قبل أن يفتح عالم الإنترنيت فضاءه المباح والمستباح للجمهور العريض، كانت وسائل النشر - على محدوديتها - تفرز حقولا معرفية محددة بماهية وآليات اشتغال منهجية مضبوطة وواضحة. كان لكل حقل معرفي عشاقه ونقاده إلى جانب مبدعيه. حتى منتصف الثمانينات من القرن الماضي، كانت خمس مجلات على الأكثر كافية لبعث دينامية ثقافية في بلد عربي، حمل مثقفوه همّ مجابهة شتى أشكال النكوص والتخلف، وحلم اللحاق بركب الحداثة والتقدم في زمن ضاق فيه هامش حرية التعبير.. كانت جذوة الإبداع متقدة وحركة الرصد والنقد الثقافيين متنامية في الفضاءات الثقافية بدُور الشباب وقاعات السينما والمسرح، فضلا عن الثانويات والجامعات، يوم كانت المدرسة تشحذ العقول وتصقل المعرفة وتنتج المعنى في إنصات عميق لنبض المجتمع. مجلة (الناقد) الرائدة، التي كانت تصدر من بيروت، لم تكتف على مدى سنوات بإمتاع وتثقيف القارئ بالجديد والمدهش في شتى أصناف الإبداع؛ بل كانت ترصد الشوائب وتكشف الضحالة في عالم النشر، أيضا، من خلال ركن بكل عدد من أعدادها، اختارت له عنوان: "دليل القارئ إلى الكتاب الرديء"!. ولأن التهافت على توظيف التكنولوجيا "الدخيلة" لم يواكبه القطع مع شتى عوامل التأخر، وفي زمن انفلتت فيه حرية التعبير من عقالها، أضحت شاشة الفضاء الأزرق ومواقع التواصل الاجتماعي بالعالم العربي تعج بمزج عجيب غريب من الأقوال والتعبيرات، يختلط فيه الحابل بالنابل، وتجاور الانطباعات الشخصية والنزوات الذاتية الكتابة النقدية والمقاربة الموضوعية. في الفضاء المباح المستباح، طغى الغث على السمين واكتسح السطحي العميق، ويحدث فيه أن يبدل صاحب الموقف موقفه كليا، من مدح إلى قدح بعد حين وعلى الموقع نفسه.. بات المشهد يرسم حركة انحدار مهول للفكر تغذيها نزعة "شعبوية" تطال كل مجال، حيث أصبح الجميع كتابا "ينظرون" و"ينتقدون" و"يجادلون" في عوالم السياسة والأدب والفن والاقتصاد والرياضة وغيرها..! روى الكاتب الفلسطيني ربعي المدهون، الذي استضافه مؤخرا مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة في إحدى أمسياته الثقافية بمدينة المحرق (شمال البحرين)، تجربة حصول روايته (مصائر.. كونشرتو الهولوكوست والنكبة) على الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، كاشفا عن سمات ونوازع "حروب" ثقافية، خصوصا على صفحات للتواصل الاجتماعي، ومواقع "ثقافية" انتشرت على الشبكة العنكبوتية كالفطر. لقد أثار هذا الفوز، وهو الأول لفلسطيني، سيلا من ردود الفعل غير التقليدية لدى من أسماهم الروائي "الانتقاديين العرب". وقد جاء الجدل محمولا، مرة، على سرد نقدي جمالي وأكاديمي منهجي باحثا عن جديد هذا العمل التجريبي المختلف، ومرة أخرى متخذا طابعا انتقاديا انفعاليا وشعبويا حكمته اعتبارات من خارج النص، واستند إلى أحكام سياسوية وإيديولوجية محضة. ويجزم المدهون بأن كل الجوائز الأدبية في العالم أثارت خلافات ومناكفات؛ غير أن المسألة في المنطقة العربية اكتست حدة، وأخذت شكل المنطقة نفسها، حيث ورثت صراعاتها وخلافاتها وظواهرها السلبية الغالبة. المفارقة هي أن الكل يجمع حول أهمية الجوائز الأدبية ويرحب بها، خاصة (البوكر)؛ لكن الكثيرين يخوضون حروبا كلامية حولها كل عام، بدرجة تكشف عن أزمة ثقافية بل وأخلاقية أيضا، يؤججها أساسا عامل الحسد، كما بيّن الكاتب الفلسطيني، خصوصا أن الأمر يتعلق باختيار أفضل رواية عربية يتسلم صاحبها مبلغ خمسين ألف دولار، إضافة إلى مبلغ عشرة آلاف دولار كمكافأة عن وصول الرواية للقائمة القصيرة، وامتيازات أخرى. يؤكد الناقد الفلسطيني الكبير فيصل دراج أن المدهون عالج قضيته الوطنية بمنظور عميق وأضاف إلى الرواية الفلسطينية، إلى جانب الثلاثي غسان كنفاني وإميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا، بعدا جديدا. وبالمقابل، يتساءل صحافي مصري: "كيف تكون روائيا فاشلا، وتحصل على (البوكر)؟". من خلال النصوص التي سردها المدهون، يبرز هذا التنافر في الآراء والمواقف.. يؤكد الناقد المصري محمد عبد الشكور أن رواية (مصائر.. كونشرتو الهولوكوست والنكبة) هي "رواية العودة إلى فلسطين والبقاء هناك.."