بعد ترقب مشحون بالتنبؤات والمراهنات، أفرزت صناديق الاقتراع المتعلقة بانتخاب مجلس النواب مجموعة من الحقائق التي تبقى في حاجة إلى تحليل معمق لاستشراف تجلياتها المختلفة، اعتبارا لكون الانتخابات، خاصة التشريعية منها المحددة لنوعية السلطة التنفيذية المقبلة، لم تعد فقط محض لحظة وطنية، بل هي إشارة دولية يلتقطها المحيط الخارجي لتحديد درجة النضج الديموقراطي الذي وصلت إليه بلادنا. في هذا السياق، أكد، من جديد، هذا الاقتراع الثاني الذي يتم في ظل دستور 2011 أنه بقطع النظر عن بعض التشنجات وردود الفعل الانفعالية الناجمة عن مناخ العملية الانتخابية، وكذلك الطعون التي ستمارس أمام القضاء الدستوري، فإن الانتخابات في المغرب قد أخذت مسارها العادي ولم تعد محل تشكيك سياسي؛ حيث مرت في ظروف عادية. وهي إشارة واضحة على انخراط المغرب في تدبير الاستحقاقات الانتخابية بنوع من الشفافية والتنافسية في ظل خصوصياته المجتمعية. وهو أمر لا يمكن إلا أن يجد صدى طيبا في المحيط الخارجي ويزكي صورة البلد المستقر القادر على دمج مختلف القوى السياسية في ديناميته. وهي معاينة تكتسي أهميتها البالغة إذا ما وضعناها في سياقاتها الإقليمية المتسمة بكثير من الاضطراب والقلق واللااستقرار. لكن على مستوى آخر، فإن المشاركة المواطنة في هذا الاقتراع لم تكن في الموعد المرجو. فقد ظلت نسبة المشاركة منخفضة عن النصف، بل أكثر من ذلك فقد تدنت بنقطتين عن النسبة المسجلة في استحقاق 2011، وهي 45 %. ومن جهة، فإن هذه النسبة تعكس، بصرف النظر عن جانبها السلبي، الطابع الشفاف للانتخابات؛ حيث إننا لم نعد أمام تلك الأساليب البالية التي كانت تضخم في هذه النسبة لأسباب سياسوية. لكن من جهة أخرى، فإن هذا المعطى يسائل الفاعلين السياسيين عن دورهم الحقيقي في تعبئة المواطن. هناك عدة تفسيرات قد تسعفنا في فهم هذا العزوف من طرف المواطن بالنسبة لحدث يرهن مستقبله في بعض القطاعات، من بينها أنه عبر العالم، فإن السياسة لم تعد تحظى بسمعة طيبة؛ فقد أصبحت مقرونة بالمناورات وخدمة المصالح الخاصة على حساب المصلحة العامة. ومرد ذلك إلى سلسلة من الممارسات لبعض رجال السياسة الذين شوهوا صورة هذا المجال. وثانيها يعود إلى كون شريحة واسعة باتت تعتقد أن الانتخابات ليست الأداة الفعلية لتغيير الأوضاع؛ فمهما كانت الأغلبية أو المعارضة، فإن القرار يوجد خارج مراقبتها. وثالثا: قد يدركها البعض وكأنها مجرد سوق للوعود المجانية التي سرعان ما يتم التنكر لها مباشرة بعد انتهاء الاستحقاق. وأخيرا، قد يعود الأمر إلى أسباب ذاتية راجعة إلى عدم تحمل المواطن لمسؤولياته لاعتبارات عدة يطول شرحها. لذلك يبقى رهان مصالحة المواطن المغربي مع السياسة ومع رجالها ونسائها من التحديات الكبيرة اعتبارا للمخاطر الناجمة عن تنامي هذه الظاهرة على شرعية الفعل السياسي ونجاعته. لكن النقاش حول نسبة المشاركة لا يتعلق فقط بجانبها الرقمي، بل إنه يطرح سؤالا مهما حول المستفيد من هذه النسبة. وفي ظل ضعف السوسيولوجيا الانتخابية في بلادنا، وغياب استقراءات مستقلة للرأي، يمكن أن نجازف بالقول إن حزب العدالة والتنمية الذي يستفيد من كتلة ناخبة متجانسة ومعبأة هو المستفيد، لكونه