كثر الحديث مؤخرا عن التحكم و استفاض عدد غير يسير من الباحثين و الكتاب والسياسيين و الصحفيين في شرح وتحليل هذا المصطلح سواء من حيث دلالاته اللفظية وتجلياته التاريخية او من خلال حمولته السياسية و بنيته المجتمعية فتعددت الآراء و تنوعت الخلاصات. فبين من اعتبره الافعى التي ستأتي على البيت (الوزير و القيادي بحزب العدالة و التنمية عزيز الرباح) و من اجتهد ليبرهن انه قدر محتوم و احدى الخصوصيات الكبرى للاستثناء المغربي الذي يجب مهادنته و الخنوع له درءا للفتنة و الصدام مع الملكية (الباحث والمفكر محمد جبرون)، تتراوح التوصيفات و المواقف بين التهويل والتهوين تارة وبين التشكيك و التصديق تارة اخرى. واذ نسعى هنا الى دراسة هذه الظاهرة من ناحية التحليل المنطقي فان ما يهمنا هو محاولة مقاربته من زاوية الاثر على مسار البناء الديمقراطي الحقيقي وتشكيل مجتمع العدالة و الحرية و الكرامة التي يصبو اليه احرار الوطن و يتطلع اليه جمهور الشعب. لكن و قبل الخوض في هذه النقطة نقف وقفة سريعة ومختصرة عند مفردة التحكم بناء لسياق التحليل و ذلك انطلاقا من المحاور الثلاث المكونة للتعبير أي الفعل و الفاعل و المفعول به. بنية التحكم فالفعل أي التحكم فقد ارتبط في سياق طرحه الحالي بحزب العدالة و التنمية (البيجيدي) الذي اعتمده كتكتيك محوري في تدافعه مع خصمه السياسي الأبرز (البام) وخصوصا بعدما أدرك رئيسه أنه يوشك أن يُلدغ من نفس الجحر الذي لدغ منه السيد اليوسفي عراب تجربة التناوب. هكذا فإن كان تأريخ هذا الفعل السياسي يرجع الى السنوات الاولى التي تلت الاستقلال من خلال تجسيد الصراع بين الملكية و الحركة الوطنية تحت مسميات عديدة من قبيل الاستبداد و التسلط و الوصاية و المخزنة فان البيجيدي عمد الى تلطيف و تخفيف حمولة الفعل (سيرا على موضة العصر "اللايت" و "السوفت") بالحديث عن التحكم بدل الاوصاف السالفة الذكر. وفي كل الاحوال فان الفعل يوحي بتسيير المشهد و ادارته عمليا من خلف الستار بعيدا عن تحمل المسؤولية و القبول بالمحاسبة التي تشكلان جوهر العملية الديمقراطية. أما الفاعل أي المتحكم فإن كان البيجيدي اجتهد لحصره في حزب البام و دائرته الضيقة او المتشعبة نافيا أي وصل له بمؤسسة الملكية فهو اجتهاد يصعب منطقيا التسليم به كما خلص الى ذلك جمهور الباحثين والمحللين و خصوصا في وجود رابط مادي واضح متمثل في شخص الهمة الذي يقوم بنفس الدور كسابقيه (أوفقير - البصري) وان اختلف السياق و الموقع. وسواء كان سعي البيجيدي لنفي الوصل من باب الاقتناع او من باب "اياك اعني و اسمعي يا جارة" فان همّ المتحكم ابقاء خيوط اللعبة بيده و الحيلولة دون تحول كراكيز المسرحية الى ممثلين شحما و دما مما قد يدفعهم الى الخروج عن النص او التوغل في الارتجال. اما المفعول به فهو الشعب. وهو الدور الذي انيط به دائما وان اعتقد في وقت من الأوقات انه الفاعل على شاكلة الناخب في اقتراع 2011 الذي اعقب الحراك المجتمعي و الربيع العربي إلا ان آماله ما لبثت ان تحطمت على صخرة السياسات اللاشعبية لحكومة بنكيران. بين الحلم و الواقع ان حلم كل الأحرار و الديمقراطيين هو العيش في دولة يكون العدل أساس الحكم و الكرامة أساس بناء الفرد. في دولة يتساوى الناس في الحقوق و يتمتع الكل بالحرية ويسود القانون و