كندا مملكة النساء حيث يسدن ويحكمن. ينتقمن من الرجال الذين حكموهن لقرون عديدة. في الستينات فقط كانت المرأة الكندية ممنوعة من فتح حساب في البنك بدون إذن زوجها، أما في بداية القرن الماضي فكانت الكنيسة هي التي تحدد للمرأة متى تلد ومتى تتوقف عن الإنجاب. هذا كله صار اليوم من الحكايات التي لا تصدقها بنات اليوم المتحررات من كل قيد ديني أو اجتماعي أو سياسي. الناطقة الرسمية باسم المعارضة امرأة حديدية يخشى وزراء الحكومة المحلية لسانها الطويل أكثر مما يخافون من الدببة البيضاء التي تطل على مدن كندا من الجبال المكسوة بالثلج الناصع البياض... هذا الأسبوع استجوبت وزير المالية في البرلمان حول عدم نشره لوثائق وفواتير عدد من المصروفات حتى يطلع الجمهور على تفاصيلها. وبهدلته أمام عدسات الكاميرا التي تنقل معارك استجواب الحكومة مباشرة، واتهمته بعدم الشفافية وحرمان المواطن الكندي من حق الاطلاع على المعلومات التي تهمه... مسح جبينه أكثر من مرة وهو ينفي هذه التهمة الثقيلة عنه في بلاد تقدس الشفافية، ويدير الأنترنت 90 في المائة من شؤونها... بعد الساعة التاسعة مساء تصبح للمرأة حقوق جديدة تنضاف إلى حقوقها في النهار، مثل إجبار سائق الحافلة على التوقف في أي مكان تريد المرأة النزول فيه. وإذا أصاب النحس عقل رجل مخمور وفكر في معاكستها أو التحرش بها أو حتى ملاطفتها بالقاموس المعروف عند الرجال، فإن مآله السجن والغرامات الثقيلة التي ربما تجعله يكفر بالجنس الناعم، ويفضل عليه جنسا آخر محميا هو كذلك بقوة القانون... المساعدة الاجتماعية التي تصرفها الحكومة للأطفال تمر مباشرة إلى حساب المرأة، والمساعدات التي تصرف لها إن كانت عاطلة عن العمل أو مريضة أو غير قادرة لا يحق للرجل الاقتراب منها. أكثر من هذا، فالدولة تتدخل حتى في مصروف البيت، وتلزم الزوج بإعطاء زوجته جزءا من مدخوله حتى وإن كانت تعمل وتربح؛ دع عنك الضرب أو السب أو التعنيف، فهذا مما لا يفكر فيه عاقل يريد أن يعيش خارج قضبان السجن... أما إذا فكرت في تطليق زوجتك الكندية، فعليك أن تكون مستعدا في الحال لأن تودع نصف ما تملك من مال وأثاث وعقار وملابس، أما إذا كان بينكما أطفال فعلى حياتك السلام... نسبة كبيرة من الكنديين، رجال ونساء، يتحدثون عن الزوج أو الزوجة السابقة لأن نسبة الطلاق مرتفعة جداً، فرغم وجود أربع صيغ لاجتماع الرجل مع المرأة فإن الطلاق عملة رائجة؛ هناك الزواج التقليدي، وهناك الزواج بلا عقد لكنه بنصف التزامات الزواج التقليدي، وهناك العيش المشترك بلا قيد أو شرط، وهناك صيغ أخرى يتفق عليها الطرفان لكي يظلا معا في حالة تأهب وشك وتربص... منظر شيخ وامرأة عجوز يتزوجان بعقد في خريف العمر وبعد أن أمضيا عقودا مع بعضهما دون عقد زواج لا يثير الاستغراب هنا. صار الزواج من فرط تقنينه وتدخل الدولة فيه وغلبة النساء على الرجال خطرا حقيقيا يحتاط منه الجميع؛ أما أكبر المستفيدين من انهيار مؤسسة الزواج في كندا فهي الكلاب والقطط التي صارت شريكا أساسيا لا غنى عنه بالنسبة إلى الرجل والمرأة. النساء يتغلبن على الوحدة بقط أو كلب، والرجل يستعيد بعض سلطته المنهارة مع الحيوان، فيأمره وينهاه ويعاقبه ويصرخ في وجهه بعد أن صار مغلوبا على أمره في مملكة النساء... كندا بلاد نشأت بعد انتهاء الحرب بين المهاجرين في القرن السادس عشر، وهي نتاج اتفاق بين الأنجلفون المنتصرين والفرانكفون المنهزمين، أما السكان الأصليون، الهنود الحمر كما سماهم الرجل الأبيض، فإنهم معزولون في محميات خاصة يأكلون ويسكرون بالمساعدات التي تصرفها لهم الحكومة، ويمتنعون عن المشاركة في الحياة المعاصرة لأنها تذكرهم بتاريخ يريدون أن ينسوه، يوم جاء التجار الأوربيون للبيع والشراء، قبل أن يغيروا رأيهم ويحتلوا بلادا خيراتها بلا حدود، يسكنها هنود غرقوا في شرب الخمر والتدخين الذي حمله التجار الأوربيون إلى بلاد كانت معزولة عن العالم... هذا كله تاريخ انقضى، وكندا اليوم بلاد تجلس مع الكبار حول طاولة العشرين، مع أن سكانها أقل من سكان المغرب، أما ثروتها فلا تقاس بنفط ولا غاز، بل بعقول بشرية تشتغل وتفكر، تنتج وتبدع...