نتائج الخبرة العلمية تكشف قدرة خلية "الأشقاء الثلاثة" على تصنيع متفجرات خطيرة (فيديو)    الجيش الملكي يخسر بثنائية بركانية    الجديدي وفتحي ينتقلان إلى الوداد    ساو تومي وبرينسيب تؤكد دعمها الثابت للوحدة الترابية للمغرب وتعزيز التعاون الثنائي    تعليق الرحلات البحرية بين طنجة وطريفة بسبب اضطرابات جوية وارتفاع الأمواج    حماس تؤكد مقتل محمد الضيف بعد أشهر من إعلان إسرائيل استهدافه    المغرب: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية تكشف عن أول أيام شهر شعبان 1446 ه    الشرقاوي: خلية "الأشقاء الثلاثة" خططت لاستهداف مقرات أمنية ومحلات عمومية    النقابة الوطنية للصحافة ومهن الإعلام بإقليم العرائش تكرم منجزات شخصيات السنة    اغلاق المجال الجوي البلجيكي بسبب عطل تقني    42 ألف شكاية وضعت على طاولة النيابة العامة بطنجة خلال سنة 2024    الولايات المتحدة تبدأ أكبر حملة لترحيل مهاجرين جزائريين غير الشرعيين.. هل يجرؤ النظام الجزائري على الرفض    مشروع الربط المائي بين وادي المخازن ودار خروفة يقترب من الإنجاز لتزويد طنجة ب100 مليون متر مكعب سنويًا    رحيمي ينقذ نادي العين من الخسارة    من المدن إلى المطبخ .. "أكاديمية المملكة" تستعرض مداخل تاريخ المغرب    رئاسة الأغلبية تؤكد التزامها بتنفيذ الإصلاحات وتعزيز التعاون الحكومي    الشركة الجهوية متعددة الخدمات الدار البيضاء-سطات تواصل تنفيذ برنامجها السنوي لتنقية شبكة التطهير السائل    الوداد يضم لاعبا فرنسيا ويستعير آخر من جنوب إفريقيا    زياش إلى الدحيل القطري    برقية تعزية ومواساة من الملك إلى خادم الحرمين الشريفين إثر وفاة الأمير محمد بن فهد بن عبد العزيز آل سعود    ممثل المفوضية السامية لشؤون اللاجئين: المغرب يعتمد خيارا واضحا لتدبير إنساني للحدود    بايتاس: "التراشق والشيطنة" لا يخدم مكافحة الفساد والاستراتيجية الوطنية حققت 80% من أهدافها    أمر تنفيذي من "ترامب" ضد الطلاب الأجانب الذين احتجوا مناصرة لفلسطين    الوداد يعزز صفوفه بالحارس مهدي بنعبيد    أداء إيجابي ببورصة الدار البيضاء    إطلاق النسخة الأولى من مهرجان "ألوان الشرق" في تاوريرت    بلاغ من طرق السيارة يهم السائقين    الملك يهنئ العاهل فيليبي السادس    قتلى في اصطدام طائرة ركاب بمروحية عسكرية قرب واشنطن    مقتل "حارق القرآتن الكريم" رميا بالرصاص في السويد    عاجل.. الوزير السابق مبديع يُجري عملية جراحية "خطيرة" والمحكمة تؤجل قضيته    عصام الشرعي مدربا مساعدا لغلاسكو رينجرز الإسكتلندي    قرعة دوري أبطال أوروبا غدا الجمعة.. وصراع ناري محتمل بين الريال والسيتي    ارتفاع مفاجئ وتسجل مستويات قياسية في أسعار البيض    وفاة الكاتب الصحفي والروائي المصري محمد جبريل    ""تويوتا" تتربع على عرش صناعة السيارات العالمية للعام الخامس على التوالي    الشرع يستقبل أمير قطر في دمشق    الاحتياطي الفدرالي الأمريكي يبقي سعر الفائدة دون تغيير    حاجيات الأبناك من السيولة تبلغ 123,9 مليار درهم في 2024    استقرار أسعار الذهب    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الخميس    