في العقود الأخيرة غالبا ما يحلو لنا، ونحن نودع أحد أهرامات العلم والمعرفة ممن كانوا بيننا أن نردد مع قاسم حداد: غالبا، تبدأ الأمم في اكتشاف ذاتها بعد فوات الأوان. ربما قدرنا هذه الأيام من أيام زمن السقوط الذي ما عدنا نعرف له قاعا ولا شطآنا، أن تضيع منا أسماء لطالما طبعت ساحة العلم والمعرفة بتوقدها ومعرفتها الموسوعية، تضيع منا كأنها لم تكن، وتنسى كأنها لم تكن، تزف إلى العالم الآخر، وكأن لا أحد سمع بها، فالسخافة وحدها من تفرض ذاتها كي تُسمع ممن يرغب في سماعها ورغما عن من لا يرغب، والمجون هو وحده الذي يسمح له بأن يزف كعريس زمن سقوطنا، والغباء وحده من وجب أن يشيع بيننا ويُشَايع، وكأنه القسمة العادلة التي يجب أن يكتمل توزيعها بيننا، ليرغم أنف ثقافة وحضارة في وحل الكلمات الساقطة والتلاحين التافهة، فتكبر جرائم الخذلان في حق الحضارة: فقها وشعرا وأدبا وتاريخا، وينكسر ظهر الثقافة بأثقال الفوضى واللامعنى الذي لا يعني أي شيء، والذي يبني لنا في وطننا وقلاعا لقلق العبارة، ولكآبة الفكرة، ولفساد الوجود بأكمله، ولنسكن جميعا جزيرة يحرسها الملل وتحوم حولها الكآبة. يقال أنه مرة طلب الملك النعمان من الشاعر عبيد الله الأبرص أن يُسمِعَهُ شِعراً قبل أن يقتله! حالت الغصة دون تكلمه، فقيل في ذلك: "حال الجريض دون القريض"، وتعاقبُ موتِ علماء المغرب هذه الأيام الواحد تلو الأخر، لا يترك لنا الفرصة لذكر الفقيد المستل من بيننا، لا إحصاء فضائله ولا التذكير بعلمه وعمله، فبعد توديع الدكتور عبد السلام الهراس، ووداع الدكتور عبد الهادي التازي، وبعده بساعات معدودة ودون قسط راحة يذكر يزاح من عداد قائمة الباقين على قيد الحياة إمام السادة المالكية في عصره، وشيخ المذهب الدكتور محمد التاويل، وها هو يودعنا سيدي حماد الصقلي رحمه الله وبر به عنده هو ورفاقه ممن نقل إلى عالمنا الآخر الذي ينتظر أسماءنا وأشلاءنا جميعا واحدا واحد، والمجد للحي الذي لا يموت. من محاسن التفسير في هذا الصدد ما ورد عند قول الله تعالى: " أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها" .وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره للآية: " قال ابن عباس في رواية: خرابها بموت علماءها وفقهاءها وأهل الخير منها، وكذا قال مجاهد أيضا : هو موت العلماء، وعن الحسن البصري رحمه الله قال: " كانوا يقولون: موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل و النهار"، بموت سيدي حماد الصقلي يكبر شَرْخ الفقه ليصير أخاديدا مخيفة، ويفقد مع موته جامع القرويين شمعة أخرى من شمعدان مهمته الحضارية في نشر الفقه وملحقاته، ويزيد مع موته في أيام انكسارنا يوم حزين آخر شديد الحلكة والظلمة، وسيء المذاق قبيح الوجه، ويساق آلاف بلا هاد إلى حيث لا يعلمون، فبرحيل العلماء والمشايخ الكبار، يرحل من كنا نتحصن بيقظتهم، ونحتمي بدقائق معارفهم، يُستلون من بين الباقين على قيد الحياة واحدا واحدا، بعد أن صدرت قرارات الموت بحقهم طبقا لقدر كان أو لذنب منا هو كائن، فبالتأكيد ذنب كبير هو أن يغادرنا من هو أعلم منا ليترك الفرصة، رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جُهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا. " يقول الإمام النووي رحمه الله: " هذا الحديث يبين أن المراد بقبض العلم ليس هو محوه من صدور حفاظه، ولكن معناه: أن يموت حملته ويتخذ الناس جهالا، يحكمون بجهالاتهم فيضلون ويضلون". نعم بالتأكيد ستُغلقَ دفاتر حسابهم وأعمالهم بشكل نهائي من جهتهم، وستقفل أبواب بيوتات العلم معهم، بيتا بيتا، في قصيدة حزينة لا قافية لها ولا وزن. قصيدة حزن