الكتابات الجديدة والجادة عن ليبيا قليلة، وأقل منها تلك التي تحمل معلومات ووثائق لم يسبق نشرها. مع ذلك يُلقي الكتابان الصادران أخيرا في تونس بعض الضوء على جوانب داخلية وأخرى خارجية من المشهد الليبي المُعقد. فالأول يكشف جوانب من الصراع بين القوى الكبرى على فزان والجنوب الليبي الغني بالثروات، بُعيد الحرب العالمية الثانية، أما الثاني فيُميط اللثام عن بنية الشبكات القبلية و"اللجان الشعبية"، التي استخدمها معمر القذافي أساسا لتركيز نظامه "الجماهيري". شارك في تأليف الكتاب الأول اثنا عشرة باحثا بين مؤرخين وعلماء اجتماع وجغرافيين، من تونس وليبيا وفرنسا باللغتين العربية والفرنسية، وعنوانه "التاريخ المجهول – العلاقات الليبية الفرنسية في فزان 1943- 1956". وهو يرصد حقبة انتقالية مهمة في تاريخ ليبيا، هي الفاصلة بين بداية الاحتلال الفرنسي لمنطقة فزان (الجنوب) في 1943، أي قبل أن تضع الحرب العالمية الثانية أوزارها، وإعلان الاستقلال والجلاء النهائي عن ليبيا في 1956. وتتجلى الأبعاد الاستراتيجية للصراع الدولي على منطقة فزان، تلك الشرفة الكبيرة المُطلة على منطقة الصحراء الكبرى والدول الأفريقية المحيطة بها، والغنية بالمعادن والثروات الطبيعية الأخرى، من خلال السياسة البريطانية الساعية للحد من التوسع الفرنسي في الصحراء آنذاك، خاصة بتغطية الطريق التجارية بين خليج سرت وتشاد، بُغية دحر النفوذ الفرنسي الممتد من الجزائر إلى القاهرة. ومن هذه الزاوية شكلت الحرب العالمية الثانية فرصة نادرة لباريس من أجل استقطاب حركة المواصلات والتجارة مع البلدان الصحراوية، انطلاقا من مسالك القوافل بالمغرب الأقصى ومنطقة طرابلس، لسحبها نحو الموانئ الجزائرية. وأظهرت الأبحاث التي ضمها الكتاب أن باريس كانت تحلم بطريق امبراطورية تمتد من تونس إلى تشاد، بما يجعل من فزان حلقة بين أفريقيا الصحراوية والبحر المتوسط، تكون بمثابة رأس جسر يربطها بمستعمراتها في غرب أفريقيا ووسطها. كما كانت هذه الاستراتيجيا تقتضي أيضا، بحسب المؤرخ عبد الله علي ابراهيم، إحداث منطقة عازلة تُمكن من تأمين الحدود في كل من الجزائروتونسوتشاد حتى النيجر. أكثر من ذلك، كانت باريس تُؤمل أن تشكل تلك المنطقة العازلة حزاما واقيا من "التسريبات" والاختراقات الآتية من البلدان العربية التي تساند الثورة الجزائرية (1954-1962). ولذا كانت المناطق الإدارية الجديدة التي أنشئت لذلك الغرض تابعة للقيادات العسكرية في الجزائروتونس. ويُشير عالم الاجتماع مولدي الأحمر في بحثه المُضمن في الكتاب إلى أن "التصورات الأولى التي بناها الفرنسيون بشأن فزان كانت في علاقة وثيقة بمصالحهم السياسية ورؤيتهم الاستراتيجية للمصير الذي ستشهده امبراطوريتهم الاستعمارية في تلك الحقبة"، مُشيرا إلى أن المستكشفين الفرنسيين والأجانب في القرن التاسع عشر أمدوا باريس بمعلومات أولى تخص التجارة ومناطق الالتقاء والتواصل مع الطرق الصوفية، بينما تعلقت المعلومات لاحقا بالمعطيات الاثنية حول السكان وطرق عيشهم والجغرافيا الانسانية والموارد المائية. على أن الكتاب يُلقي الضوء أيضا على جانب آخر، وهو ما يمكن أن نُدرجه في باب "تصفية الاستعمار"، إذ أجبرت فرنسا في المرحلة اللاحقة، وتحت ضغط الأممالمتحدة وموجة الاستقلالات في البلدان المستعمرة، على الظهور بمظهر القوة التي تقدم الدعم والمساعدة لمواطني المستعمرة الايطالية السابقة (ليبيا) كما