المغرب يحقّق أرقامًا قياسية في صادرات عصير البرتقال إلى الاتحاد الأوروبي    مع الشّاعر "أدونيس" فى ذكرىَ ميلاده الخامسة والتسعين    أمطار رعدية غزيرة تجتاح مدينة طنجة وتغرق شوارعها    أمير قطر يصل لدمشق في أول زيارة لزعيم دولة منذ سقوط بشار الأسد    جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام 2025 تكرّم جهود بارزة في نشر المعرفة الإسلامية    مركز الإصلاح يواجه الحصبة بالتلقيح    الفنان المغربي علي أبو علي في ذمة الله    الطيب حمضي ل"رسالة 24″: تفشي الحصبة لن يؤدي إلى حجر صحي أو إغلاق المدارس    أمراض معدية تستنفر التعليم والصحة    المؤسسة الوطنية للمتاحف وصندوق الإيداع والتدبير يوقعان اتفاقيتين استراتيجيتين لتعزيز المشهد الثقافي بالدار البيضاء    المَطْرْقة.. وباء بوحمرون / الحوز / المراحيض العمومية (فيديو)    علاج غريب وغير متوقع لمرض "ألزهايمر"    أربعاء أيت أحمد : جمعية بناء ورعاية مسجد "أسدرم " تدعو إلى المساهمة في إعادة بناء مسجد دوار أسدرم    غياب لقاح المينانجيت في الصيدليات يعرقل سفرالمغاربة لأداء العمرة    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تساؤلاتٌ حول "الهويّة" الوطنيّة وإحتفاليّات السّنة الأمازيغيّة
نشر في هسبريس يوم 14 - 10 - 2016

الباحث الأستاذ عبد السلام بوطيّب فى مقاله: "أسئلة الهوية والذاكرة على إيقاع الاحتفال بالسنة الأمازيغية" فى دورتها المقبلة المنشور فى(" هسبريس" الأربعاء 12 أكتوبر 2016 - 09:11) يطرح علينا خلال الندوة التي يزمع تنظيمها "مركزالذاكرة المشتركة من أجل الديمقراطية والسلم" الذي يرأسه أحدَ عشرة سؤالاً دقيقاً حول هذه الإشكاليات التي تواكب هذا الموضوع الحيوي المثير الذي يتقبّله البعضُ بصدْرٍ رَحْب، ويُرحِّب به بسعةِ خاطر ،ويرمقه بمنظورٍ ثقافيٍّ حداثيٍّ متفتّح، فى حين يرفضُه البعضُ الآخر، ولا يتفهّمه، ويعتبره "عصبية قبلية تتدثّر بثوبٍ حداثيٍ خادع"..كما أنّ هناك "مَنْ يستعصي عليه فهم مضمون هذه الإحتفاليات فى الأصل، ولا يتمكّن من إستيعابها.." (أنظر التعليقين رقم 1ورقم 2 فى ذيل المقال ).وتدور هذه الأسئلة المستساغة منها والتعجيزية فى مجملها حول موضوع "الهويّة"، ومفهومها، ومضمونها، ومعانيها اللغوية واللفظية، وأبعادها، وإشكالياتها، ومُعطياتها ومقوّماتها ، وتجلّياتها، وحقوقها، وواجباتها، ما لها، وما عليها، وتحصيناتها، وحدودها، وصلاتها بالذاكرة المشتركة، وبالتاريخ، وبالأقليّات، وحمايتها، وقبول أو ردّ وصدّ الإنتقادات الضيّقة التي توجَّه لها، ومصادرها،وأثلها، وينابيعها،وأصولها، وجذورها، وسواها من الإشكاليات التي لها علاقة من بعيدٍ أو قريبٍ بمفهوم "الهوية" فى عمقها.. ويرى صاحب المقال أن أسئلة من هذا القبيل ،وما يمكن أن يُضاف إليها من تساؤلات، وإستفسارت،وإنشغالات من شأنها أن تفضي إلى إثارة نقاشٍ فكريٍّ حامٍ عميق بين المهتمين بالشأن (الهويّاتي) "من العيار الثقيل، على أن تكثف هذه النقاشات في تقرير تركيبي سيكون أرضية لإعلان سياسي بالمناسبة"...ولابدّ أن خلده كان يجولُ،ويصولُ، و لا جَرَمَ أنّ حال لسانه كان يقول : أليس من النقاش ينبثق النّور..؟!