ورثاء على أرواح هي الأجدر بالسماء منها بأرضنا التي لم تعد تلد غير الحروب والفتن والعواصف والطائرات وملشيات التطرف ومخيمات الحصار وأودية عذاب وجحيم والخراب والغباء الكئيب، سيدي حماد الصقلي العلامة الحافظ الجبل، الفقيه الذي غلب عمى عيونه بنور بصيرته، والذي كان كلامه يغترف من حياض من نور وطيبوبة شامخة، ووقار باذخ، حشود الطلبة الحائمة حول حلقاته كانت تغترف من لغته الهادئة والعميقة نوراً آسرا، وحكمة المحافل القدسية كانت تُستقى من كلامه اللذيذ في مجامع العلم، بل وحتى من مشيته الوقورة، أما الحياء فمن ابتسامته الخجلى يُلتقط دُررا. مكتمل العلم ومبارك الفهم كان، خاصة فيما يتعلق بسيرة رسول الله وفقهها، واسع الاطلاع في اللغة بنحوها وصرفها، والتفسير والبلاغة، فقد كان رحمة الله عليه من العلماء المشاركين. لست أفهم ما بال الموت قد فتح شدقيه لِقَامات الفكر ورجالات العلم الاستثنائيين في وطننا هذا؟ أهو وعدٌ مقيت بالخراب والقزمية؟ أم هو انتقام السماء ممن في الأرض بسلبهم نجماتهم اللاتي بهن كن نهتدي؟ إنه بلا شك عدل الله ومشيئته العادلة، فحينما يسود الابتذال والاسفاف وتنتشر التفاهة ويسخر بقدْر الفكر المتزن وقدَره، وتستنفد الثقافة إمكاناتها في إصلاح ما أفسده المفسدون والمسفون، تُجَرِدُنا السماء ربما عقابا للباقين من هبتها الربانية وهم الباحثون في الأرض عن بقايا مثالات الخير الأكمل والأسمى، أوليس العَالِم هبة الله التي أغدق بها على القاطنين بأرضه؟ أو لربما يكون الموت اختيارا لرفضهم للانخراط في سلك الإسفاف والميوعة، فنعذب نحن بعدهم بازدهار الأفكار الذليلة الممسوخة والمنحطة ونتشرب مساوئ البقاء بعدهم، وفي أيدينا توضع أصفاد الجهل والتجهيل، حتى لربما يكون الموت هو الخير الأعظم الذي نفضل عليه المساومة في ابتلاع ابتلاءات وضلالات هذه الأيام. يلتحق العلماء ببعضهم إلى مملكة الله العلوية، أما أنت يا وطني فلتكفكف دمعاتك السخينة، فلكأني أراك قد كتب عليك بعد انفلات تلك القامات من بين يديك أن ترزق بأبناء، نعم، لكن أن تشقى بأعمالهم الضارة باسم الإنسان وباسم ثقافته ومصيره، ويشقون هم بفناء أعمارهم عليها، أغاني تُرْغم معها أنف الثقافة الوطنية في وحل الكلمات الساقطة والمبتذلة، فتكبر جرائم الخذلان في حق الحضارة والشعر والأخلاق، وينكسر ظهر الثقافة بأثقال الفوضى واللا معنى الذي لا يعني أي شيء، والذي يبني لنا في وطننا قلاعا لقلق العبارة ولكآبة الفكرة و لفساد الوجود، وللملل بشع الذكر والتذكر الذي ينتظرنا عند أول لفة حضارية أخرى من لفات تقهقرنا وتخلفنا الذي باستماتة أبطال الملاحم القديمة ما نزال متمسكين به، دون أن يخامرنا الشك فنتوقف لتأمل حالنا، ودون رحمة منا بأمة كانت في الزمن، ولم تعد قادرة على أن تدير مجرياته ولا أن تكون فيه، لنصل مع الحالة هذه إلى الدرجة الصفر من الانحطاط والارتكاس الحضاري، نصطف كلنا على صخور وعرة لجرف عميق متزاحمين ثابتين نود القفز في مجاهيل لا نعرف عذاباتها، تقودنا نقطة رعشة الجهل فينا لقتل بعضنا إما ذبحا أو رفسا، لنعيش موتنا مع كل عالم تنزع بتلته من زهرة اسمه التي في فمنا، وننساه كما أَنْسونا قسرا غيره من فحول العلم وفطاحل الفكر وسط صخب هراء تجارتهم الفالحة التي ما رأينها يوما تبور، بل تزهر أوراما لا نعرف بالضبط اليد التي تزين بها هذا الوطن، ولنردد وراء ذاك الأندلسي المشمول بعفو الله ورحمته أبو محمد علي ابن حزم هذه الأبيات المعبرة عن صمت الجميع عن موت علم كسيدي حماد الصقلي: أنا الشمس في جو العلوم منيرة ، ولكن عيبي أن مطلعي الغرب ولو أنني من جانب الشرق طالع ، لجد علي ما ضاع من ذكري النهب.