اتصل الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريغن، صبيحة يوم من أيام عام 1985، برئيسة تحرير صحيفة "واشطن بوست"، لثنيها عن نشر تحقيق صحفي حول ما سيسمى فيما بعد بفضيحة "إيران غيت"، التي كان بطلها العقيد أوليفر نورث، نائب مستشار الأمن القومي،بدعوى أن هناك تحقيقا رسميا سريا تجريه جهات حكومية، فما كان من رئيسة التحرير إلا أن قالت له بهدوء واحترام، "سيدي الرئيس، هل تمانع أن أنشر غدا على الصفحة الأولى نص هذه المكالمة الهاتفية؟ اعتذر الرئيس وأنهى المكالمة بلطف وتودد". لم تُعتقل رئيسة تحرير الصحيفة ولم يُوجه لها تهمة الإساءة لرئيس الدولة أو الإضرار بمسار تحقيق قضائي أو حكومي أو تهديد استقرار الدولة. لم أرد أن أتعجل الكتابة بشأن محنة الزميل رشيد نيني، رغم الأسى الذي يشعر به المرء في مثل هذا الموقف الناسف لبصيص الأمل الذي يراودنا بشأن مدى جدية خطاب النظام السياسي حول الإصلاح والتغيير والحقوق، رغبة مني لاستطلاع جميع الأراء الصادرة عن دائرة السلطة وعن زملاء المهنة، الخصوم بكل درجاتهم والمتضامنين بكل دوافعهم، وأيضا أصحاب الموضة الجديدة، وهم قادة بعض الأحزاب الذين تراهم، مثل الشعراء الذين ذكرهم القرآن الكريم، "في كل واد يهيمون، يقولون ما لا يفعلون"، يركبون موجة حركة 20 فبراير وتفجير "أركانة" واعتقال الأخ نيني وخطاب 9 مارس والثورات العربية ومهرجان موازين، وهي لعمري حملة انتخابية قبل أوانها ودعاية انتهازية مغرضة ومفضوحة. ما هو الجرم الذي ارتكبه الزميل رشيد حتى يسجن ويحاكم؟ في هذه الظرفية السياسية التي ما أحوج الرأي العام الوطني والدولي والقارئ المغربي فيها لقلم جريئ ومتابع لنبض المجتمع وكاشف للكثير من الملفات الحساسة والتجاوزات، ينقل له حالة حراك سياسي واجتماعي متفردة، على الأقل من جانب الجماهير المطالبة بالإصلاح الجوهري لطبيعة السلطة في البلاد، ويساهم في تنوير المجتمع وفضح المفسدين ونشر الخبر وتسليط الضوء على مناطق العتمة. لقد أسقط تحقيق صحفي للكاتب المخضرم بصحيفة "واشنطن بوست"، بوب وودور، رئيس أقوى دولة في التاريخ الحديث، ريتشارد نيكسون بشأن أكبر فضيحة تجسس سياسية في تاريخ أمريكا المعاصر عام 1972، وجره أمام المحكمة العليا التي أرغمته على الاعتراف والاستقالة عام 1974، ولم يُسجن الصحفي ولم تُسلب حريته ولم يُتهم في نواياه. هل ما كتبه رشيد نيني حول القضاء أو الأجهزة الأمنية ومصالح المخابرات أو مؤسسات الدولة أو حتى الدولة ورجالها يقتضي هذه الحملة؟ إن رفض المحكمة المكرر تمتيع رشيد نيني بالسراح المؤقت بكفالة أو ضمان السكن وتمطيط المحاكمة هي رسالة واضحة لا غبار عليها موجهة لأصحاب مهنة المتاعب، الصحافة، التي أصبحت حقيقة سلطة مناهضة لفساد السلط الأخرى. هذا هو المعنى السياسي والدستوري والفلسفي لمبدأ توازن السلط، بحيث ألا تطغى سلطة على حساب سلطة أخرى، وليس للمجتمع سوى سلطة أصحاب الأقلام والضمائر الحية لمواجهة شطط السلط الأخرى، خاصة إذا كان القضاء متحيزا وقراره وأحكامه ليست بين يدي القضاة، وإنما تحت رحمة وزير العدل أو وزير الداخلية أو الوزير الأول أو أجهزة أمنية واستخباراتية، بل حتى مستشاري القصر. كنا ننتظر ونأمل أن يُعتقل أو يُحقق مع العديد من المسؤولين الذين كانوا موضوع تحقيقات صحفية في "المساء" وفي صحف مستقلة أخرى، بل أصبحت أسماؤهم على رأس مطالب الشعب المغربي وحركة 20 فبراير، من أمثال محمد منير الماجدي وفؤاد عالي الهمة وخالد عليوة. إن خطاب 9 مارس على المحك مرة أخرى أمام اعتقال صاحب رأي لا يَدعو للعنف ولا يُحرض عليه ولا يَكست عنه، من أي وعاء خرج، كما أن أفراد العائلة الصحفية هم أيضا على المحك، لأنه لا شماتة في أربع، الموت والفقر والمرض والسجن. إن هذه اللحظة تفرض على الحقوقيين والصحفيين والمثقفين والمجتمع المدني وكل القوى الحية ألا يقبلوا، تحت أي عنوان أو مبرر، بأن يحاكم صحفي يعبر عن رأيه بالكلمة والقلم، في الوقت الذي مُلئت كل الفضاءات بالشعارات والأوراش والمبادرات حول الإصلاح السياسي والدستوري. يجب أن يكون اعتقال رشيد نيني منطلقا ودعوة لإلغاء العقوبات الحبسية واعتبار اعتقال صحفي، بسبب مقالاته وآرائه، اعتقالا سياسيا بالمعنى الحقوقي، وبأن موقف السلطة يتنافى مع الأعراف والمواثيق المتعارف عليها دوليا في مجال حقوق الإنسان، وحرية التعبير جزء منها، كما تنص عليه ديباجة الدستور الحالي. لقد ألفنا تدخل الملك لإصلاح بعض الأعطاب القضائية، رغم أن بيت القضاء هو بيت العدالة، ولهذا فإن أي حكم قضائي جائر في حق الزميل رشيد نيني، صاحب رأي صحفي، أو في حق ناشط سياسي، ينسف جهود سنوات من البناء الحقوقي والسياسي ببلادنا ويضع الملك في موقف محرج وطنيا ودوليا لا يحسد عليه. *دبلوماسي سابق [email protected]