بصرف النظر عن بعض الخروقات والشوائب المرتبطة بالعملية الانتخابية، ومن أبرزها أساسا استعمال ما يسمى بالمال الحرام ، فإن الانتخابات التي جرت في 4 شتنبر تبقى لحظة مهمة في المسار السياسي للمغرب. فبقطع النظر عن التراشق، وعن ردود الفعل التي قد تكون مقرونة بلحظة الانتشاء بالنسبة للبعض، أو صدمة النتائج بالنسبة للبعض الآخر، فإن تجليات هذه الانتخابات لم تخل من إفرازات منها ما كان منتظرا، ومنها ما فاجأ المتتبعين لهذه العملية الانتخابية . من الظواهر الإيجابية التي ينبغي تسجيلها بالمقارنة مع ما يجري في محيطنا، هو كون إجراء الانتخابات في ظروف وصفها وزير الداخلية بالعادية، هو تأكيد على المسار الصحيح الذي تسير فيه بلادنا، والتي تسعى تحت قيادة جلالة الملك إلى بناء دولة تستند إلى التنافس في تدبير خلافاتها، مهما كانت حدة التناقضات، فعدد القوى السياسية التي شاركت تمثل مظهرا لهذا التنوع، وإن كانت تساهم كذلك في بلقنة الخريطة السياسية. نسبة المشاركة تظل مقبولة. لقد كانت هناك تخوفات من أن التوقيت المبرمج لا يشجع على المشاركة وصلت إلى حد مطالبة بعض أحزاب المعارضة إلى تأجيل هذا الاستحقاق، بيد أن الإصرار على إجرائها كان صائبا. فقد بقيت نسبة المشاركة التي وصلت إلى 53,67 إجمالا مشابهة لتلك التي سجلت في سنة 2009 . وبصرف النظر عن التفاوت التي سجلته من مدينة إلى أخرى ، فإن ما هو جدير بالإشارة هو المشاركة المكثفة التي سجلت في المناطق الجنوبية. وهو أمر يعكس تشبث السكان الصحراويين بمغربيتهم، وبمقترح الحكم الذاتي الذي وضعه المغرب منذ أبريل 2007 على طاولة التفاوض. فقد شكلت الانتخابات الجهوية التي جرت لأول مرة بالاقتراع العام المباشر لحظة أولية في ورش الجهوية الذي يفترض فيه أن يعيد النظر في شروط الحكامة الترابية في بلادنا . الظاهرة الثالثة التي ينبغي الوقوف عندها، تكمن في كون الانتخابات باتت تدريجيا تمثل بالنسبة للناخب لحظة للانتقاء والتقييم السياسي لعطاء الفاعلين، وخاصة منهم المشرفين على شؤونه. ولا ريب في أن الروح التي أقرها دستور 2011 ، وما تبعها من إصلاحات لمناهضة كل ما يشوه نزاهة وشفافية العملية الانتخابية قد ساعدت بشكل ملحوظ على تحقيق هذا الهدف، بحيث تجلى بشكل واضح من خلال ردود فعل الفاعلين السياسيين أن الأمر لم يعد مرتبطا بتدخل الإدارة أو بوجود إرادة لتوجيه مسار هذا الاستحقاق، فالخروقات انصبت على سلوكيات بعض المرشحين وأنصارهم. وهو أمر ينبغي التصدي له عبر المساطر القضائية التي تشكل جزءا من العملية الانتخابية نفسها . إن الإقرار بهذا التقدم لا يعني مطلقا تجاهل بعض السلبيات التي مازالت تعيق العملية الانتخابية، فهي تتطلب مضاعفة الجهود من طرف كافة الفاعلين لكي يصبح الاقتراع لحظة موضوعية للتقييم والانتقاء بدون تشنج، فعلى شاكلة الدول الديمقراطية العريقة، من حقنا أن نتطلع إلى ممارسة انتخابية تكون فيها معاهد استطلاع الرأي قادرة على استشراف النتائج قبل وزارة الداخلية نفسها. على مستوى نتائج هذا الاقتراع العام ، فقد زكت إجمالا