مولاي التهامي بهطاط في الأيام القليلة الماضية قرأنا الأخبار التالية: - "ضبطت أستاذة، تلميذين يتدافعان في سلالم المؤسسة لحظة نزولهما من الطابق العلوي، وقدمتهما للمدير، غير أن الأخير اكتفى بتوبيخهما، مهددا إياهما بالعقاب إن هما عادا إلى نفس السلوك مستقبلا، بالنظر إلى خطورة ما قاما به عليهما وعلى باقي التلاميذ. وفي صباح اليوم الموالي، قامت الأستاذة بوضع أحد التلميذين فوق طاولة، وخلعت سرواله ثم أدخلت أصبعها في مؤخرته، وأمرت باقي التلاميذ بالقيام بنفس الشيء، مهددة إياهم بنفس العقاب إن هم رفضوا الامتثال لأوامرها. وحسب تصريحات بعض التلاميذ، فإن مجموعة منهم قاموا فعلا بإدخال أصابعهم في مؤخرة زميلهم، بينما انخرطت التلميذات في الصراخ والعويل..".. - "استمعت مصالح الشرطة القضائية في مدينة تمارة مؤخرا، إلى معلمة وُجهت لها تهمة تعنيف تلميذة داخل القسم نتج عنه كسر وخلع بعض أسنانها. ووفقا لشكاية توصلت بها النيابة العامة من أب التلميذة، التي تبلغ من العمر 9 سنوات، فإنها أصبحت ترفض الذهاب إلى المدرسة إثر إصابتها بأعراض نفسية، ناهيك عن بعض الأضرار الجسدية الناجمة عن الضرب والجر أمام باقي التلاميذ". - "طلب تلميذ يبلغ من العمر حوالي 8 سنوات، من الأستاذ السماح له بالذهاب إلى المرحاض، لكن الأستاذ منعه من الخروج بحجة أن حصة الدرس تشرف على الانتهاء، مما جعل التلميذ يفكر في طريقة للاستجابة لنداء الطبيعة. هكذا، وبعد تعنت الأستاذ، اضطر التلميذ للتبول داخل قنينة ماء كان يتوفر عليها، الأمر الذي دفع الأستاذ إلى إجباره على شرب بوله، عقابا له على التصرف الذي قام به داخل حجرة الدرس..". هذه الأخبار، وليس الأحداث، صارت أمورا عادية وطبيعية، تماما مثل مسلسل تعنيف رجال ونساء التعليم داخل المؤسسات وخارجها، من طرف منحرفين لا يراعون حرمة المكان، وأولياء أمور، بل حتى من طرف تلاميذ أيضا… "التطبيع" مع هذا النوع من السلوكات، لا يكشف فقط حجم "الانقلاب" الذي عرفته كثير من المفاهيم في المجتمع المغربي، بل يقرع أجراس إنذار مبكر حول المصير الذي ينتظر التعليم بشكل عام من حيث هو جسر نحو التقدم والتنمية لا يمكن الاستغناء عنه في أية دولة وفي أية مرحلة. لقد نشرت دراسات وتحقيقات وأبحاث في كثير من الدول العربية المتقاطعة معنا في كثير من القواسم المشتركة، مفادها تقهقر مكانة "المعلم" الاعتبارية، وانحدار ترتبيه على سلم المكانة الاجتماعية. ف"المعلم" الذي كان يتنافس على المراتب الأولى إلى جانب رجال السياسة والاقتصاد والفكر، أصبح اليوم يقبع في المؤخرة بعيدا خلف المطربين ونجوم الرياضة. وهذا لا علاقة له ب"عولمة المفاهيم" ولا بمنط "لكل زمن رجاله ونجومه"، بل نحن أمام مؤشرات في غاية الخطورة، لا تمس فقط الوضع الاعتباري ل"المعلم"، وإنما تمس أيضا مكانة المدرسة، بل تطيح بالدور الذي يفترض أن يلعبه التعليم على كافة الأصعدة، خاصة وأنه لم يحدث أن تطور بلد ما دون المرور الإجباري بالارتقاء بالتعليم، بل إن دولا كانت متخلفة حتى وقت قريب، نجحت في أن تلحق بالركب، وأن تجد لنفسها مكانا في المقدمة لأنها راهنت على "التعليم" واعتمدت استراتيجيات دقيقة مكنتها من تحقيق أهدافها في أقصر وقت وبأقصر السبل. لا نحتاج إلى سرد نماذج، فالعالم اليوم أصبح كتابا مفتوحا لمن أراد أخذ العبرة، لكن من حقنا -وربما من واجبنا- أن نتساءل عن سر عدم إدراك صناع القرار عندنا، ارتباط مصير البلد حاضرا ومستقبلا بمستوى التعليم فيه، خاصة في ظل إقرار رسمي متواصل، وعلى مدى عقود، بتردي أوضاع هذا القطاع، ما استدعى في مراحل مختلفة تأسيس لجان ومجالس وهيئات، وإعداد برامج استعجالية وطويلة الأمد، على أمل تدارك الوضع قبل مزيد من الاستفحال، لكن كل هذه التجارب كان مآلها الفشل، بل والإصرار عليه، وكأن الهدف الأصلي هو ترك الأمور على ما هي عليه، إن لم يكن دفعها نحو مزيد من الانحدار. أخطر ما في الأمر، هو أن كل الاهتمام ينصب على الجوانب المالية، وكأن الإشكال هو فقط في رفع الأجور، وفي الاستثمار "العقاري" وعلى شراء الحواسيب، بينما المفروض أن تعطى الأولوية للجوانب البيداغوجية انطلاقا من سؤال : أي مواطن نريد أن "تنتجه" المدرسة؟ وأي شعب نريد أن "تنتجه" السياسة التعليمية؟ بكل أسف لازال هذا السؤال مؤجلا، بل لم يتم حتى التفكير في طرحه، لأن كل الجهد متجه نحو تحسين الأوضاع المالية ل"المعلم"، وتحسين ظروف الاشتغال -ماديا طبعا-، مع أن ما يستهلكه قطاع التعليم من الميزانية العامة للدولة لا يتناسب إطلاقا مع "المنتوج النهائي". إن الحديث عن "رفع الأجور" يكاد يختزل -في كثير من النقاشات العمومية- الإشكالية التعليمية مع أن من يقارن أجور رجال التعليم المغاربة مع نظرائهم في العالم العربي لا يملك إلا أن يتساءل عن سر هذه المعادلة المعكوسة. فالمعلمون المغاربة يحصلون على رواتب أعلى من كثير من زملائهم في الدول العربية (باستثناء الخليج طبعا) لكن في المحصلة، يحتل المغرب رتبة متأخرة في ما يخص مستوى التعليم تنعكس على ترتيبه العام في سلم التنمية البشرية. فالمعلم يتقاضى في تونس 572 دولار، وفي الأردن ما بين 430 و700 دولار، وفي الجزائر ما بين 400 و550 دولار، وفي سوريا قبل الحرب الأهلية 200 دولار، في العراق 500 دولار بعد "التحرير"، وفي مصر ما بعد الثورة أقل من 300 دولار، بينما أقصى ما يطالب به المعلم في غزة هو الحصول على أجرة وسائل النقل، علما أن مدارس غزة المحاصرة تتقدم بكثير على مدارس المغرب الآمن المطمئن. وأذكر، أنه خلال سنوات الجامعة كان يدرس إلى جانبنا طالب أردني، وأن إحدى الزميلات أرادت أن "تمن عليه"، فافتخرت بمجانية التعليم في المغرب عكس ما عليه الحال في الأردن، فما كان من زميلنا إلا أن رد عليها :" صحيح نحن ندفع.. لكننا نتعلم"، وهذا التعليق يحتاج أصلا إلى مستوى من الإدراك والفهم قد لا تنجح المدرسة المغربية في صقله. لقد نشرت الصحف الفرنسية مؤخرا إحصاءات متعلقة بمعدلات النجاح في الباكلوريا، حيث أكثر من مائة ثانوية تترواح فيها نسبة النجاح بين 95 و100 في المائة، ولا يتعلق الأمر هنا طبعا بمدارس خاصة فقط بل بمدارس عمومية أيضا. هذه الأرقام تفرض علينا أن نتساءل : إذا كان هناك عذر يبرر فشل -أو عجز- الساهرين على التعليم في مدارس غير مجهزة وغير صالحة، تقع في مناطق نائية معزولة، فماذا نقول عن المؤسسات التي تتواجد في قلب المدن، والتي هي في كل الأحوال أفضل من دارس غزة وسوريا والعراق والأردن؟ وكم هي نسبة النجاح في مختلف المستويات الدراسية في مدارس الرباط مثلا، حيث لا يضطر التلاميذ إلى قطع مسافات طويلة سيرا على الأقدام، ولا يضطر رجل التعليم إلى استعمال دواب أو الاستعانة بالنقل السري للتنقل، ولا إلى الشمع ووسائل الإنارة البدائية؟ بل هل هناك مدرسة خاصة واحدة في المغرب تصل فيها نسبة النجاح في الباكلوريا إلى 50 في المائة رغم أن الأسر تدفع بسخاء مقابل الحصول على تعليم من فئة خمسة نجوم لأبنائها؟ ومن هنا فالإشكالية الحقيقية تتمثل بالدرجة الأولى في غياب روح الإنجاز لدى رجل التعليم، وهذا عائق لا يمكن تجاوزه حتى لو تساوت أجرة المعلم مع أجرة البرلماني أو الوزير. بعبارة أخرى، لم يعد المعلم ينظر إلى عمله على أنه رسالة أولا ووظيفة ثانيا، كما كان عليه الحال حتى عهد قريب..وتلك هي المشكلة الحقيقية.. لقد سألني والدي رحمه الله، وقد بدأ حياته معلما سنة 1944 وتقاعد مديرا سنة 1973 بعد مسار طويل في سلك التفتيش، وذلك بعد أسابيع من التحاقي بالإعدادي عما إذا كان استاذ من أساتذتي جيدا، وعندما استغربت لهذا السؤال بما أنه لا يمكن للتلميذ أن يقوم أداء أستاذه..أجابني باختصار:"إذا كنت تفهم ما يقول فهو جيد، وإذا لم تكن تفهم فهو ضعيف".. وأظن أن هذه الخلاصة هي ما يحتاج إليه الساهرون على التعليم، لفهم أن الإصلاح الحقيقي ينطلق من العنصر البشري، وهي خلاصة لا تكلف دينار ولا دولارا ولا تحتاج إلى مكاتب دراسات أجنبية ولا إلى خبراء بلجيكيين.. انتهت المدرسة بعد الاستعانة بهم إلى ما يشبه كوميساريات السبعينيات، وتحول المعلمون إلى جلادين داخل الأقسام.