، فيما تكتب الفلسطينية رولا سرحان: "مصائر المدهون.. نكبة فلسطين ونكبة (البوكر)..". وذهب آخر إلى حد القول: "الطريق سالكة نحو التطبيع".. ويوضح المدهون أن "الشعبوية" التي طبعت بعض النماذج النقدية بلغت ذروة اندفاعها وأبانت عن سطحية وعدم معرفة في قراءة النص نفسه، عند اتهام صاحبه مباشرة بمساواة نكبة فلسطين بالهولوكوست، انطلاقا من تجاور النكبتين في عنوان الغلاف وليس انطلاقا من قراءة فحوى الرواية التي لم تقارن بين الحالتين؛ بل كانت محاولة لمقاربتهما من منظور إنساني ليس إلا. يجمع الكثير من الكتاب والنقاد على أهمية جائزة (البوكر) في إثراء الحياة الثقافية العربية والسرد تحديدا، وإعطاء زخم للرواية العربية، والانطلاق بها نحو العالمية، وجلب العديد من الجمهور إليها بعدما اتسعت الهوة بين الكاتب وبين القارئ العربي، وفسح المجال للظهور الإعلامي والتسويق والتوزيع، وتسليط الضوء على الأعمال المتضمنة في اللائحتين الطويلة والقصيرة، فضلا عن الأعمال الفائزة. ولا يشكل كل ذلك الكلام، حسب المدهون، سوى نصف الحقيقة، إذ إن هؤلاء الكتاب سرعان ما يتنصلون من "عقلانيتهم" لينزعوا نحو التشهير، بل والتجريح أحيانا.. ودلل على ذلك بنصوص كتاب امتدحوا الجائزة، قبل أن يوجهوا على مواقع النشر نفسها وابلا من سهام "النقد" إليها. ومن الاعتراضات المعلنة في هذا الشأن اعتماد الجائزة على ترشيح الناشر لثلاث روايات؛ وهو ما يخضع عملية الاختيار لفهم الناشر لفن الرواية ولمزاجه الشخصي وعلاقاته الخاصة بالروائيين، وحساباته الخاصة بالربح والخسارة، وكون الجوائز الأدبية "مجرد علاقات عامة ترويجية"، ناهيك عن "هيمنة" المحكمين ومفاهيمهم النقدية الخاصة التي "كثيرا ما تكون مثيرة للريبة والتساؤل"، وغياب الذائقة الأدبية وسيادة القراءة "الانطباعية".. يكتب أحدهم: "أحب أن يترشح عملي لجائزة ما وأن يفوز. غير أنني أفضل غياب الجوائز لصالح حرية تعبير ونشر غير محدودة (..)"؛ وهو ما يعني، حسب المدهون، "إما أن أفوز أنا أو لا أحد.. !". فيما تجزم كاتبة بأن بعض الأعمال تصل إلى اللائحة القصيرة للجائزة، بالرغم أن القراء يجمعون على رداءتها، وهو ما يعكس ظاهرة متفشية في أوساط المثقفين: النطق بلسان الجميع والتحدث باسمهم! وتنطلق هذه الانتقادات من اعتبارات موحدة تقريبا، تهم بالأساس الموقف من لجان التحكيم، وآلية اتخاذها للقرار، والمعايير المعتمدة من لدن كل لجنة (النزاهة، والمصداقية، والشفافية، والأحقية، والقيمة الأدبية والفنية..)، وأهمية الموضوع، والتحيزات الإقليمية، والاختيار على أسس سياسية، واستبعاد أعمال إبداعية "مهمة"، وتكريس المكرسين أو استبعاد المكرسين، ومحاباة دور النشر. لقد ذهب روائي عربي، تحفظ المدهون على ذكر اسمه، إلى حد إصدار ما يشبه نص "قرار إعدام" في هذا الباب، إذ اعتبر أن أي رواية من الروايات الفائزة بجائزة (البوكر)، أشهر الجوائز العربية وأهمها، لم تكن لتستحق هذا الفوز، من وجهة نظره كقارئ!. إنه يرى أن (واحة الغروب) للمصري بهاء طاهر، "رواية جميلة، لكنها أقل من أن تفوز بجائزة.."، ورواية (عزازيل) للمصري يوسف زيدان "عميقة، لكنها رواية هجائية وغير مهذبة تجاه بعض الأفكار، ومهمة الفن ومعه الجوائز ألا يتبنى أفكارا على حساب أخرى.."، ورواية (ترمي بشرر) للسعودي عبده خال، "تتبنى مفهوما باليا للفن الروائي (الكشف والتعرية). ويعتبر هذا الروائي، أيضا، أن رواية (طوق الحمام) للسعودية رجاء عالم "رواية لغتها منتفخة ولا تفي بالفكرة بأحسن ما يكون.."، ورواية (دروز بلغراد) للبناني ربيع جابر "لغتها ضعيفة جدا، وأخطاؤها في التركيب تغث القارئ.."، أما رواية (ساق البامبو) للكويتي سعود السنعوسي، ورواية (فرنكشتاين في بغداد) للعراقي أحمد سعداوي، فهما "مثالان واضحان عن الرواية التي لا تعي ما تريد أن تقول، وكاتباها مثالان جليان للجيل العربي الذي يكتب من دون أي تصور للرواية. إنه يكتب فقط من دون أن يكون له تصور واضح عما يكتبه".. ويجزم صاحب النص بأنه ما كان لهذه الروايات أن تفوز لو أن المحكمين كانوا على قدر كاف من التأهيل لقراءة الرواية. والحالة هذه!، يرد صاحب (مصائر.. كونشرتو الهولوكوست والنكبة)، يتعين إخضاع خمسة وأربعين محكما مروا على الجائزة حتى الآن، لدورات تدريبية دفعة واحدة، لتعلم القراءة والنقد والحس والذوق..! لعل الطريق بذلك تصبح سالكة دون شك أو ريبة نحو نيل الجائزة!.. تلك المحبوبة المعشوقة، المذمومة المشتهاة في آن! * و.م.ع