يستفيد من تجند كافة ناخبيه وإدلائهم بأصواتهم، في حين إن أحزابا أخرى، وخاصة من اليسار، تبدو من ضحايا هذا الواقع. فجزء من كتلتها الناخبة بات يمارس أسلوب الغياب كموقف احتجاجي ضد ما يصفه بالممارسة غير الديموقراطية لقيادته، أو إدعاء أن كل الأحزاب متشابهة، وبالتالي لا داعي لممارسة هذا الحق لأنه لن يغير كثيرا من واقع الحال. على مستوى النتائج المسجلة، أكدت ما كان يروج خلال الحملة الانتخابية بوجود قوتين باتتا تمثلان قطبين في الساحة السياسية المغربية، وهما العدالة والتنمية من جهة، والأصالة والمعاصرة من جهة أخرى، بينما لم تستطع القوى الأخرى مجاراة سرعة الصراع. بيد أنه بصرف النظر عن هذه المعاينة المبدئية، لا مناص من التساؤل حول ما إذا كان المشهد السياسي المغربي قد دخل عملية إعادة التشكل ارتكازا على قطبية ثنائية واضحة، أم إنه من السابق لأوانه الإتيان باستنتاج نهائي. مهما يكن من أمر، لم يكتف حزب العدالة والتنمية بتزكية موقعه كقوة أولى في المشهد السياسي، بل دعم هذا الموقع بإضافة مقاعد أخرى. وربما يكون انتشاره قد توسع ليس فقط في الحواضر، ولكن أيضا في البوادي. وهي التي نالها جزئيا على حساب حلفائه الذين لم يستفيدوا من تواجدهم إلى جانبه، كما هو الأمر بالنسبة للتقدم والاشتراكية والأحرار والحركة الشعبية. وتؤشر هذه النتيجة على معاينة مضمونها أن الحزب الذي قاد الحكومة لم تستنزفه الممارسة الحكومية، ولم تنل من متانته التنظيمية والتعبوية. ويعتبر ذلك إفرازا لعوامل عدة، منها ما هو ذاتي ومنها ما هو موضوعي. ففي هذا السياق، لا يمكن إغفال الإسهام الواضح للأمين العام رئيس الحكومة السيد عبد الإله بكيران. فقد تمكن خلال السنوات الخمس الماضية من تمرير صورة رجل لا يخلو من تلقائية ومن رغبة في ممارسة السياسة بمفهومها الأصلي المتمثل في تدبير الشأن العام. ونجح في تعبئة الطاقات الحزبية وفي استمالة جزء من الرأي العام الذي تعاطف معه، خاصة عندما يعزف على نغمة المظلومية وعلى مصداقيته في مواجهة خصومه. فضلا عن ذلك، فإنه لم يتردد في الدفاع عن إصلاحات لا شعبية، ولكنه اعتبرها ضرورية. أكثر من ذلك، فإن مجموعة من الممارسات غير المدروسة من طرف خصومه ربما أدت إلى تدعيمه أكثر من النيل من شعبيته. وبصرف النظر عن عدد المقاعد، فإن ما هو مقلق بالنسبة للتقدميين في هذا البلد كون الخط المحافظ يتدعم ويترسخ، ويفرض علينا أن نطرح مجموعة من التساؤلات: هل الأمر يتعلق بتوجه مجتمعي هيكلي أم إنه مرتبط باعتبارات ظرفية؟ هل هو نتاج للقوة الذاتية لهذا التيار أم إنه إفراز لعجز القوى التقدمية والحداثية على بلورة مشروع ذي مصداقية يمزج بين متانة البرنامج وصدقية الممارسة؟ بنفس أقل يتموقع حزب الأصالة والمعاصرة. صحيح أنه لم يتبوأ المقعد الأول كما كان يروج لذلك، لكنه استطاع أن يضاعف من غلته؛ حيث تجاوز سقف المائة مقعد بعد ما كان رصيده لا يتجاوز 47 مقعدا في مجلس النواب السابق. وكما هو الأمر بالنسبة للعدالة والتنمية، فقد تقوى على حساب حلفائه؛ فمن الواضح أنه لم يتمكن من استقطاب قاعدة العدالة والتنمية لكونها متراصة، لكنه استقطب جزءا من أصواته من ناخبي أحزاب حليفة له. وفي حالة قيادة العدالة والتنمية للحكومة المقبلة، فإن السؤال يطرح حول طبيعة وشكل المعارضة التي سيقودها، وهل سيغير من استراتيجيته لقيادة معسكر حداثي قادر على مواجهة المعسكر المحافظ التقليدي بأسلحة فكرية، وبمقترحات كفيلة بأن توازن نفوذ العدالة والتنمية، أم إنه سيستمر في خطته التي تبناها إلى حد الساعة؟ بعيدا عن هذين القطبين، أعطت باقي الأحزاب الانطباع وكأنها أرانب سباق. ولم تكن ذات جاذبية كبيرة خلال الحملة الانتخابية. فإجمالا تم حجبها من طرف الحزبين السابقين، وقد سجلت تراجعا ملحوظا. ومن الواضح أن هذا الأمر يطرح تساؤلا حول عدم استفادتها من إشعاع القطبين السابقين. هل يتعلق الأمر فقط بقوة جاذبية ووسائل الحزبين الرئيسيين؟ هل يعود الأمر إلى المقتضى الدستوري المتعلق بتعيين رئيس الحكومة، والذي يفرض انبثاقه من الحزب الأول، ما أجج الصراع بين قوتين، وبالتالي أهمل باقي القوى؟ من الواضح أنه من الصعب الإتيان بتفسيرات تبقى ذات عمومية كبيرة. فما أحوجنا إلى دراسات مونوغرافية لنتائج كل حزب لمعرفة الأعطاب التي شابت ممارسته، وأفضت إلى هذه الحصيلة. في خضم هذه المعاينة، يطرح موقع اليسار بكل أطيافه بصرف النظر عن تموقعه. فإذا استثنينا فيدرالية اليسار التي لم تشارك في الانتخابات السابقة، والتي تمكنت من الحصول على مقعدين، وهي نتيجة تبقى متواضعة، لا يمكن أن تكون مؤشرا لميلاد خط ثالث على الأقل على المدى القصير، فإنه يلاحظ تراجع واضح للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي يبدو أنه استقر في خطه التنازلي الذي سجله بدءا من انتخابات 2007، والذي كرسته إفرازات الانتخابات المحلية لشتنبر من السنة الماضية بالرغم من التصريحات المتفائلة لقيادته. والشيء نفس بالنسبة لحزب التقدم والاشتراكية الذي استمات في الدفاع عن الممارسة الحكومية دون أن يجني بعض ثمارها. وبقطع النظر عن كون اليسار عالميا يواجه انحسارا، فلم يعد يغري، ولم يعد قادرا على الإتيان ببدائل للأزمة الاقتصادية والمجتمعية، وللقلق الكبير من المستقبل في ظل تزايد التحديات الناجمة عن النظام الرأسمالي العالمي. إن معاناة اليسار المغربي ستتعمق إذا لم يقم بالتشخيص الجريء والشجاع لتراجعه. فهو بات مفتقدا لقيادات ذات كاريزمية، ولخط سياسي واضح، وتنظيم حداثي كفيل بضمان تجديد نخبه. بصيغة أخرى، فهو مطالب بمراجعة للذات على أساس احترام قيمه القائمة على نكران الذات، وبإعطاء المثل في الاستقامة والنزاهة. ومن ثم، بقدر ما يشكل الحديث عن قوة جديدة مطلبا ملحا، بقدر ما يتطلب الأمر الابتعاد عن التقييمات المتسرعة، والاقتناع بأن الطريق إلى ذلك يبقى عسيرا وشاقا. بصرف النظر عن تداعيات تشكيل الحكومة التي ستبتدئ أطوارها بتعيين الملك لرئيس الحكومة وفقا لمقتضيات الدستور، فمن المهم التذكير بأن الاستحقاقات الانتخابية في الدول الديموقراطية العريقة ليست فقط محطة لإفراز النخب التشريعية والتنفيذية، بل هي بالدرجة الأولى لحظة لتقييم حصيلة القيادات التي قادت هذه المحطة ومحاسبتها بشكل عسير. فهل سيشهد الحقل السياسي على ضوء النتائج المسجلة تغييرا في القيادات أم إنها ستلتجئ، كعادتها، إلى تبريرات مصطنعة لضمان هيمنتها مهما كان عطاؤها؟ ذلك ما ستبرزه الأيام المقبلة.