منذ تولي الملك محمد السادس الحكم في سنة 1999 وبشكل أدق بعد الانقلاب على المنهجية الديمقراطية كما أسماها عبد الرحمان اليوسفي في حينها، عندما أُنهِيتْ تجربة التناوب وجاء القصر الملكي بحكومة رجال الأعمال برئاسة جطو سنة 2002. سيلاحظ المتتبع للشأن السياسي أن الجسد الحزبي بالمغرب خضع لعملية جراحية طويلة المدى، ابتدأت باستنزاف وخلق تَصدُّعات داخل الأحزاب التقليدية الكبرى وانتهت (ان انتهت فعلا) بولادة حزب الأصالة والمعاصرة بعد خروج عالي الهمة كمكلف ب ''مهمة'' من الديوان الملكي إلى الحياة الحزبية. هذه العملية الجراحية التي اعتمدت أساليب ناعمة في ترويض المشهد الحزبي المغربي استطاعت على الأقل لحد الساعة: أولا، إضعاف الأحزاب التقليدية الكبرى واستنزافها الذي تجسَّد في ظهور حركات تصحيحية انشقاقية من داخل هذه الأحزاب (تيار بلا هوادة داخل الاستقلال، تيار المرحوم الزايدي داخل الاتحاد الإشتراكي، الحركة التصحيحية داخل الحركة الشعبية...)، تقهقر مراتب هذه الأحزاب في ثلاثة استحقاقات تشريعية أخيرة، خروج الأدمغة السياسية من العمل الحزبي (مثال الكحص واليوسفي وإسماعيل العلوي...) وتحول الخطاب السياسي إلى الشعبوية والديماغوجية. ثانيا، تحييد الخطاب الإيديولوجي والنقاش القيمي عن العمل الحزبي، ويمكننا أن نسجل هنا مثلاً أن الخطاب السياسي للأحزاب اليسارية لم يعد يتطرق لمرجعيات معينة كحقوق الإنسان، الماركسية، نقد الرأسمالية أو الاشتراكية رغم أن أحزاب كثيرة تحمل ''صوريا'' اسم الاشتراكية وتُخصص له بنودا في أنظمتها التأسيسية. وعلى حد قول محلل سياسي قريب من دوائر الحكم ''ليس مطلوب من السياسي انتاج أفكار'' !!! ثالثا، خنق واستنزاف التيار السلفي الذي أُجْبِرَ على خوض مراجعات فكرية تكاد تكون جذرية، وكلنا يتذكر كيف أن أحد كبار شيوخ السلفية في المغرب كان يعتبر أسامة بن لادن ''صحابيا جليلاً'' أصبح الملك يُصلي وراءه صلاة الجمعة وغيّر معظم السلفيين قبلتهم اتجاه المناصب السياسية عن طريق ''أحزاب الدولة'' بعيدا عن العدالة والتنمية. رابعاً، عزل تيار الإسلام السياسي المعتدل المتمثل في العدالة والتنمية عن السلفية والعدل والإحسان وإشراكه في الحكم، وإن بشكل استعجالي بعد أحداث الربيع العربي، تمهيداً لتدجينه وتحويله إلى شريك في دواليب الحكم ومن تمَّ تحولت كل الأحزاب إلى تمجيد المؤسسة الملكية والتباهي بأن برامجها من برامج الملك بل وتستقوي به في صراعاتها الحزبية. خامساً، القطع مع الانتماءات والشراكات الدولية للأحزاب المغربية، حيث شاهدنا كيف انكفأت أحزاب اليسار على الداخل ولم تعد تشارك، إلا بشكل محدود جدا، في الهيئات اليسارية الدولية كما أن حزب العدالة والتنمية تبرأ من انتماءه للتنظيم العالمي للإخوان المسلمين بل أقرَّ بنكيران بلسانه أن العدالة والتنمية ليس بحزب إسلامي! سادسا وهذا هو الأهم، خلق حزب جديد يزاوج بين السلطة ونفوذ الأعيان ونخب رجال الأعمال (دون إغفال التمازج الصحراوي، الريفي، الأمازيغي في داخله) كما جرت عليه العادة في عهد الملك الحسن الثاني لقيادة المشهد الحزبي ولإنهاء ثنائية الصراع ''يسار-الملكية'' و''الإسلام السياسي-الملكية'' وتحويله إلى صراع ''حزبي-حزبي'' ينزّه الملكية ويُظهرها على مسافة واحدة من كل الأحزاب السياسية. دراسة سلوك الملكية اتجاه الحياة الحزبية منذ عهد الاستقلال سيوضح لنا أن العقل الاستراتيجي للنظام في المغرب قائم على ضبط الحياة السياسية من خلال انشاء أحزاب جديدة تُربك العمل الحزبي، تماشيا مع فكرة استراتيجية الصدمة، تكون هذه الأحزاب ليست