"الأحزاب جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف" لم يكن غريبا على البزار السياسي المغربي أن يتلقف الوزير المنتدب في الداخلية السابق، فؤاد علي الهمة، صنائع وزارة الداخلية في عهد المشمول بغضب الوطن، ادريس البصري، من أحزاب إدارية ويساريين ضالين وانتهازيين، ليصنع من كل هذا الخليط الكميائي الهجين فريقا نيابيا وحركة "ديماغوجية"، ثم حزبا غارقا في أصالته المخزنية ومعاصرته العلمانية، ثم يحدث قفزة في الهواء، كعادته منذ نشأته، بعد مناورة سياسية تضليلية ومحسوبة بعناية كبيرة في الانتخابات الجزئية سنة 2008. لقد انطلى هذا الخداع السياسي، للأسف، على العديد من المحللين والصحفيين المتابعين لتطور هذا النزق السياسي المولود قيصريا. وجاءت مناورة أخرى حين أعلن صديق الملك تشكيل فريق نيابي موحد بين حزبه والتجمع الوطني للأحرار، اللامنتمون سابقا، ليفتح بذلك فصلا جديدا ويحدث رجة من رجاته المتكررة داخل أروقة أحزاب سياسية تواجه خطر الانشقاق أو الابتلاع أو التهديد بالحل، وتكون له، كما أراد ويريد المخزن، زمام المبادرة لتوجيه حياتنا السياسية في أفق استحقاقات يونيو 2009 وسبتمبر 2012 وفق تخطيط يهدف إلى جعل هذا الحزب المخزني الصنع في الصدارة وينفخ روحا جديدة في جسد مخزن أثخنه الزمان وأعيته دوائر السوء والمؤامرات. يجب الاعتراف بأن صديق الملك ليس بالبلادة السياسية التي يعتقدها الكثير منذ اختراقه البزار السياسي المغربي. لقد قرأ حالة الأحزاب بشكل دقيق، وتهيأت له الأسباب، فوجد نفسه أمام اتحاد اشتراكي، عقد مؤتمره الوطني بتحكيم ملكي واختار مؤتمروه رجلا إقطاعيا ومخزنيا حتى النخاع، حزب كان ولازال قاب قوسين أو أدنى من حرب أهلية تنظيمية عاصفة بين تيار الاشتراكية المخزنية والاشتراكية الوطنية، واستقلال فاسي متهالك وعقيم أقرب إلى تجمع عائلي منه إلى حزب، وحركة شعبية تائهة ضلت الطريق بعد وفاة ولي نعمتها الملك الراحل الحسن الثاني وخديمه البصري وفقدت قاعدتها وفلاحيها الذين كانوا يوما ما غالبية سكان البوادي وحماة العرش، وأحرار ودستوريون يتمتعون بسذاجة سياسية ومرونة في التشكل كالحرباء قل نظيرها، وحزب العدالة والتنمية مسلط فوق رأسه سيف إمارة المؤمنين ومخاضات داخلية تتجاذبه وابتلاه الله برجل ملكي أكثر من الملك مستعد لبيع كل شيء من أجل القربى الملكية، وشتات يساري تم تجميعه والنفخ فيه، اليسار الموحد، بهدف مواجهة "القوى الظلامية" وإيهامه بأنه شريك في المشروع الحداثي الملكي وتيارات إسلامية أخرى تتصارع من أجل مشروعيتها وتواجه حرب الاعتقالات وتلفيقات دهاليز وزارة الداخلية. هذا هو المشهد السياسي الذي جعل صديق الملك يجرؤ على العبث فيه وخلط أوراقه، ضاربا عرض الحائط، للأسف، كل التقاليد المرعية في العمل السياسي النبيل ومستخفا بطموحات شعب أعياه الانتظار والمواعيد الضائعة. في الوقت الذي علا صوت قيادة الأحرار السابقة، اللامنتمون سابقا، مهددة باتخاذ القرارات اللازمة في حق بعض الوافدين على تجمعها عشية إعلان حكومة الفاسي، أخنوش تحديدا، لتحديهم مؤسسات الحزب والاصطفاف مع الهمة خلال حملته الانتخابية الجزئية بمراكش وآسفي، دعما لمرشحي "الأصالة والمعاصرة"، يعلن أمينا الحزبين، المنصوري وبنعدي (سابقا)، تشكيل فريق نيابي موحد تحت يافطة "التجمع الوطني للأحرار". في الحقيقة ليس في الأمر من غرابة أو مفاجئة لأن الطيور على أشكالها تقع وكل شيئ يدور ثم يعود إلى أصله. فالأحرار، لامنتمو الأمس البعيد، عشية انتخابات 1977 بزعامة أحمد عصمان، صهر الملك الراحل الحسن الثاني، يلتقون اليوم مع لامنتمي "الزعيم" الهمة، صديق الملك محمد السادس. وستكشف الأيام المقبلة حجم الاختراق والخسارة التي ألحقها وسيلحقها هذا الحزب النشاز بالحياة السياسية ببلادنا، حين يلتحق بسفينة "النجاة" الإخوة الأعداء من الحركة الشعبية والابن العاص، الدستوريين، الذي خرج من رحم الأحرار، والمزيد من اليساريين الضالين والانتهازيين من كل ألوان الطيف السياسي والثقافي الليبرالي والإسلامي والطرقي. يبقى السؤال الحلير أمام هذه المأساة السياسية، التي لم تنته فصولها بعد، هو: إذا لم يكن الملك يشرف، من وراء حجاب، على مجريات هذا الحزب الغريب وتحالفاته وعلى عملية إعادة الانتشار الحزبي بالبلاد ورسم خريطة سياسية في أفق استحقاقات2009-2012 ، تخدم مصالحه وتقوي مركزه وتضع