أسابيع قليلة تفصلنا عن الانتخابات التشريعية في السابع من أكتوبر، كمحطة يعتبرها الكثير من المحللين السياسيين مفصلية تنذر بإعادة ترتيب المشهد السياسي بالمغرب وفق مفاهيم ونظم جديدة تحدد مدى قدرة الفاعل السياسي على قيادة المغرب نحو القدر الحتمي الذي ينتظره في المستقبل. بإجراء ثاني استحقاق تشريعي يكون المغرب قد أكدا للعالم مرة أخرى مدى نضجه و حرصه على التغيير في ظل الاستمرارية، وعزمه على تتبع مسلسل الإصلاحيات السياسية ، وترجمة منطوق دستور 2011 إلى إجراءات عملية، إلا أن وضعية المشهد السياسي في المغرب تبدو جد معقدة وغريبة في الآن نفسه، مما يثير حفيظة الكثير من المتتبعين للتطورات السياسية ببلادنا على ما قد تحمله القطبية السياسية الصدامية من تهديدات مباشرة لمفاهيمهم ومبادئ أساسية تقوم عليها التعددية الديمقراطية بين غريمين سياسيين لطالما أعلنا صراحة عزمهما على إزاحة الآخر، وعرقلة مسيرته، وإبعاده عن مدخلات دواليب الحكم في المغرب، تحت مبرر مقاومة التحكم في أدبيات حزب العدالة والتنمية، ومحاربة الأصولية لدى حزب الأصالة والمعاصرة، وذلك من خلال تبنيها لمفاهيم بديلة تبتذل وتبخس قيمة انخراط المواطنين والكوادر وتدرجهم في النضال الحزبي، مقابل الاعتماد على الأعيان، وتحفيز الشخصيات البارزة في تحد سافر للقواعد الحزبية. أليس ترشيح أمين عام حزب سياسي أخر على رأس قائمة حزب العدالة والتنمية نموذجا لما يمكن أن تصبح على السياسية من الابتذال اللا أخلاقي؟ وكأننا أمام دكاكين لبيع المقاعد البرلمانية، لا أمام أحزاب تحترم نفسها بالرجوع إلى القواعد الحزبية، واستشارة مناضليها من أجل اختيار مرشحيها، وفق إجراءات ديمقراطية تقوم على التصويت من داخل المقرات الحزبية على يمتلك الكفاءة والمؤهلات السياسية، والقدرة على التأثير في القواعد، واستمالة أصوات الناخبين من خلال إبرازه لخصائصه العلمية والتواصلية أمام جمهوره كما هو قائم في الدول الديمقراطية الحرة. إن النموذج الديمقراطي التعددي وتأهيل الأحزاب داخليا وعصرنة أساليبها تبقى من المواضيع الواجب وضعها في قلب النقاش العمومي، ومن أكبر القضايا الوطنية الملحة الجديرة بالاهتمام والدراسة، بدلا من الاكتفاء بتتبع حلقات مسلسل توافق السياسي بين قيادات هياكل هيئاتها الحزبية ضعيفة ومترهلة، وذلك على حساب التوافق الحضاري المجتمعي الذي يروم البحث عن شرعية حقيقية غير وهمية للأحزاب، تنطلق من شرعية صناديق الاقتراع الداخلي من أجل ترشيح الكفاءات الحزبية القادرة على تسيير دواليب الحكم، وقيادة البلاد نحو مستقبل أفضل، أكثر جودة من الذي مضى. في الديمقراطيات الصاعدة، والتي تعيش على إيقاع تحولات اجتماعية عميقة، يكون دور الأحزاب السياسية في دمقرطة المجتمع معطى رئيسي تتشارك فيه جميع القوى الشعبية بما في ذلك المجتمع المدني، ذلك أن الرأي العام يمكن استمالته في الدول الديمقراطية انطلاقا من الاستجابة لصوته المتصاعد بالاستنكار وعدم الرضا، بينما نقف في الحالة المغربية على تعميم فقدان الثقة بالتنظيمات الحزبية وابتذال مفهوم الالتزام السياسي من طرف قياديها، وتراجع معنى الانتماء الأيديولوجي الذي أصبح التعبير عن معالمها دون قيمة و جدوى. لا شك أن لهذه الأزمة الأخلاقية مسبباتها في عقل الفاعل السياسي، وفي تمثله المتضارب للمفاهيم التشاركية الديمقراطية، في حين يخلط المواطن العادي بين الرغبة في تحقيق المثالية في الأداء السياسي ومشاعره تجاه الديمقراطية وحاجياته منها، يجد هذا الخلط المعرفي جذوره في عدم الرضا تجاه النظام الحزبي برمته، ولا غرابة حين تستمع إلى التصريحات الناقمة على الأوضاع السياسية للكثير من المواطنين إلى درجة التعبير عن رغباتهم في إلغاء وجود جميع الأحزاب المغربية لعدم جدواها، ولعدم قدرتها على إنجاز قيمة مضافة على حياتهم العامة والخاصة، ورفع مطالبهم علانية بضرورة الحفاظ على نظام ملكي ينجز فيه الملك لوحده المشاريع والأوراش الكبرى، يشيد، ويحل إشكالات اجتماعية وأخرى اقتصادية، يفاوض دول إقيلمية وعالمية كبرى دون الحاجة إلى تعددية حزبية فيها من العلة ما يكفي لوقف مسلسل هدر للمال العام على أحزاب مقراتها فارغة ومقفلة طيلة السنة. يتطلب تفسير الظاهرة الحزبية المغربية بحثا بيزانطيا وأجراءات دراماتيكية لخلخلة واقعها، وتمحيصه، وإعادة تأهيله، كخطوات لعمليات جراحية تأخر المغرب كثيرا في مباشرتها إلى يومنا هذا، وفي غياب مشروع من هذا القبيل، يبقى الرأي العام عاجزا على فهم ماذا يدور من تخمينات وأفكار في رأس الفاعل السياسي وفي فلكه، ومعرفة ما يحفزه على مكوثه طويلا في تربص بالمقاعد البرلمانية، وبعد تمكنه منها يحجب نفسه عن الأنظار في دائرته الانتخابية، في سيناريو يتكرر مع كل استحقاق جديد.