استرجع المغرب استقلاله ابتداء من سنة 1956، في سياق عالمي موسوم بالحرب الباردة، وفي أوج المد الذي شكلته حركة التحرر الوطني في ما كان يُعرَف ب"العالم الثالث"، والتي اختار كثير منها النموذج "الاشتراكي"، والذي تُرْجم عمليا إلى دكتاتورية يمارسها الحزب الوحيد. وفي هذا المناخ المتوتر عالميا كان اختيار المغرب الرسمي استثناءً في المنطقة التي ينتمي إليها. لقد اختار التعددية واعتبر نظام الحزب الوحيد غير مشروع، واعتمد الاقتصاد الحر بدل الاقتصاد المُوجه، واختار ضمان الحريات العامة بَدَلَ تقييدها. ولربما كان من سوء حظ البلاد أن القوى السياسية الأساسية في البلاد آنذاك، وهي حزبُ الاستقلال واليسار، لم تكُنْ تُشاطر الخيار الرسمي في معظمها. فحزب الاستقلال كان يريد أن يكون الحزب الوحيد. وهو ما عبرت عنه، شعوريا أو لا شعوريا، القولة الشهير التي تُنسب لعلال الفاسي، زعيم حزب الاستقلال: "إن الله قد وحد الأمة حول ملك واحد وحزب واحد". فقد كان حزب الاستقلال يريد أن يكون حزبا وحيدا في البلاد يتقاسم الحكم مع الملك. ويعرف قراء الصحف هذه الأيام تلك الفظاعات التي مُورست في مُعتقل "دار بريشة" على الذين رفضوا ذلك. وحسب ما رواه السيد الحسين برادة هذه الأيام (وقد كان شاهدا على الأحداث وفاعلا فيها) فهذه الفظاعات ارتكبها حزب الاستقلال في حق الذين كانوا يعارضون مشروعه ليكون الحزب الوحيد في البلاد. وطبعا، فدستور 1962، الذي اعتبر نظام الحزب الوحيد غير مشروع، لم يكن يستجيب لهَوَس السلطة لدى الحزب الذي يقوده الآن السيد حميد شباط. أما اليسار، ومهما تعددت خلافاته الأيديولوجية في ذلك الوقت، فقد كان يرفض أي خيار ليبرالي تعددي، ويريد بدوره إقامة نظام للحزب الوحيد باسم "دكتاتورية البروليتاريا". وبفعل هذا التوتر بين المنظورين، الذي امتد إلى غاية التسعينيات من القرن الماضي، ضاع على المغرب والمغاربة زمن طويل، وموارد هائلة، وفرص كبيرة لتحقيق أكثر مما حققوه حتى الآن. لكن الأهم أن البلاد اجتازت فترة الاحتقان وقد حققت مكاسب كبرى على مستوى بناء مؤسسات الدولة، وتحقيق الإجماع حول الخيار التعددي الليبرالي وحول المسلسل الديموقراطي. وساعد العهد الجديد، منذ 1999، ثم الحراك الشعبي سنة 2011، والتجاوب الملكي السريع مع المطالب المرفوعة في الشارع، على خلق نَفَس جديد في مسار البناء الديموقراطي. وبينما تنهار أنظمة، وتغرق شعوب في الدماء بفعل الحروب والإرهاب، يتفرغ المغاربة للأوراش الكبرى، ويتحركون اقتصاديا في اتجاه إفريقيا، وينفتحون على روسيا والصين، ويفتحون ومضة ضوء في عز الظلام والظلامية اللذين تغرق فيهما المنطقة الممتدة من الجزائر إلى اليمن. هل يريحُ هذا القوى العالمية التي تستغل المنطقة منذ العهد الاستعماري؟ هل يريحُ الأنظمة التي ما تزال تحكم شعوب المنطقة كالقطعان؟ هل يريح هذا الظلاميين الذين ما يزال بعضهم يتساءل دون حياء "هل المرأة إنسان؟"؟؟ لا يُوجَدُ أي طرف من الأطراف السابقة من مصلحته، فعليا، أن يُصبح المغرب قوة صاعدة في المنطقة. وحتى بعض حلفاء المغرب التقليديين، الذين يرفعون شعار نشر الديموقراطية، ولا يترددون في استعمال القوة من أجل ذلك، فصعودُ قوة على البوابة الغربية للبحر المتوسط أمرٌ لا يبعث على الارتياح من الناحية الجيو استراتيجية. أما الأنظمة الدكتاتورية المتخلفة التي تحكم كثيرا من شعوب المنطقة، فلا يمكن لأي كان أن يزعم أن قيام نموذج ديموقراطي في المنطقة أمرٌ مريحٌ لها. وبدورها، فقوى