وتجدر الإشارة، وحريٌ بنا التذكير فى هذا الصدد أنّ "مركز الديمقراطية المشتركة من أجل الديمقراطية والسّلم" كان قد أشرف بتاريخ 9 و10 يناير من السنة الجارية 2016 بمدينة مكناس على تنظيم إحتفاليات بمناسبة حلول السنة الأمازيغية(2966)، أو السنة الفلاحية الجديدة أو يوم الأرض حيث تخلل هذه الإحتفاليات تقديم أشرطة سنيمائية ووثائقية ذات أبعاد تاريخية، وثقافية،وإبداعية ،وإقامة حفلات موسيقية شاركت فيها فرق مغربية، وجزائرية، ومكسيكية ،كما أطلقت بهذه المناسبة الشّهب الإصطناعية فى الساحة الإدارية الشاسعة بالعاصمة الإسماعيلية الفيحاء.
كما تجدر الإشارة أنه خلال فعاليات هذه التظاهرة الثقافية ،والتاريخية نُظِّمت بشكلٍ متوازٍ ندوة فكرية هامة حول موضوع الدورة السابقة الذي كان تحت عنوان: "الهويّة بين الكونيّة والخصوصّية" (تشرّفتُ بحظوة المشاركة فيها) ،وكانت هذه الندوة عبارة عن لقاء مفتوح تخللته حوارات ثريّة بين صفوة من المثقفين، والباحثين الأكاديميين، والأساتذة الجامعيين، ونخبة من الإعلاميين والفاعلين المدنيين،عرفت مداخلات متنوّعة حول المواضيع التي لها صلة من بعيد أو قريب بموضوع " الهويّة" المغربية بين الكونية والخصوصية" على إمتداد التاريخ. ومن أبرز المحاور التي عالجتها هذه الندوة مكوّنات جذورالهوية ومعطياتها ومقوماتها ، وتجلّياتها، فضلاً عن العلاقات التي تربط بين هذه المكونات ، وحدود التعايش أو المواجهة بين مرجعياتها القديمة والجديدة، والأدوار التي تضطلع بها مقاربات تعدّد مقوّمات الهوية المغربية الحقوقية، والاجتماعية، والدينية .كما عالجت الندوة وظائف التعدّد اللغوي ،وصلة كل هذه المعطيات بوسائل الإعلام ومؤسسات التنشئة الاجتماعية على إختلافها، ودور المُتخصّصين من الأكاديميين، والباحثين، والفاعلين المدنيين في صياغة مقاربات، بين مختلف القضايا التي تثار حول إشكالية الهويّة والذاكرة المشتركة ،وسبر آفاق المستقبل، ورصد الرّؤى الإستشرافية والإنفتاحية والفكرية والمنهجية لهذه الهوية.
السّنة الأمازيغيّة ..؟!
ترجّح معظمُ المصادر، والمراجع، والمظانّ أنّ كلمة " أمازيغي" تعني الرّجل الحرّ أو النبيل ،ويؤكّد "الحسن بن محمد الوزّان" المعروف ب "ليون الأفريقي" صاحب كتاب "وصف إفريقيا"،وسواه ذات المعنى كذلك ، وبذلك تكون لفظة "الأمازيغ" تعني (الرّجال الأحرار أوالنبلاء )، وهم مجموعات سكنية تقطن المناطق الممتدّة بين واحة سيوة (غربي مصر) شرقاً ،إلى المحيط الأطلسي غرباً، ومن شمال البحر الأبيض المتوسط، إلى جنوب الصّحراء الكبرى ، وقد إحتفل الأمازيغ يوم 13 ينايرالجاري2016، فى مختلف هذه الضّيع ،والأرباض، والمناطق، والنواحي، والجهات، والبقاع، والأصقاع بهذا اليوم الموافق لفاتح السنة الأمازيغية الجديدة التي تصادف العام القادم الذكرى 2967، وحسب جلّ الرّوايات فإنّ هذا االإحتفال يُقرن بانتصار الأمازيغ، بقيادة ملكهم "شيشنق" أو "شيشونغ" على فرعون مصر عام 950 قبل الميلاد. ولطقوس ومظاهر هذه الإحتفالات صلات وثقى،وعلاقات وطيدة بخصوبة الأرض، وتطلّع الأمازيغ بأن تكون السّنة الأمازيغية الجديدة سنة فلاحية،خصبة،خيّرة،جيّدة ،معطاءة حافلة بالمنتوجات،والخيرات التي كا ن لها دائماً إرتباط وثيق بالأرض، ومن ثمّ ينبع حبّهم للأرض،ويتولّد تشبّثهم بها ، ودفاعهم عنها، كباقي السكّان من مختلف الأجناس، والأعراق، والإثنيات فى مختلف أنحاء المعمور.