فقط موالية للقصر الملكي بل تُنفذ أجنداته بكل سهولة ودائما ما تكون متحررة من السياقات الإيديولوجية والانتماءات الإقليمية والدولية يطلق عليها اسم ''الأحزاب الإدارية''، وهي نفس معالم تجربة الأصالة والمعاصرة الآن، وهنا نتذكر عندما قال الصحفي مصطفى العلوي (القريب من دوائر الحكم) عندما استضاف القيادي في البام حكيم بن شماس في برنامجه ''حوار'': ''حزب دارو عالي الهمة واش كاينة شي سلطة كبر من هاد السلطة''. لكن، السؤال الذي يفرض نفسه بقوة بعد مخاض العملية الجراحية التي عرفها المشهد الحزبي بالمغرب طيلة هذه السنين، هل تُرك فعلا حزب الأصالة والمعاصرة لمصيره السياسي وفك ارتباطه مع المؤسسة الملكية وبالتالي احترقت ورقته قبل أن يُلعب بها عندما فوجئ الجميع بأحداث الربيع العربي واضطرت المؤسسة الملكية لتسليم دواليب رئاسة الحكومة للقادم الجديد على ظهور الحركة الشعبية الاحتجاجية ب 2011؟ الجواب ليس صعباً إذا ما درسنا المؤشرات التي رافقت عمل حكومة بنكيران (الضغوطات التي مورست عليها بدءا من الاحتجاجات النقابية في البدايات وتصدع التحالف الحكومي انتهاءً بصراع الدولتين والتحكم) فضلاً عن الصعود الغير المفاجئ للأصالة والمعاصرة في الانتخابات الجهوية والمهنية. إذا ما ألقينا نظرة على التاريخ السياسي القريب سنعرف أن المؤسسة الملكية قد تؤجل تنزيل رؤيتها الاستراتيجية لكن لا تلغيها أبداً. الجواب ببساطة سيتجلى في عودة حزب الأصالة والمعاصرة إلى الدور الذي خُلقَ من أجله وسيحصل على المركز الأول في انتخابات السابع من هذا الشهر وسيطلب الملك من نائبه العام تشكيل الحكومة تثبيتا لمقتضيات دستور 2011، لكن مع من؟ بمشاركة البيجيدي أو بدونه؟ الواقع يقول في كلتا الحالتين سيكون النظام المغربي رابحا وبشكل كبير. في حالة مشاركة البيجيدي في حكومة برئاسة البام، ستُنسف مصداقية الحزب أمام القطاعات الشعبية التي لازالت تؤمن بنظافة يده وقدرته على الإيفاء بوعوده في الإصلاح إذ أن خصم الأمس الذي وجّهت ضده بروباغاندا التحكم والدولة العميقة وعرقلة الإصلاح سيصبح حليف اليوم، كما أن الغياب المفاجئ لخصم سياسي واضح للعدالة والتنمية سيربك آلية خطابه وعمله السياسي (وهو الحزب الذي تجدَّرت عقيدته الوجودية من خلال الصراعات تارة مع الداخلية، تارة مع الملكية وتارة أخرى مع البام). وسيجد الحزب نفسه وسط صيرورة تدجين يلعبُ فيها لعبة المحافظة على كراسي السلطة تماما كما سبقهُ حليفه التقدم والاشتراكية إلى ذلك. وفي النهاية سيصبح البيجيدي مجرد حزب إداري هو الآخر. في الحالة الثانية، أي عودة البيجدي الى المعارضة. وإن كان النظام المغربي يرفض تواجد حزب كبير ذو قواعد شعبية في المعارضة لأن هذا قد يعيد التصادم مع المؤسسة الملكية ويعود بالإسلام السياسي للتكتل مع الجماعات التي تم ابعاده عنها، فهذا السيناريو سيخدمه هو الآخر بالتأكيد لأنه سيفتح المجال للنقد الذاتي الذي لن يمر بسلام على هياكل العدالة والتنمية فضلا عن ضياع نفوذه وكوادره التي بدأت تتوغل في دواليب الدولة بعد خمس سنوات من الحكم دون أن ننسى ضغط القواعد الشابة الطامحة الى السلطة من داخل الحزب. هي ببساطة صيرورة تدجين واضعاف واحدة تبنتها المؤسسة الملكية، على مر الزمن، مع كل القوى السياسية بالمغرب بدأً من الاتحاد الاشتراكي ورفاق علي يعتة الشيوعيين والآن العدالة والتنمية وسيأتي الدور في المستقبل القريب على القوى السياسية القادمة والتي لا تغفل الدولة بداية تشكلها الجنيني للخروج بما يطلق عليه ''الخيار الثالث''. *كاتب وروائي من المغرب [email protected]