أداء الأحزاب الإسلامية والوطنية في مستوى منسوب أداء الملك نفسه، تنفيذا لما كان يطمح له الملك الراحل الحسن الثاني ولم يحققه، وجود ثلاثة أقطاب حزبية بالمغرب، إسلامية ويسارية ووسطية، رغم أن كل القرائن تشير إلى هذا الإشراف، فمن باب مسؤولية الملك الدستورية، وهي دور التحكيم، أن يعلن موقفا صريحا لا لبس فيه تجاه مشروع صديقه ويأخذ نفس المسافة من كل القادة السياسيين ويحرر عمل الحكومة والبرلمان والقضاء والصحافة المستقلة من سلطته وتدخلات حكومة الظل والأجهزة الأمنية إذا أريد لهذا البلد أن يكون ديمقراطيا ومزدهرا. لقد أوجد الملك الراحل الحسن الثاني الحركة الشعبية من عدم داخل دهاليز القصر عام 1959 بقيادة المحجوب أحرضان والراحل عبد الكريم الخطيب للحد من قوة حزب الاستقلال، ثم صنع جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية (الفديك) بزعامة مستشاره الراحل أحمد رضا كديره والخطيب وشخصيات أخرى مؤسسة للاتحاد الوطني عام 1963 بنكهة يسارية للنيل من شعبية الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وقوته، ثم بعث عام 1992 الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية من رماد بزعامة الراحل الخطيب، بعد أن انشقت عن الحركة الأم عام 1967، وبعد سبات شتوي دام 29 سنة، لتهذيب ودمج قيادات إسلامية من حركة الإصلاح والتجديد في النسق السياسي، باسم العدالة والتنمية، والضغط بالوافد الإسلامي الجديد على الاتحاد الاشتراكي والاستقلال وحلفائهم لقبول شروط النظام والدخول فيما سمي بحكومة "التوافق" والانتقال الديمقراطي عام 1998، وتأمين انتقال سلس وآمن للحكم عام 1999، وها هو الملك محمد السادس يلقي بصديقه الهمة عام 2007 في ساحة سياسية متهالكة وممزقة ليصنع كيد ساحر ويبهر الكثير بحباله وعصيه التي أتى بها من كل حدب وصوب وفج عميق ويجمع، تحت معطفه، أحزاب الشتات التي خرجت، ذات يوم، من رحم القصر العامر وردهات وزارة الداخلية لدعم المخزن في مواجهة الأحزاب الوطنية والجيش. لقد عادت الطيور السياسية المهاجرة إلى أعشاشها بعد عقود من التيه تموت وتبعث، مثل طائر الفنيق، منذ أن ألقي بها لتفسد الحياة السياسية والعمل الحكومي وتجهض مشروع التحول نحو نظام ديمقراطي حقيقي وملكية برلمانية، فأنتجت، على مدى سنين، استقلالا متعثرا وتعليما فاشلا واقتصادا ضعيفا وإدارة مرتشية وقضاء متحيزا وثروات وطنية ضائعة وأرضا غير محررة ومقابر سرية وسجون منسية ويتامى وأرامل ومجانين وفقراء وقوارب الموت وشواذ وبائعات الهوى في كل أنحاء العالم وحركات تبشير وآكلي رمضان وتشيع وطرقية وماسونية.. على قيادات الأحزاب السياسية الإسلامية والوطنية ومثقفي ومناضلي حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني والصحفيين الشرفاء أن يأخذوا أمر صديق الملك بكل جدية، ويصدروا ميثاق شرف سياسي وطني يضع الملك أمام إرادة الشعب وطموحه في إقامة ملكية برلمانية ونظام سياسي يكون فيه رئيس الحكومة هو رئيس السلطة التنفيذية الوحيد والمسؤول عن إدارة شؤون الدولة، ميثاق يفرز الساحة السياسية ويضع أسس العمل السياسي الوطني الديمقراطي ويكشف النقاب عن هذا "الهم" الذي يريد أن يتلاعب بالوطن والمواطنين لعقود أخرى من أجل مصلحة المخزن وزمرته، وينتقل من عزوف المواطن عن المشاركة السياسية والانخراط في اختيارات الأمة الكبرى، بعد عزوف القادة السياسيون أنفسهم، إلى العبث بمستقبل الدولة المغربية واستقرارها وسلم المجتمع وازدهاره. ***** 29 غشت 2011: على حركة شباب 20 فبراير المباركة، بكل مكوناتها التي تلتزم مشروع الحركة ومطالبها والسقف الذي ترتضيه للوطن، أن تعي هذه الحقائق التاريخية وتتيقن من حقيقة طبيعة هذا النظام السياسي وتيأس من إصلاحه، لأن الأنظمة والأسر الحاكمة لا تتراجع أو تتخلى عن امتيازات السلطة والمال، وعليها أن تتأمل مآل ونهاية من راهنوا على إصلاح النظام من الداخل. الشارع هو الساحة الوحيدة القادرة على إرغام النظام على قبول الشرعية الشعبية واحترام إرادتها، وعلى مكونات الحركة ألا تخطأ الهدف، كما يدعي البعض أن الإسلاميين أخطر من النظام، مما يؤكد حجم الاختراق السياسي والأمني الذي حققه النظام داخل صفوف الحركة. لقد آن الأوان لننظف بيتنا الداخلي. [email protected] * كتب هذا المقال قبل انتقال حزب الهمة إلى "المعارضة" وانتخابات يونيو 2009 المحلية.