ويشيرالأستاذ حسن إدبلقاسم، الخبير السابق لدى الأمم المتحدة حول حقوق الشعوب الأصلية:" أنّ طقوس إحتفالات الأمازيغ برأس السنة الأمازيغية لا يزال محتفظا بها في كلّ من المغرب، وبقيّة بلدان شمال أفريقيا وغربها، وفي موريتانيا، ومالي، والساّحل، حيث يوجد الطوارق، إضافة إلى نيجيريا". فى حين يرى الأستاذ محمد حنداين، رئيس كونفدرالية الجمعيات الأمازيغية في المغرب (غير حكومية) :" أنّ الاحتفال بالسنة الأمازيغية يدخل ضمن أساليب النضال الأمازيغي من أجل إقرار الحقوق الأمازيغية، لأنّ الاحتفال بالسنة الأمازيغية هو أحد الرّموز الأساسية التي إستثمرها المناضلون الأمازيغ لإبراز هويّتهم". ويشير الأستاذ سعيد أهمان ضمن تحقيق نشرته جريدة" القدس العربي" اللندنيّة مؤخّراً حول هذا الموضوع أيضاً :"أنّ معظم الباحثين يرجّحون أنّ "شيشنق" تمكّن من الوصول إلى الكرسي الفرعوني بشكل سلمي في ظروف مضطربة بمصر ، حيث إستعان به مصريّون قدماء ضدّ الاضطرابات التي عمّت مصرَ القديمة جرّاء تنامي سلطة العرّافين والكهنة". هذا وتجدر الإشارة فى هذا الصدد أنّ أمازيغ المغرب ما إنفكّوا بالفعل يطالبون الحكومةَ بإلحاح فى مطلع كلّ سنة أمازيغية، و فى كلّ مناسبة لإقرار يوم فاتح السنة الأمازيغية من كلّ حَوْل يومَ عطلة رسمية مُؤدّى عنها وذلك تناغماً، وتماشياً،وإنسجاماً مع إعتراف الدستور المغربي (2011) باللّغة الأمازيغيّة كلغةٍ رسميّةٍ للبلاد إلى جانب اللغة العربيّة.
هويّة المغرب وتراثه
وتماشياً مع هذا السّياق يؤكّد الدّارسون أنّ هويّة المغرب وتراثه العريق مستوحيان من ينابيع مغربية أصيلة، وروافد وافدة متداخلة متعدّدة، وإن إختلفت مصادرها، وينابيعها،وتباينت لغاتها وألسنتها بين ،فقد إنبثقت مقوّمات الهويّة الوطنية المغربيّة الموحّدة التي تلاحمت وإنصهرت فى بوتقةٍ فريدةٍ مميّزة متماسكة بكلّ مكوّناتها، الأمازيغيّة ، والعربيّة، والصّحراوية، والحسّانية الإسلاميّة، الغنيّة بروافدها الإفريقية، والأندلسيّة، والعبريّة، والمتوسطيّة وما فتئت العديد من النصوص، والوثائق، والمظانّ، وأمّهات الكتب والمخطوطات، والأشعار، والآداب، والفنون، والعلوم التي أبدعها كتّاب، وفلاسفة، وعلماء، و شعراء، ومؤلفون مغاربة أقاموا واستقرّوا، أو ولدوا وترعرعوا، فى هذا الرّبع القصيّ الجميل الكائن فى الشمال الغربي الإفريقي ، إلى جانب المعالم التاريخية، والمآثر العمرانية، والقلاع الحصينة، والدّور،والقصور،والجوامع والصوامع، والبساتين الفسيحة، والحدائق الغنّاء التي تُبهر الناظرين ، فضلاً عن العادات والتقاليد المغربية الحميدة التي تأصّلت في أعراف وذاكرة الشعب المغربي في مختلف مناحي الحياة، كلّ ذلك ما زال شاهداً إلى اليوم على مدى الأوج البعيد الذي أدركه الإشعاع الحضاري فى هذا البلد. فهذا الغيث الفيّاض المنهمر والمتنوّع من الإبداعات الرفيعة في مختلف الميادين لا يمكنه أن يحيا وينمو و يزدهر من لا شئ، أو داخل حدود ضيّقة أومنغلقة، بل إنّه ظهر وترعرع وإزدهر ووقف مشرئبّاً إعتماداً على نبعه الأصيل، وإغترافاً من معينه الأوّل وهو تاريخ المغرب التليد، وتراثه العريق ، وموروثاته الحضارية ذات الّرّوافد الثقافية المتعدّدة والمتنوّعة الثريّة التي تكوّن فى آخر المطاف هويّة وطنيّة"مغربية" موحّدة متماسكة بتفاعلها فيما بينها تاريخاً، وثقافة،وتراثاً، ولغة، وتجانساً، وتمازجاً ، بحيث لا نسطيع فصل جانب منها عن الآخر،أو تجاهل مكوّن منها عن باقي مكوّناتها الأخرى التي تفاعلت فيما بينها على إمتداد االحقب التاريخية المتفاوتة والمتعاقبة .