يقول المؤرخ محمود الديك. وفي هذا السياق يُشير عالم الاجتماع منصف وناس، في تحليله للأهداف الاقليمية الفرنسية، إلى أن "الأمر كان يتعلق آنذاك أولا وقبل كل شيء بعزل فزان عن باقي مناطق ليبيا الشمالية وبتفكيك علاقات هذا الاقليم مع محيطه القريب والبعيد". وهذا ما أكده المؤرخ عبد الله علي ابراهيم حين كتب أن باريس "حتى لو لم تتصرف كمستعمر مُستثمر، إلا أنها توخت سياسة صارمة لعزل المنطقة عن بقية ليبيا". واستدل على ذلك بإقرار تراخيص رسمية للتنقل داخل الاقليم وخارجه، ومنع السفر إلى اقليمي طرابلس وبرقة ومراقبة وسائل الإعلام. ومن نتائج تلك السياسة أن أصبحت تونسوالجزائر من ناحية، وتشاد من ناحية ثانية، مناطق هجرة للفزانيين المحرومين، وهي التنقلات السكانية عبر الحدود التي خصص لها العالم الجغرافي حسن بوبكري قسما مهما من بحثه المنشور في هذا الكتاب. بهذا المعنى كانت فرنسا تبحث عن ولاء يُمكن من "ضمان وفاء المجتمع وقادته" في حين واصلت قمع المعارضين، كما يقول منصف وناس. وهكذا تم اختيار أحمد سيف النصر واليا على المنطقة، وهو الذي كانت أسرته تشكل بالنسبة لفرنسا "أداة محلية ووسيطا لإبلاغ العالم الخارجي رسالة مفادها أن هناك إرادات قبلية محلية متحالفة مع فرنسا وقابلة بسلطتها وتساهم عبر أعيانها في إدارة الاقليم". لكن رغم محاولات اللعب على شبكة العلاقات القبلية، يُوضح المؤرخ الفرنسي جاك فريمو J. Frémeaux أن الأرض الليبية استعملت في وقت مبكر ملجأ للوطنيين الجزائريينوالتونسيين للتزود بالسلاح، فيما كانت محاطة بمناخ ثوري (الجزائر ومصر) في إطار عالمي اتسم بنيل المستعمرات استقلالها. أما بعض المؤرخين الفرنسيين الآخرين المساهمين في الكتاب فحاولوا التمييز بين الإدارتين العسكرية والسياسية، مُعتبرين أن "الادارة الفرنسية لفزان كانت مسألة سياسية أكثر منها مسألة عسكرية، إذ أن العسكريين لم يأخذوا سوى المبادرات التي كان السياسيون ينتظرونها منهم في لعبتهم الدبلوماسية" مثلما كتب جاك مرتال. إجمالا يمكن القول إن الرؤى المُتقاطعة (الليبية-التونسية-الفرنسية) التي قادت الأبحاث المنشورة في الكتاب، معطوفة على التقاطع المعرفي من خلال الجمع بين تخصصات مختلفة (علوم سياسية واجتماعية وتاريخ وجغرافيا)، شكلت مصدر إثراء وتنوع لدراسة حقبة مجهولة فعلا، كما شدد على ذلك عنوان الكتاب، من تاريخ منطقتي الساحل والصحراء امتدادا إلى شمال أفريقيا، التي ظلت دوما على تواصل بشري وثقافي وتجاري مع بوابات الصحراء الكبرى، على الرغم من محاولات الفصل والعزل. أما في الكتاب الثاني، الذي يحمل عُنوان "ناقة الله وسُقياها... في جذور الفوضى الليبية"، فيُركز الباحث التونسي رافع طبيب، الخبير في الشؤون الليبية، من خلال القسم الأول على إبراز مقت معمر القذافي لأية محاولة لمأسسة الدولة في ليبيا أو تحديث المجتمع. ويسعى المؤلف إلى قراءة الأسباب الاجتماعية والسياسية التي قادت إلى انتفاضة شاملة بعد 42 عاما من الحكم المطلق، الذي كتم أنفاس المجتمع باسم "الثورة"، مُستعينا (أي المؤلف) بالخبرة الميدانية التي راكمها على مدى عشرين سنة، مُذ أعدَ رسالة الدكتورا التي كتبها عن منطقة جفارة، الواقعة على الحدود بين تونس وليبيا. يُفكك رافع طبيب النظام السياسي الذي أقامه القذافي والمُعتمد بالأساس على الدولة الريعية، أي استخدام عائدات النفط والغاز لضخ الرشوة السياسية التي تضمن الولاء