جعل ابن خلدون فصلا في مقدمته، خصصه للحديث عن أن العلماء أبعد الناس عن السياسة، وعن ممارستها، وأيا كان تبرير الإمام، وتفسيره، فإن ذلك يصدق إلى حد كبير في عصرنا، ولكنه يصدق في عصرنا بصورة أخرى، اقتضاء القولة هو ما يحدث الآن، ذلك أن القول بأن العلماء أبعد الناس عن السياسة، يوجب أن أهل السياسة هم بعداء عن العلم، وما نراه اليوم من كون أهل السياسة أصبحوا متحكمين فيما يتعلق بالعلم، هو ما أحدث الكارثة، حين صار النجاح والانتقال معتمدا على الخريطة المدرسية، عوض تحقق الكفايات اللازمة، حتى لا تواجه الدولة مشاكل الاكتظاظ أكثر مما هي، فأصبحت كلمات الميثاق الوطني التي تنص على بؤرة موقع التلميذ وكونه محور العملية شعارا زائفا لا معنى له. إن التعليم لا يمكن أن تصلحه قرارات سياسية في ظل واقع ما زال يعمه الجهل والتخلف والضلال، والأدهى أن متزعمي التدبير السياسي لا يملكون إرادتهم، ولا يعدو فعلهم أن يكون تطبيقا لقرارات تملى، يريد الآمرون بها التحكم في مستقبل شعب. إن السياسة لم تنجح نجاحها، في دول أخرى، إلا حين أصبحت علما يدرس، بقواعد محكمة، وصيغ سديدة، وانعكس ذلك على الواقع العملي، أما أن تتولى تدبير السياسة لمجرد الوقوف في الواجهة لالتقاط الأضواء، فهذا أمر لا مبرر له، غير حب الزعامة والفخامة. اليوم، نحن بحاجة ماسة بعد فشل كل الإصلاحات التي رصدت لها ملايين وملايير الدراهم، ووصف الإصلاح هنا كما يقال، تماشيا مع زعم صاحبه، والحقيقة أن غياب العقل هو ما يوهمنا بالحصول على نتائج مخالفة لنفس المقدمات بحاجة إلى حركة اجتماعية تعيد لهذا التعليم دوره وهيبته. اليوم، لم يعد المعلم ذلك الرمز التربوي، الذي يوجه ويربي، ولم يعد المجتمع ينظر للمعلم بمنظار الوقار الذي كان المجتمع يكرم به هؤلاء. وحتى نكون من أهل الإنصاف، لزم أن نعترف أن هناك مجموعة من العوامل التي أدت إلى هذا الوضع، التي من ضمنها ذلك المعلم نفسه، حين خرج عن دائرة وظيفته التربوية، إلى أغراض أخرى، كما نحمّل طرفا من المسؤولية لذاك الأب والولي الذي يهمل ولده، ولا يسأل عنه، أو يعلم حاله، ولكن الأخطر من هذا كله هو انتهاج سياسة عشواء عمياء، تهدف إلى تكريس هذا الوضع، وذلك واضح للعيان. كيف يمكن لدولة تحترم نفسها، أن تهين أستاذها الذي يمثل لها عصب بقاء الحياة؟! فلولاه لما أمكن للدولة أن توصل قيمها لذاك الطفل، الذي يصير فجأة محبا للوطن، على علاته، ولولاه لما أمكنها أن تمرر خطاباتها وتبسط هيمنتها عبره، إذ السلطة ليست تمارس عبر الممارسة الميدانية بالقمع، وغيره، بل السلطة أيضا سلطة خطاب. إن الخطاب الكامن وراء هذا النهج، يفيد أن الدولة لا تريد تطبيق مضمون ما تدعيه، من حرية وكرامة المواطن، بل كل غاياتها، أن يظل الوضع تحت السيطرة، ونسيت أن السيطرة كلها تكون يوم تعطى لهاته الطاقات حقها في الإبداع، والحرية، واقتسام خيرات الوطن المشترك. سيكون تكرارا رتيبا إن كررنا أن المدرسة العمومية اليوم في انحدار نحو الهاوية، وانحدارها واقع لسبب بسيط، هو ن المعرفة أصبحت اليوم تخضع لمنطق الاقتصاد، عوض أن يكون الاقتصاد خاضعا لها، وذلك أن مسؤولي القطاع تراهم يكرسون وضعية المدرسة العمومية على ما هي عليه، حتى يملها من يملك ذرة من غيرة على ولده، حين يمر بأخرى خاصة، وقد أعدت وزينت، فيصير هذا المواطن المغلوب على أمره، يرتجي كلما مر ببابها أن يرى ولده وسطها، فإذا وفر درهما لنفسه، لم ير بدا من السعي إليها، عسى أن يرى في ولده شيئا لم يلحقه في حياته. إنه سلوك خبيث خسيس، يجهله إبليس، أن تستغل عواطف الناس، لسرقة أموالهم بذلك الشكل، والحال أن غالبية السكان لا يملكون توفير لقمة عيش أولادهم، فضلا أن يدخلوهم مدرسة خاصة. تلك كارثة، ونكوص لا مثيل له، وعلامة فارقة، أن نية الإصلاح غائبة، وأن القطاع تحكمة إرادات أخرى، إلا أن هناك تجربة تثلج الصدر، ولو لم تصل إلى ما كانت ترتجيه كاملا، لكنها إشارة إلى ضوء خافت، ما زال في الأفق، ينبعث من شعاع أمل، أنه يمكن أن نكون. تجربة الأساتذة المتدربين، وبكل فخر أثبتت أنه يمكن أن نجتمع، يمكن أن نحقق إرادة مجتمعية لو أردنا فعلا ذلك، لو حددنا هدفا حقيقيا ووحدناه، لو انطلقنا من منطق ما يقتضيه الصالح العام. أثبتت هذه التجربة أن الأمل ما زال يلوح في الأفق، وما زال بإمكاننا التحليق نحوه، إذا نحن فعلا آمنا بما تقتضيه المرحلة، من وفاق مجتمعي، حول القضية، والتحرك بتلك الحماسة، وذلك الإيمان، الذي رفع به الشعار أول الأمر، ولقد أصبح هؤلاء وبكل فخر مدرسة لمن يليهم، ولمن قبلهم أيضا. فأن تجد أستاذ(ة) يحمل هم التعليم تفكيرا وتأثيرا، ويعمل ما بوسعه وليس بباله سوى ذاك التلميذ الذي حرمته الظروف أن يكون متحققا بما يكفي من المعارف، فتجده يبرمج ساعات دعم، وليس بجيب هذا الأستاذ ما يسدد به دينه، وتجد آخر، وأخرى، يعملون ما بوسعهم، لتزيين أقسامهم، حتى تكون مناسبة لأطفال صغار، حرموا من ذلك الجو بسبب الفقر، فاعلم أن إرادة الإصلاح متجذرة في النفوس، وأن هناك من هو مستعد للتضحية، إن بدرت نية صادقة، لإصلاح حقيق بها. إن أمرا كهذا لا يمكن أن نختلف حوله، كون المدرسة تعاني من مصائب لا حصر لها، فوجب التحرك، وحرم التورك، من أجل الوصول إل ميثاق مجتمعي آخر يعيد للأستاذ كرامته وهيبته، وللتلميذ حظه وحقه، وللمجتمع سلكته وفعله. وأخيرا ... لم يعد هناك أمل في إرادة سياسية، فلتكن الإرادة المجتمعية، ولترفع مصلحة الوطن، ومستقبله فوق كل اعتبار، ولتكن التضحية أولى هذه الخطوات.