هذه الأعراق، والإثنيات،والجذور البشرية عاشت،وتعايشت، وتمازجت، وتفاعلت فيما بينها فى تكامل وإسجام بعد أن عرفت مزجاً، وتلاحماً فيما بينها فى الوجد والوجدان، واللغة والبيان، والقلب واللسان، الشئ الذي يكوّن الصّورة الأكمل، والوجه الأمثل للهوية الوطنية فى هذا الشقّ من العالم،التي تقوم على التوازن الروحي والفكري والنفسي والثقافي واللغوي فى آن واحد، وكلّ تجزيئ أو تفتيت أو إنتقاص من هذه الهوية الفسيفسائيّة هو تشويه، أو إختزال وإختلال لها،قد يزجّ بها فى خطل أو شطط التباهي بالعرقية، والإنتقائية التي لا تفضي سوى إلى التجزيئ، والإنفصام، والضعف، والوهن،والتجنّي، والتيه،والضياع، والإرتماء أوالتمرّغ فى غمر ما أمسى يطلق عليه البعض ب"أزمة هوية" أو" إشكالية هويّة" تجعل أصحابها وذويها يتغنّون بعيداً عن سرب الإجماع بنغمة إنعزالية متفرّدة.
حلقة وَصْل وملتقى الحضارات
بحكم موقعه الجيوستراتيجي المتميّز كحلقة وصل، وآصرة وثقى، وملتقى الحضارات بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب يعتبر المغرب من البلدان التي حباها الله تعالى موقعا ممتازا على الصعيد الجغرافي، ممّا هيّأ لها أن تقوم بدور تاريخي وحضاري وثقافي مرموق فى الشمال الغربي الإفريقي.،الشئ الذي هيّأ له التميّز بهويّة يطبعها التعدّد والتنوّع والغنى والثراء.
تميّز منذ أقدم العهود السحيقة بتعدّد حضاري و تنوّع ثقافي ثريّ ، حيث تعاقبت عليه،وظهرت على أديمه - مثله مثل سائر جاراته البلدان المغاربية الأخرى- دول، وحضارات، وثقافات قديمة على إمتداد التاريخ ، منها الحضارات الفينيقية، والبونيقية، والموريطانية، والرّومانية،وصولاً إلى الفترة الإسلامية التي تميّزت بإعتناق ساكنة هذه البلدان للإسلام. ويشير العلاّمة الكبير المؤرّخ المرحوم عبد العزيز بنعبد الله - فى حالة المغرب على وجه الخصوص- إستناداً إلى مؤرخين ثقات من أمثال ابن خلدون،وابن الخطيب، والبكري،وسواهم :" أنّ الحِمْيرييّن بقيادة صالح بن منصور الحِمْيَري هم مَنْ نشر الإسلامَ بين الأمازيغ في منطقة الرّيف المغربي وأقاموا إمارة نكور أو إمارة بني صالح ، وكانت بالتالي هي أوّل إمارة إسلامية ظهرت فى المغرب سنة 710م ببلاد الرّيف " . ثم أسّست بعد ذلك أيّ بعد إنصرام 78 سنة من هذا التاريخ دولة الأدارسة سنة 788م. وكان مؤسّس هذه الدّولة - كما هو معروف- هو المولى إدريس الأوّل ابن عبد الله، الذي حلّ بالمغرب الأقصى، وإستقرّ بمدينة وليلي الرّومانية المعروفة باللاّتينية : ب (Volubilis) والتي ( تقع بالقرب من مكناس بين فاس والرباط ) حيث إحتضنته قبيلة آوربة الأمازيغية، ودعمته حتى أنشأ دولته. ومعروف كذلك أنّ دولاً أخرى تأسّست قبل وصول الإسلام إلى هذه الرّبوع من أمثال (نوميديا ،موريتانيا، تنجيس )،وتعاقبت على المغرب بعد كلٍّ من إمارة بني صالح بالنكور،بالريف ، والأدارسة بوليلي بالتوالي دولُ المُرابطين، والمُوحّدين، والمَرينييّن، والسّعديين، وصولاً إلى الدولة العلوية الحالية.