واقع البلقنة الذي يعيشه المشهد السياسي، حيث لا مناص من انتظار عملية تكوين المكاتب التي ستتولى التدبير سواء على المستوى المحلي أو الجهوي لتكتمل الصورة، ولنحدد بشكل أكثر وضوحا كيفية استثمار الفاعلين المختلفين لهذه الحصيلة . لكن في انتظار ذلك، من الممكن أن نقرأ نتائج هذا الاستحقاق على ضوء عروض وتطلعات القوى السياسية البارزة وانتظاراتها، من خلال ثلاث ديناميات: دينامية التقدم ودينامية الاستقرار والمحافظة، ودينامية التراجع. 1 دينامية التقدم يجسد هذه الدينامية بشكل بارز حزب العدالة والتنمية، وهي لا ترتبط بهذا الاقتراع فقط ، بل يظهر من استقراء مشاركة هذا الحزب في هذه الاستحقاقات أنه في خط تصاعدي متواصل. ويظهر ذلك سواء من خلال عدد الأصوات التي حصل عليها ، أو من خلال عدد المقاعد. فقد تمكن من مضاعفة غلته بأكثر من ثلاث مرات حيث قفز من 1513 مقعد في انتخابات 2009 إلى أكثر من 5 ألاف مقعد في الاستحقاق الحالي. لكن إذا كان هذا الانتصار إلى حد ما منتظرا ، فينبغي الإقرار أنه كان مفاجئا في حجمه، وتمكنه من اكتساح أهم المدن التي تمكن فيها من دحر خصومه، كما هو الأمر في أغادير والدارالبيضاء و الرباط ومراكش وفاس وطنجة . لم يكن أحد ينتظر هذا التيار الجارف لحزب العدالة والتنمية. ما الذي يفسر ذلك؟ علينا أن نكون متواضعين في تحليلاتنا. فنحن أمام اقتراع محلي، يحتاج إلى أدوات ومعطيات معمقة حول خصوصيات كل منطقة ما زلنا نفتقدها . في نفس الوقت، فإن السوسيولوجية الانتخابية في بلادنا تبقى متواضعة لحد الساعة . لذلك تعددت التفسيرات. التفسير الأول يرتبط بالحزب نفسه، وبإدراك المواطن له. فعموما تبدو صورة الحزب في مجتمع تغلب عليه النزعة الأخلاقية في معالجة الظواهر السياسية مطبوعة بالإيجابية. فبشكل مفارق، يقدم نفسه كحزب أكثر حداثية ولو أنه ذات مرجعية محافظة وتقليدية، فقد تمكن من إدارة مؤتمراته بهدوء، ويقوم بانتقاء مرشحيه بشكل يبدو أكثر ديموقراطية، لا تحيط بهم الكثير من الشبهات، فهم إجمالا يستفيدون من عذرية ومن الامتياز الذي يوفره موقع المعارضة، أكثر من ذلك يبدو لدى البعض وكأنه الأكثر رغبة في الإصلاح بالمقارنة مع الأحزاب الأخرى التي خبر عطاءها وممارساتها . التفسير الثاني يرتبط بتقييم المواطن لممارسة النخب السابقة التي كانت تدبر الشأن المحلي . وإجمالا، فهي محل انتقادات كثيرة وحصيلتها بالمقارنة مع وعودها وبرامجها ليست إيجابية. وتقدم الدارالبيضاء النموذج الصارخ للاختلالات التي يعرفها التدبير المحلي . كما أن تقارير المجلس الأعلى للحسابات قد عرت الكثير من الشوائب و التجاوزات و الفساد في هذا المجال. بيد أن مجموعة النخب ومن ورائها الأحزاب لم تعر أهمية لذلك، ولم تتخذ الإجراءات التي تفرضها متطلبات الديموقراطيىة لردع المفسدين المنتمين لها ، بل لم يتردد بعض زعماء الأحزاب في الدفاع عنها من باب: أنصر أخاك ظالما أومظلوما ، ربما متغافلين عن التحول الذي يعرفه المغرب، والمواطن المغربي على شاكلة الدول الأخرى بفعل تنامي وسائل الاتصال وظهور المواقع