التطرف والإرهاب لا يُريحُها بتاتا وجود دولة قوية في المنطقة. فالبنسبة للأولين، يعني وجود قوة صاعدة في هذه النقطة بالضبط ظهور منافس سياسي واقتصادي جديد. أما الأنظمة المذكورة في المنطقة فالنموذج الحداثي الديموقراطي يفتح عيون شعوبها على أفق ممكن بالنسبة لها: أفق درجة معينة من الحرية والديموقراطية، أقل بكثير من الأفق البريطاني أو الأميركي، لكنه بكل تأكيد أوسعُ وأكثر رحابةً من أفق الدكتاتورية والاستبداد والاستعباد. وأخيرا، وليس آخرا، فقوى التطرف والإرهاب يزعجها هذا النموذج الديموقراطي الحداثي الناشئ، الذي حقق تراكماته التاريخية جميعُ المغاربة بمنْ فيهم الذين يرفضونه اليوم أو الذين رفضوه في الماضي وأصبحوا اليوم من دُعاته. هذه التجربة، تجربة البناء الديموقراطي الحداثي، هي اليوم (دون مُنازع) أهم ثروة وطنية رمزيا وفعلياً. وليس هناك من خيار آخر سوى مواصلة تطويرها وتنميتها. وإذا كان البعض يكتفي بتعداد نقائصها، وتعثراتها، ويتجاهل تراكماتها الإيجابية تماما، فهو لا يستطيع في كل الأحوال أن ينفي أنه يقول ما يقوله بكل حرية. وعليه، فالأطراف العالمية، والإقليمية، والقارية، التي يُزعجها هذا النموذج المغربي لا يمكنها أن تقف مكتوفة الأيدي، وأن تترك قوة صاعدة تنمو في شمال إفريقيا، على الجانب الجنوبي من البوغاز، دون أن تحُد من هذا النمو وفق ما يخدُم مصالحها. وحتى الأطراف الداخلية التي يهدد هذا المشروع مصالحها فإنها تقع في نفس الخانة موضوعيا. ولذلك فهذه القوى، سواء ظهر ذلك أو ظل في الخفاء، تعمل حتما على فرملة المشروع الديموقراطي الحداثي في المغرب. وأول جبهة للمواجهة معها هي الجبهة الداخلية: الأحزاب، والنقابات، وجمعيات المجتمع المدني، والبرلمان، أي كل آليات العمل التي تتيحها الديموقراطية. فحين لا تكون هناك أحزاب قوية ونشيطة، ولها امتداد شعبي فعلي، وتتقهقر النقابات، ويتدنى أداء جمعيات المجتمع المدني، ويعزف الناس عن المشاركة في الانتخابات، لا يمكن بتاتا أن نبني الديموقراطية ولا أن ندخل الزمن الحديث فعلاً. وحين تنتشر الرشوة، والفساد الإداري، والكَسَل البيروقراطي، والسلبية، لا يمكن بتاتا أن نشيد تجربة ديموقراطية حداثية. وحين تمتلئ أذهان العامة بالخرافات تصعبُ إعادتهم إلى أسئلة الواقع والمستقبل. بالموازاة مع هذا التخريب الذي يُمَارَس على الحياة السياسية والمدنية داخليا، يبرُزُ خطرُ جر المغرب إلى حرب استنزاف طويلة الأمد في الصحراء المغربية. فمع كل الإمكانيات العسكرية للمغرب تبقى الحربُ، في حالة نشوبها، مفتوحة على احتمالات قد تكون في الحسبان وقد لا تكون. ومنها، على ما يبدو، أن تكون حربا طويلة غير حاسمة، لا تُنهي الوضع في الصحراء وتستنزف الكثير من الموارد بما يؤثر سلباً على التنمية ويزيد الجبهة الداخلية، الحزبية أساسا، ضعفاً وهشاشة، ويؤثر بالتالي على المسار الديموقراطي نفسه. وقد تبرُزُ سيناريوهات أخرى في حالة فشل كل هذه المخططات التي تستهدف، في النهاية، المشروع المغربي برمته. وبقدر ما ينجح المغاربة في التقدم حداثيا وديموقراطيا بقدر ما سنرى من الدسائس والمؤامرات والعَدَاء الخفي والمُعْلَن من كل الأطراف الداخلية والخارجية التي يُزعجها هذا الاختيار. ففكرة المغرب القوي، المستقر، المتقدم، الديموقراطي، فكرةٌ مزعجة للغاية بالنسبة لكثير من الأدْنيَاء والأبَاعد. ومنهم، داخليا، أولئك الذين لمْ يُشْفَوْا تماماً من فيروس "الحزب الوحيد" على اختلاف لُوَيْنَاتهم المذهبية.