الهويّة وتعدّد الإثنيات
المغرب بلد متعدّد الأعراق والإثنيات،ولكنه صاحب (هويّة) موحّدة، وهو يزخر بثقافة متنوّعة، وحضارة ثريّة. تمتدّ جذورها فى عمق تاريخه الطويل، بالإضافة إلى سكّانه الأصليين من الأمازيغ ، فقد توافدت عليه العديد من الهجرات المتوالية القادمة من المشرق، ومن جنوب صحراء إفريقيا، ومن الشّمال، وكان لكلّ هذه المجموعات والفئات البشرية أثر كبيرعلى التركيبة الإجتماعية للمغرب التي عرفت معتقدات سماوية منذ أقدم العهود ، كاليهودية، والمسيحية، وأخيراً الإسلام. ولكلّ منطقة من المناطق المغربية خصوصيّاتها التي تتميّز بها عن سواها من المناطق الأخرى، وقد أسهمت هذه الخصوصيّات في صنع فسيفساء الثقافة المغربية، ووضع الإطار المتميّز والمتنوّع للإرث الحضاري المغربي،الذي أصبح ذا طابع معروف فى العالم أجمع.
وللتنوّع الثقافي والحضاري المغربي خصوصيّات ، وعناصر متعدّدة مكوّنة لنسيجه الإجتماعي على إختلاف مناطقه وجهاته، ومن أبرز هذه المكوّنات والعناصرالتي تطبع هذه الأنسجة الحضارية الثريّة ذات الألوان المتنوّعة العنصر البشري ،واللغوي، والثقافي ،حيث تنطوي تحت هذه العناصر برمّتها مكوّنات فى العديد من المظاهر الثقافية والحضارية التي تطبع المغرب بطابع خاص ومميّز.
ويرى البعض أنّ المغرب يُعتبر دولة أمازيغية- عربية . ويصرّ آخرون بإلحاح على الهويّة الأمازيغية - الإفريقية للمملكة المغربية ،وهم محقّون فى ذلك، ويعترف المغاربة بالهويّة الأمازيغية للبلاد، بإعتبارهم السكّان الأصليّون فى بلدان الشمال الإفريقي بما فيه المغرب، إنطلاقاً وتأسيساً على التاريخ، والثقافة، واللغة،والعرق،والجنس، والعادات، والتقاليد، والموروثات المتعاقبة فى مختلف المجالات، كلّ أولئك يكوّنون الهويّة التي تميّز كلّ منطقة عن أخرى .فعلى الرّغم من أنّ الأمازيغ قد إعتنقوا الإسلام،وتعلّموا اللغة االعربية وأجادوا وألّفوا وأبدعوا فيها إبداعاً عظيماً، إلاّ أنهم متشبّتون بهويّتهم ، ومتمسّكون بتاريخهم الزّاخر،وذاكرتهم الجماعية المتواترة، وفخورون بإرثهم الثقافي المتنوّع ،ومحافظون على تقاليدهم ،ولغتهم وعاداتهم، وأمثالهم، وأشعارهم، وأغانيهم، وحِكَمهم، وفنونهم، وعوائدهم التي يتباهون بها، ويتغنّون فيها بالحياة الكريمة،والحريّة، والكرامة. ولذلك يُعتبر الأمازيغ عنصراً أساسيّاً، ومكوّناً رئيسيّاً للبلاد على إمتداد القرون ، ويعترف الدستور المغربي فى الوقت الرّاهن بالعربية والأمازيغية كلغتتين رسميتين للمغرب، ولقد إستعملت لغة الضّاد بدون إنقطاع فى مختلف مناطق المغرب وأرجائه فى الفقه،والتشريع،والأحوال الشخصية، والتدريس، والتأليف، والتدوين، والتصنيف، وفى مختلف فروع وحقول العلوم على تباينها ، فضلاً عن إستعمالها فى الإدارات،والبلاطات على إمتداد العهود التي تعاقبت على تاريخ المغرب منذ الفتح الإسلامي إلى اليوم .
