هيهات!!
3) الحداثة الزائفة التي ابتليت بها الأمة بعد الاستعمار الحديث وشكلت أبشع أوجه الاستبداد، إذ حملت شعارات العقلانية والعلم والحرية والمساواة والديمقراطية وحقوق الإنسان، لكنها فتحت السجون وشيدت المعتقلات وزجت بمعارضيها في أتونها، همّشت المختبرات العلمية ومؤسسات المراقبة على المال العام والحكامة في تدبير الشأن العام، في حين قرّبت الخمر من المواطنين ونشرت ثقافة الميوعة والانحلال باسم الفن، حتى أن كل من رغبت في ممارسة الدعارة خارج الحدود يضعون على بطاقة تعريفها مهنة فنانة!! وحسبك بهذا الاتهام إهانة للفن وأهله.وبعض الذين رفعت صورهم في تظاهرات 20 فبراير هم شباب من جيل العهد الجديد، لكنهم احتفظوا بأسوأ ما في العهد القديم على حد تعبير الدكتور أحمد الريسوني، إحتفظوا بعصا ادريس البصري، واحتفظوا بخبرته في تزوير الانتخابات، واحتفظوا بتركته في الأحزاب الإدارية، وأضافوا إليها إبداعا جديدا ليجمعوا بين الأصالة والمعاصرة، استقوه من النموذج التونسي الحداثي والتجربة المصرية الرائدة في قمع المعارضين، العريقة في الحزب الأغلبي، كذلك استبدلوا فن العيطة والشيخات الذي اهتم به وزير الداخلية القديم بالبيك وإلتون جون وشاكيرا...
إن الثورة على الأنظمة الفاسدة التي يعرفها الربيع العربي، ما لم تواكبها ثورة ثقافية تهز أركان فقه التحريم والمنع الذي يشل حركية المجتمع، وتضع حدا لسلطة المشايخ والأولياء المزيفين الذين يكبلون عقول الناس وأرواحهم، الأحياء منهم والأموات، وتعري حداثة الواجهة التي يتخفى وراءها دعاة الإستصال والفتنة، فإن نجاحها سيكون محدودا في الزمان والمكان، فدور المثقف اليوم أهم من دور من يواجه العصا والرصاصة بصدر عاري، وفي كل خير.