الاجتماعية . التفسير الثالث يرتبط بصورة حزب العدالة والتنمية كقائد للحكومة. لا شك أن الحكومة الحالية لم تقم بإنجازات ملموسة مهمة على مستوى الهياكل و البنيات ، و إن كانت قد قامت ببعض الانجازات الاجتماعية ، و لكن ما يحسب لها أنها عبرت عن إرادة واضحة في فتح ملفات شائكة كما هو الأمر بالنسبة للتقاعد أو المقاصة. وبدل أن تنخرط أحزاب المعارضة في هذه الأوراش بتقديم مقترحاتها، والدفاع عن ضرورات الإصلاح لأنه يتجاوز الظرفية والفئوية، فإن زعماء المعارضة تبنوا أسلوبا يرتكز على مناهضة رئيس الحكومة ومعاكسته وشيطنته. وهو خطاب لم يجد ارتياحا حتى في أوساط عدد من النخب المتنورة التي تعتبر أن التحديات التي يواجهها البلد ينبغي أن تسمو على هذه الاعتبارات السياسوية الضيقة، وبالتالي لا مناص من الابتعاد عن خطاب المعارضة الممنهجة . وأخيرا قد يرتبط الأمر بما يمكن وصفه بتأثير رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران نفسه، حيث تحول إلى ظاهرة سياسية. فقد استفاد من موقعه المتداخل كرئيس للحكومة وفي نفس الوقت كأمين عام للحزب. فهذه الصفة في حد ذاتها تعطي له امتيازا وتمكنه من رصيد أكبر من الأمناء الآخرين خاصة وأنه استطاع بفعل قدراته التواصلية على استمالة المواطن العادي الذي يعتبره قريبا من هواجسه اليومية. ومما زاده تأثيرا وربما تعاطفا لدى الناخب كون قادة أحزاب المعارضة قد سخروا كل طاقاتهم لمهاجمته في الوقت الذي يدركون أنهم لا يتمتعون بنفس المصداقية و القبول لدى المواطن . يمكن إلى حد ما إدراج حزب التقدم والاشتراكية ضمن هذه الدينامية . فعلا فقد تمكن هذا الحزب المشارك في الحكومة من الاستفادة من هذا الموقع حيث رفع رصيده بأكثر من 60% فيما يتعلق بالمقاعد و ربح 2% فيما يخص نسبة الأصوات بالمقارنة مع انتخابات 2009 . لكن انتظارات الحزب لم تتحقق بالكيفية المأمولة. وربما كان الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية محقا عندما اعتبر أن عدم تحقيق حزبه لفوز أوسع إنما يعود إلى هيمنة العدالة والتنمية وأمينه العام على المشهد السياسي . 2 دينامية الاستقرار والمحافظة يجسد هذه الدينامية أساسا حزب الأصالة والمعاصرة. إجمالا تمكن هذا الحزب الذي عاني من تداعيات ما سمي بالربيع العربي، والذي اتهم بالتحكم والتوجه نحو فرض أحادية حزبية من ضمان انتصار عددي، لكنه لم يكن نوعيا بما فيه الكفاية. لقد بين أن له آلة انتخابية تستطيع بوسائل متنوعة من حصد مثل هذه النتائج ، لكن إدراك المواطن له ما زال ملتبسا. وبالنسبة لحزب يتطلع إلى التعبير عن مشروع حداثي وديموقراطي في المجتمع، لا شك أن قيادته ستطرح تساؤلات حول تعثر هذا المشروع ، وعدم تفاعل المواطن معه في المدن الكبرى. هل يتعلق الأمر بانتصار للنزعة المحافظة في المجتمع، أم يتعلق الأمر بتصحيح مؤقت لموازين القوى كعملية ارتدادية لما وقع في سنة 2011 ؟ هل يمكن قراءة هذه النتيجة على أنها رفض مجتمعي لأسلوب إدارة الحزب أم أنها مجرد كبوة حصان؟ من الواضح أن الحزب الذي حقق الرتبة الأولى يشعر بنوع من المرارة ، وهو ينظر كيف فقد عددا من المدن التي كان يديرها ، و كيف أنه لم يبرز في مدن مهمة أخرى . 3 دينامية التراجع رغم أن حزب الاستقلال قد حصل على الدرجة الثانية من حيث المقاعد ، فإن أمينه العام قد سجل هزيمة مدوية في معقله بفاس . وفي الأنظمة الديموقراطية، فإن هذه النتيجة لا تمر بدون تداعيات على أصحابها. بل غالبا ما يسارعون إلى الإقرار بالهزيمة و الإعلان عن الرحيل ، لا سيما أن الأمين العام مافتئ قبل الانتخابات يهدد ويتوعد بالاستقالة في حالة ما إذا لم يحقق الرتبة الأولى في هذا الاقتراع . لكن لا يظهر أننا تشبعنا بالثقافة السياسية الديموقراطية التي تقبل بالهزيمة ، وتسعى إلى تحمل تداعياتها بالموضوعية اللازمة . في نفس السياق يتموقع الاتحاد الاشتراكي. فهذا الحزب العتيد الذي قاد تجربة التناوب ، والذي اختزن طاقات بشرية مهمة ، وظل منارة للحداثة، لم يتمكن من تجاوز نكسة انتخابات 2007 . ولم تستطع المسكنات التي لجأ إليها من وقف دينامية التقهقر والتراجع . فقد انزلق الحزب من الدرجة الرابعة إلى السادسة، وخسر أكثر من 600 مقعد و أكثر من 4 %من الأصوات التي حصل عليها في انتخابات 2009 . لا شك أن سلسلة من العوامل تقف وراء هذا التراجع . ولعل أخطرها كون صورة الحزب في الإدراك الشعبي قد ساءت بشكل واضح . ولم تستطع القيادة الحالية معالجتها بالشكل الملائم . بل زادت من تفاقم الأزمة بفعل تبنيها لأسلوب تدبيري أجج من حدة التصدعات التي عرفتها مرحلة ما بعد المؤتمر التاسع، وهو أمر زاد من تشويه صورة الاتحاد الاشتراكي في الإدراك الشعبي. ومرة أخرى تقرع هذه النتيجة المخيبة والكارثية جرس التساؤل حول مآلية هذا الحزب الذي يتوارى عن شاشات المشهد السياسي بفقدانه لمجمل قلاعه التي صنعت أمجاده ، والتي جعلته في السابق رقما لا غنى عنه في الدينامية السياسية المغربية . يحتاج الحزب اليوم إلى الخروج من ذلك الخطاب الذي يتهرب من المسؤولية و يعتبر الآخر بمثابة الجحيم . إنه بحاجة إلى مراجعة الذات، وإلى نقد ذاتي لن يتم إلا بالاستماع إلى كافة الحساسيات التي أجبرت على الهجرة أو الصمت في ظل هيمنة صوت واحد تبين بشكل واضح عجزه على تصحيح الأوضاع، وإعادة التوهج إلى هذا الحزب الذي يبقى ضرورة وطنية لرمزيته، ولتجسيده المفترض لقيم الحداثة والإصلاح وتدبير التنوع. فهل ستبادر القيادة الحالية، وأساسا الكاتب الأول الذي يهيمن على كافة دواليب الحكامة في الحزب إلى استدعاء اللجنة الإدارية لتقييم هذه النتائج الكارثية، أم أنها ستتبنى أسلوب النعامة لامتصاص الغضب، وربح الوقت في انتظار مزيد من الكوارث؟ وعلى سبيل الختم، من المفيد إعادة التذكير أنه إذا كان لكل استحقاق محلي أو جهوي بعدا وطنيا واضحا، فإن السؤال الذي يبقى مطروحا بعد استنفاد حلقات هذا المسلسل إنما يكمن في معرفة ما إذا كانت هذه الإفرازات تشكل نسخة لما يمكن أن تخلفه الانتخابات التشريعية لشتنبر 2016 ، أم إن لكل استحقاق منطقه الخاص به . قد يبدو من السابق لأوانه المغامرة في هذا الاتجاه أو في الاتجاه الآخر .