للسلطة القائمة. ويُوضح كيف قضى على الدور السياسي التقليدي للقبائل وقوض نسيجها الاجتماعي، ليُحولها إلى أداة لإدارة الصراعات ومجرد وسيط بين النظام والشعب. وبذلك أحدث ما يمكن تسميته ب"أزمة مؤسسات" دائمة ومُركبة حالت دون تحقيق أي نوع من التحديث الإجتماعي أو السياسي. فقد كان رؤساء القبائل هم المسؤولون عن تصرفات أبناء القبيلة، يُراقبون حركاتهم ويسهرون على ألا ينضموا إلى صفوف المعارضة. وعلى عكس القبائل المقربة كانت القبائل الأخرى عُرضة للتضييقات والاستفزازات من "اللجان الثورية". ولم ينتبه القذافي، بحسب طبيب، إلى التحولات التي غزت المجتمع الليبي بفعل تيارات العولمة التي كانت تهب عليها، ما جعل القبيلة تبدو، مع بواكير هذه الألفية، كما لو أنها الحصنُ الأخير الذي يُحافظ على الجماعة والفرد في آن معا. ويعتقد المؤلف أن المحافظة على الهويات القبلية كانت مفيدة لأولئك الذين نجحوا، بفضل التحالف مع "القائد"، في تحصيل قسم من العطايا والهبات، ولكن استفاد منها أيضا أولئك الذين كانوا يُعانون من التهميش. ففي الوقت الذي قصر فيه القذافي توزيع الريع النفطي على الشبكات القبلية الموالية له، اضطرت قطاعات واسعة من الليبيين المُستبعدين من العطاء إلى الالتحاق بشبكات التجارة الموازية، حيث برزوا بحنكتهم في التهريب وكل أنواع التحايل على القوانين. واستطاع القذافي خلال العقود الثلاثة الأولى من حكمه (1969-2011) بفضل الريع النفطي، أن يُحصي أنفاس المجتمع ويستخدم العنف ضد خصومه، من دون أن يُثير ذلك التسلط انتقادات أو مقاومة للنظام. غير أن استمرار تلك القبضة الحديدية بعد رفع العقوبات الدولية عن ليبيا في مطلع الألفية الحالية، وترسيخ احتكاره لمصادر الثروة وللقوة القاهرة، ولَدا انتفاضات مُجهضة وأحقادا قبلية ونزوعا إلى الثأر الأعمى، مع تضخم الفساد على نطاق واسع. وفي هذا المناخ استطاع أبناء القبائل المُستبعدة من سخاء "القائد" أن يُنشئوا فضاءات اقتصادية شبه مستقلة بعيدا عن مجال تدخل السلطات، تقع في الأحياء الحزامية الفقيرة. ومن عمق تلك الفضاءات المُهمشة اندلع التمرد السياسي في سنة 2011، الذي قاد إلى الإطاحة ب"الجماهيرية". أما "تنظيم الدولة" الذي بدأ التوسع في ليبيا عام 2015، فأبرز المؤلف أنه استفاد من وضع استراتيجي يختلف عن أوضاع التنظيم في كل من سورية والعراق، إذ سيطر على موانئ بحرية ومطارات مدنية ومرافئ لتصدير النفط، من ذلك أن عناصر التنظيم وجدوا عددا من الطائرات المدنية والمقاتلات من طراز ميغ لدى استيلائهم على قاعدة القرضابية في مايو 2015. وأشار إلى أن ليبيا غدت مركز استقطاب للجهاديين بعدما كانت مجرد معبر لهم نحو "أرض الجهاد" في العراق والشام. واستطاع التنظيم استثمار الصراع بين "فجر ليبيا" و"عملية الكرامة" ليتوسع في الأراضي الليبية، فتمركز في منطقة سرت، التي تعرضت لغارات مكثفة أثناء الانتفاضة الليبية، والتي تقع على هامش الحكومتين المتنافستين في طرابلس وطبرق. واستخلص رافع طبيب أن النخب المدنية الحاملة لمشروع يُوحد ليبيا تتحرك حاليا من أجل تجاوز الحزازات الفئوية والاختلافات الاثنية، خاصة في المناطق الحدودية حيث تتمتع بالمصداقية. لكن ما لم تحظ هذه النخب بالدعم اللازم، فإن الميليشيات المسلحة والجهاديين وشبكات التهريب العاملة في ليبيا وبلدان الساحل والصحراء ستتحكم في مصير المنطقة لسنوات. * مدير المركز المغاربي للأبحاث حول ليبيا