من المعلوم أن النفس البشرية تشمئز بتلقائية من الوافد الجديد عليها غير المألوف لديها، لكن بعد فترة زمنية ما تنقشع غيوم النفور وتنجلي سُحُب الاشمئزاز، بفضل عوامل متعددة من بينها الحوار الهادئ والجدال المنبني على الأدلة العلمية الواقعية. ولهذا ثار جدلٌ -وما يزال- بشأن تعديل الكتب المدرسية وعلى رأسها كتاب التربية الإسلامية، فأثيرت شبهات وإيهامات رأيتُ أن أسْهم في إثراء هذا النقاش الصحي ببلدنا مركزا على ما رأيته أهم الشبهات المثارة الموهمة أن كلَّ مَن له يد في تعديل الشأن الديني ببلدنا يسعى في "محاربة" الإسلام أو التقليل من أهمية مبادئه وأسسه التي ينبني عليها. فمن تلك الشبهات ما يلي: شبهة محاربة الإسلام بحذف موضوعات علم الإرث: والسؤال الذي يطرح نفسه هنا متضمنا جوابه عنه هو: هل برامجنا التعليمية تتّخِذ شكلا واحدا لا يتغيّر مهما تغيّرت الظروف وتجدّدت الأحداث؟ إن من مميّزات النّباهة والوعي التام -بتطوير وسائل حضارتنا مواكبةً لمستجدات العصر، في تسابق للريادة الحضارية العالمية- هو النظر الدائم الدؤوب في برامجنا التربوية وفلسفتنا البيداغوجية، قاطرة كل إقلاع حضاري؛ إذ يستحيل أن نبقى جامدين على ما أبدعه السابقون بحسب ما اقتضاه وقتُهم وزمنُهم؛ حتى فقهاء الإسلام ومتكلموه أبدعوا من المناهج والاصطلاحات ما لم يكن رائجا في عهده عليه السلام، من مختلف العلوم التفسيرية والحديثية والأصولية والفقهية والكلامية، وعلى رأس هذا أسماء العلوم التي درسها المسلمون وورّثوها لنا، فلم يكن اسم علم التوحيد ولا الفقه ولا الأصول في عهده عليه السلام، بل اقتضت المصلحة والحاجة إلى إبداع مناهج تعليمية تربوية تناسب ما بلغ إليه الفكر البشري تنزيلا لمبادئ هويته في الواقع. هذا من جهة، ومن أخرى إذا نظرنا في المتخصصين في العلوم الشرعية، فكم سنجد منهم من يتقن علم المواريث؟، هذا العلم الذي إذا اهتم به المتخصّصون فقط كَفَوْا باقي أفراد الأمة مَهَمَّتَه. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا أيضا هو: إذا حَكَمْنا بضرورة تعلّم الجميع علم الفرائض، لِمَ لا نحكم في السياق نفسه بإلزامية تعليم القوانين للجميع حتى يدافع كل واحد عن نفسه في المحاكم إن اضطر إلى ذلك؟ ونفس الأمر بالنسبة للميكانيك حتى يتمكن كل واحد من إصلاح سيارته حالة حصول عطب بها؟ وهكذا الأمر في كل الصنائع التي إذا قام بها المتخصصون كَفَوا باقي الأمة أمرها. لا يقول بهذا عاقل يعرف الفرق بين فرض العين وفرض الكفاية، على أن تنظيم الدولة لجميع الصنائع -"فروضِ الكفاية" بتعبير الفقه وأصوله- هو من اختصاص الدولة منذ نظم الإنسان نفسه وإلى اليوم. أنا مقتنع بفرض الكفاية هذا، خصوصا إذا لاحظنا خُفوتَ الجانب التربوي في نشئنا بسبب ما نراه من "تسيّب الجرأة" في مختلف المؤسسات، حتى على المربين والمربيات الذين يبذلون كل جهد لرفع مستوى نشئنا مع الأسف. فهل تنفع كثرة العلوم والتخصصات في غياب التحلي بآداب التعلم والتعليم وقيم الاحترام؟ أين فقه الأولويات هنا؟ يتأكد هذا في ظل إهمال كثير من أرباب الأسر متابعة أبنائهم ليتكامل فعلهم هذا مع فعل المؤسسة التعليمية التربوي.. هذا مع العلم أن لمؤلفي الكتاب المدرسي وللأستاذ المدرّس كامل الصلاحية في إيراد موضوع الإرث بما يناسب النشاط الخادم لموضوع الدرس طبعا، ممّا يتعلق بموضوعات المال في الإسلام مثلا. فلا يوجد بتاتا نهي عن الاقتراب من موضوع الإرث في الإسلام من طرف قيّمي بيداغوجيا التعليم أو الشأن الديني ببلدنا. كما أن المغاربة -وعلى فرض أن جميعهم يخلّف تركاتٍ دسمةً لورثته- لا يشكّل لديهم تقسيم الإرث إشكالا عويصا يصبح معه الإسلام مُهَدَّدا مُحارَبا في هذا التّخصّص !. ومع هذا فأنا أقترح لمّا يُعاد النظر في تعديل البرامج التربوية اللاحقة أن تبرمج موضوعات خاصة بالإرث يَعرِف من خلالها تلامذة الباكالوريا هذا العلم إجمالا، تمهيدا لمن سيتخصص فيما بعد منهم في العلوم الشرعية مثلا. ويبقى دائما الاهتمام بالجانب الخُلُقي المهذّب للسلوك من أولويات المرحلة التعلّمية التعليمية الراهنة. شبهة محاربة الإسلام بتنحية كل ما يتعلق بالجهاد: والسؤال المطروح هنا هو: مَن الذي يحدّد آليات الدفاع والهجوم والحرب والقتال والجهاد؟ أَهُوَ كُلُّ من يعرف القراءة والكتابة وحتى تفاصيل العلوم الشرعية، أم المؤسسة المكلفة بهذا؟ هل المهتمون بالدراسات الشرعية أو غيرهم -من غير المسؤولين عن الدفاع- يملكون ما يؤهلهم لاتخاذ قرار بالحرب؟ بمعنى: هل يكفي التّضلّع من العلوم الشرعية فقط لتبوإ مكانة اتخاذ القرار في مثل الأمور المصيرية الممثلة في الحرب والقتال؟ ثم ألم يقل الله تعالى (وَأَعِدّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ...) سورة الأنفال: 60؟ فهل بمجرد أن يتعرَّفَ الجميعُ أحكامَ الجهادِ سنصير في مصافّ الدول التي تمتلك ناصية العلم والتقدم التقني الذي يفرض احترام العالمين لنا؟ أم أن أمرَ الإعداد لأسباب التقدم والرقي والقوة والمنعة -بإسهام جميع أفراد الشعب وجمعياته ومؤسساته- أشدُّ وأجدى من مجرد دراسات نظرية أدت بكثير من المتنطعين المتسرّعين إلى السقوط في فخ من يوظّف "الجهاد" لمزيد سيطرة على خيرات المسلمين عالميا؟ ويتخلص به من الأسلحة المهترئة المتبقية لديه من مخلفات الحروب السابقة؟ ولتطوير مختلِف آليات الحرب الجديدة بتجريبها في أيدي "المجاهدين" المغفلين؟ هذا فضلا عن مافيات السوق السوداء العالمية المغتنية ب"غنائم" عائدات "الجهاد" من مبيعات تلك الأسلحة؟ أليست نتيجةُ ما تَوهَّمه البعض "جهادا" هو مزيد تركيع وتشتيت لعالمنا الإسلامي؟ متى كان "الجهاد" تمزيقا لوحدة الأمة وتمكينا للهيمنة الخارجية على مختلف مُقدَّراتنا؟ أهذا الذي يدعو إليه الإسلام؟ وهل الأمر بإعداد القوة يكون باقتياتنا مما ينتجه الغرب؟ فنحن من أعلى رؤوسنا إلى أخمص أرجلنا نَتزَيّا بمنتجات الغرب... وقبل هذا: هل ما اختلف بشأنه العلماء قديما من أحكام العقيدة -في أحسن الأحوال- يصلح لأن يُكَفَّرَ به البعض ويُقتَلوا بسببه؟ ومتى كان الاعتماد على مصادر مجهولة يُنتِج أحكاما دينية قطعية كما هو حال المواقع الإلكترونية المتناسلة في كل وقت وحين، والمؤطِّرة لمختلف "المجاهدين" من جميع بقاع العالم؟ وللتوضيح العملي: ما قولك أيها "المجاهد" أيتها "المجاهدة" في أن ما "تجاهدون" به من أسلحة هو دون ما عند مَن يُمَكِّنُكُم منه ممّن يترقّب انتهاءكم من تنفيذ أجندته التي أسقطكم في فخّها، لينقضّ عليكم بأعتى ما لديه من أسلحة لا يصدّرها بتاتا لأحد؛ حتى يحافظ على أفضليته عالميا في إعداد العدّة والقوّة؟؟؟ بالإضافة إلى هذه المحاذير المنبثقة من صميم الشرع الإسلامي الواقعي، يحتوي كتاب التربية الإسلامية الجديد على موضوعات من عمق السيرة النبوية، عن غزوات الرسول الكريم، وموضوعات في التأسي بأمثلة بشرية نموذجية، على رأسها نبي الرحمة عليه السلام، ولا يخفى ما يشتمل عليه هذا من قيم العزة والشهامة والكرامة وما إلى هذا. كما أن الوعاء الحاضن لكل هذا وغيره مما ورد في الكتاب المدرسي هو تخصيص سورة بكاملها لمستوى تعليمي تعلّمي -لم يرد في سابقه من الكتاب المدرسي- شكّلت تلك السورة محورا جوهريا لجميع موضوعات الكتاب؛ فلمّا ينتهي التلامذة من كتابهم هذا يكونون قد اكتسبوا معاني سورة بكاملها وأسرارها في علاقتها بمختلف العلوم الظاهرة والباطنة المشتملة عليها، من أخلاق وأحكام وحِكَم، بما يناسب العصر وأهله، وهذا ما يصطلح عليه بالتفسير الموضوعي للقرآن الكريم في شق الوحدة الموضوعية للسورة القرآنية، الذي لا يقدر عليه إلا المتخصصون في رصد تناسب آيات القرآن وموضوعاته المعرفية والمنهجية، الظاهرة والباطنة، وتكاملها العمودي والأفقي. العمودي في تكامل موضوعات مدخل التزكية مثلا فيما بينها، وهكذا موضوعات كل مدخل على حدة، والأفقي في تكامل موضوعات مداخل التزكية والاقتداء والاستجابة والقسط والحكمة فيما بينها؛ نشدانا للكمال الإنساني وخدمة للرأسمال غير المادي ركن أي حضارة وتقدم، وتنبّها لطبيعة موضوعات القرآن التي يعضد بعضها بعضا منهجيا ومعرفيا. إن النقد البناء لا يكون بالشائعات والتضليلات والإيهامات والتبييتات، وعدم الإلمام بما يجري في العالم، بل يكون منطلقا من استيعاب الشيء المراد انتقاده أوَّلا، وتطرّق الأكفاء للنقد -لا غيرهم- ثانيا. وأخيرا وليس آخرا: هل نترك الشأن الديني ببلدنا تَحسِم فيه قناعات الأحزاب والجماعات بمختلف تأويلاتها، كلٌّ بلونه وما يصطبغ به داخليا وخارجيا؟