العربيّة واللّغات الأخرى
الدّفاع عن اللغة العربية لا ينبغي أن يثنينا أو يبعدنا عن العناية، والإهتمام، والنّهوض، والدّفاع كذلك بشكلٍ متوازٍ عن عناصر هامّة، وأساسيّة أخرى فى المكوّنات الرئيسية للهويّة الوطنية فى هذا البلد وهي اللغة الأمازيغية، وفى حالة البلدان المغاربية على سبيل المثال ، فإنّ اللغات الأمازيغية الأصليّة فيها قد تعايشت مع لغة الضّاد منذ وصول أو دخول الإسلام إلى هذه الرّبوع والأصقاع،فى مجتمعات تتّسم بالعدّد، والتنوّع، والإنفتاح ،ليس بين لغاتها، ولهجاتها الأصلية المتوارثة، بل وحتى على اللغات الأجنبية الأخرى كالفرنسية، والإسبانية ،والإنجليزية، والبرتغالية، والإيطالية وسواها،كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وحسبي أن أشير فى هذا الصّدد إلى التعايش المتناغم الذي كان قائماً بين هذه اللغات برمّتها،والذي لم يمنع أبداً فى أن يكون هناك علماء أجلاّء فى هذه اللغة أو تلك من مختلف جهات ومناطق هذه البلدان، وكان الإنسان "العربيّ" فى هذا السياق يفتخر، ويتباهى ،ويتغنّى بأمجاد إخوانه من البربرالأمازيغ ، والعكس صحيح، قال قائلهم :(وأصْبَحَ البِرّ مِنْ تِكْرَارِهِ عَلَماً / عَلىَ الخَيْرِ وَالنُّبْلِ والمَكْرُمَات). فالبِرّ(بكسر الباء) الذي يعني الخيرَ والإحسان والنّعمة والبركة إذا كُرّر أصبح (برّبرّ). ومعروف أنّ شيخ علماء الإجتماع والتاريخ فى العالم عبد الرحمن ابن خلدون لم يتورّع من أن يدبّج بهذه الكلمة صدرَ كتابَه الكبير الذي ضربت شهرتُه الأطناب وهو المعروف ب " المقدّمة" فأسماه : " كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر" .
التاريخ لا يُقرأ في هنيهة
الحديث عن الهوية الوطنية، والتعدّد الثقافي والتوّع الحضاري فى المغرب يحلو و يطول، والتاريخ لا يقرأ في هنيهة، إنّ الزّائر الذي يأتي لبلادنا يلمس التاريخ حيّاً نابضاً قائماً في كلّ مظهرٍ من مظاهر الحياة ، دراسة هذا التاريخ، و التعمّق فيه، وإستخراج العناصر الصالحة منه أمر لا مندوحة لنا عنه،وهو أمر ينبغي ان يولى أهميّة قصوى ،وعناية فائقة ،وتتبّعاً متواصلاً من طرف الدّولة والخواصّ ، ومن لدن مختلف الجهات العلمية والتاريخيىة التي تُعنى بهذه المواضيع للتعريف بهذه الذخائر، ونشر الوعي وتأصيله بشأنها لدى أبناء جلدتهم ليكون المستقبل الذي يتوقون إليه مستقبلَ رقيٍّ وأوجٍ،وإشراقٍ وتلاقٍ بين ماض عريق، وحاضر واعد ، ولعمري إنّ لفي ذلك تجسيداً وتجسيماً للعهود الزاهرة التي عاشها أجدادنا على إمتداد العصور الحافلة بالعطاء الثرّ ، والتعايش والتسامح، والإشعاع الثقافي والعلمي الباهر الذي شكّل وما يزال جسراً حضارياً متواصلاً بين الشرق والغرب، وبين مختلف الأجناس، والإثنيات ،والملل، والنحل، والديانات فى هذا الصّقع القصيّ الجميل من العالم الذي نطلق عليه "المغرب" .
ومن العلامات المضيئة لهذا الإنفتاح والتنوّع الحضاري، والتبادل الثقافي والتثاقفي العديد من العلماء والمفكرين والفلاسفة والشعراء والفنانين والموسيقيّين الذين عاشوا فى الأندلس ثم إنتقلوا إلى المغرب و العكس صحيح ، والأمثلة كثيرة وافرة، والأسماء لا حصر لها فى هذا القبيل، وحسبنا أن نشير فى هذا المقام إلى إسميْن بارزيْن فى التاريخ المشترك للمغرب والأندلس، وهما الفيلسوف الجهبذ، الفقيه العلاّمة إبن طفيل صاحب " حيّ ابن يقظان"، وتلميذه النجيب قاضي إشبيلية ،وعالمها، وطبيبها، وفيلسوفها الذائع الصّيت أبو الوليد محمّد بن رشد اللذين إستقبلتهما مراكش بحفاوة منقطعة النظير ، وبوّأتهما أعلى الأرائك، وأرقى المراتب، وملكتهما من أعنتها وقيادتها فاستطاب لهما العيش فيها واسترغداه، وأصبحا صاحبيْ الأمر فى البلاد، ولقد وافتهما المنية فى هذه المدينة الحمراء، وحضر الخليفة أبو يعقوب المنصور الموحّدي جنازتيها رحمهما الله .
والخلاصة، فإنّه فى بلدٍ مثل االمغرب، لا يمكن تقوية الحوار ، وإحترام التنوّع الثقافي، والتعدّد الإثني،كما لا يمكن لهما أن يصبحا واقعاً حقيقياً ملموساً على الصعيديْن المحلّي،والعالمي إلاّ إذا أمكن تبنّي مبدئيهما، وترسيخهما، وفسح المجال لتحقيق أهدافهما،ومراميهما النبيلة من طرف كلّ مواطن،ومواطنة. و ذلك إنطلاقاً من الموروثات التاريخية المتعدّدة العريقة والأصيلة فيه، وَصَوْن هويّته العريقة القائمة على تواصل التفاعل الإيجابي، وتجدّده بين مقوّمات الوحدة والتنوّع، والمزج والتآلف بين روافد،ومنابع ،ومناهل هذه الهويّة ، والتشبّث بالقيم الإنسانية والكونية.وترسيخ ميثاق حقيقي لضمان وتأكيد الحقوق،وتبيان الواجبات، وتأصيل الحريّات الأساسية،والتشبّث بقيم،ومبادئ الإنفتاح، والإعتدال،والتسامح،وتأصيل الإحترام المتبادل بين الأفراد والجماعات، ونشر الحوار، والتفاهم المتبادل بين مختلف الثقافات، والحضارات الإنسانية، فضلاّ عن تلاحم وتنوّع مقوّمات الهويّة الوطنية الموحّدة،وانصهار،وتمازج كلّ مكوّناتها، الإسلامية العربية،والأمازيغية الأصيلة، والصّحراوية الحسّانية، الثريّة بروافدها، ومنابعها الأفريقية، والأندلسية ، ومن فيض مختلف روافد ،وينابيع حضارات، وثقافات حوض البحر الأبيض المتوسّط التي تعاقبت عليها.
يحتّم علينا واقعنا المُعاش فى الوقت الرّاهن المزيد من التعارف، والتآلف، والتقارب، والتداني، والتصالح، والتصافح، والتكتّل والإندماج،وإقصاء،ونبذ،وتجاوز كلّ منظور فكري ضّيق،ومعتم يعتبر المجتمعات مجرّد دول،وشعوب، وجماعات، وأجناس، وإثنيات،متفرّقة، مشتّتة، متباعدة، متنابذة، تتعايش، وتتبارى، وتتنافس فيما بينها، والتّوْق إلى تبنّي،وإقرار،وتأصيل،وتأثيل،وترسيخ،وتأكيد مفهوم أوسع فضاءً، وأنجع ثراءً،وأفسح معنىً ،وأكثرشمولية،وأجدى إيجابية يجعل من هذه الشعوب ،والمجتمعات، والجماعات، لبناتٍ ثابتة،وجذوراً راسخةً، ومتنوّعة لكيانٍ واحدٍ مشتركٍ، ومتماسكٍ، قائمِ الذّات،تتجلّى، وتتبلور،وتتجسّم فيه أحلى، وأجلى،وأرقى،وأنقى، وأبهى،وأروع معاني الإنسانية، والتوحّد،والشمول،دون التهميش،أوالتناسي،أوالتفريط قيد أنملة فى الحقوق المُصانة.. والمطالب المشروعة لأيِّ مكوّنٍ من هذه المكوّنات الأساسيّة برمّتها لهويّتنا الوطنية التي بدونها، ولولاها لأنفرط العِقدُ، وتناثرتْ حبّاتُه، ولتهاوىَ الصَّرْحُ، وإنشرخت لبناتُه.
*عضو الأكاديمية الإسبانية - الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- (كولومبيا) .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.