يفشى الامن و الاستقرار. في مجتمع لا يخاف فيه الضعيف من بطش ذوي النفوذ و لا الفقير من جشع اصحاب الثروات و لا المظلوم من سماسرة المحاكم ولا المريض من احتقار و متاجرة الأطباء ولا المجتهد من تدخل ذوي "الوسيطة" و لا المبدع من سطو عشاق الرداءة و لا المثقف من تطفل منتحلي المعرفة. باختصار في مجتمع معياره العمل و الكد و الاستحقاق والعدالة والحرية و التكافل و المساواة و المحاسبة لا مجتمع الكسل و الريع و الظلم و الاستبداد و القمع. غير ان الواقع أبعد ما يكون عن هذه الصورة الحالمة. فالواقع المُعايش يخبر بآفات و كوارث لا تعد ولا تحصى. فالخدمات الصحية أقرب الى الفتك النفسي و البدني والمادي من التطبيب و التعليم ينتج البطالة و اليأس و الانحراف اكثر مما يخرج المتفوقين و آليات الانتاج والتشغيل مهترئة وغير ناجعة و منظومة الأمن و العدل تشهد معدلات تفشي الجريمة و الرشوة على أدائها و تقصيرها و الثقة بالمؤسسات في الحضيض و التأطير الاسري والمجتمعي يكاد يندثر. والنتيجة مجتمع مازال همّ فئة كبيرة منه هو ضمان قوت يومها و فئة فاحشة الغنى تقتات على الريع و التملق والامتيازات الخاصة وبينهما فئة سميت بالمتوسطة همها المحوري البحث عن "البريكولات" لتحسين دخلها تشوفا لتسلق الدرجات و خوفا من السقوط الى الدركات. إن اتساع الهوة بين الواقع و الحلم لا يمكن ان يقتل في النفوس الحرة معاني الأمل و التفاؤل. فالتسليم بمدلول أن العسر يتبعه اليسر و أن اشتداد الأزمة مبعث انفراجها يدفعنا الى البحث في صيرورة التاريخ و الاحداث لاكتشاف ما يمكن للتحكم وان بدى للعِيان سُوءا أن يحمل من فوائد في طريق بناء الديمقراطية الحقة التي يتطلع اليها الاحرار و تمنِّي الجماهير نفسها بها. التحكم نقمة في طيها نعمة لقد كان حراك المجتمع المغربي لسنة 2011 في مجمله تعبيرا عن رغبة في التغيير و سعيا في ارساء جو الحرية و الديمقراطية و املا في القطع مع ماضي الفساد و الاستبداد و دحر رموزه إلا ان مخرجات هذه الهَبّة لم تتح بلوغ هذه الاهداف السامية. فلا الاصلاحات الدستورية الانتقائية و لا الحكومة المشكّلة عقبها ولا فلسفة الحكم التي اعتمدت غداة خمود الحراك مكنت من بلورة التغيير المنشود. وهكذا فقد كانت المحصلة أن عادت حليمة إلى عادتها القديمة و عاد الحديث عن أطروحات قديمة من قبيل الانتقال الديمقراطي والمنهجية الديمقراطية و التوافق و التحكم...مما يوحي بأن الرهان على مخرجات حراك 20 فبراير لم تؤتي اكلها ولم تستطيع المضي قدما في بناء صرح الديمقراطية الحقيقية و تجاوز التمثيلات الشكلية و الديكورية. لذلك فإن الرجوع إلى المصدر اي الشعب و الرهان على الموجة الثانية من حراك الشارع يبقى خيارا راجحا حدوثه إن في المنظور القريب او المتوسط. ولهذا الطرح مصوغات عديدة يمكن إجمالا عرضها في المحاور الخمس التالية : اولا : حكومة بنكيران تنقلب على مطالب الحراك الشعبي وتفضل ارضاء المخزن على الوفاء للشعب لقد شكل قيادة الإسلاميين في شخص البيجيدي لأول مرة للحكومة علامة بارزة في الحقل السياسي المغربي الذي علقت عليه آمال كبيرة نظرا للسياق الخاص الذي تشكلت فيه ثم للوعود الكثيرة التي قطعها هذا الحزب على نفسه أمام الشعب من قبيل محاربة الاستبداد و الفساد و ارساء منظومة العدل و المساواة وترسيخ مبادئ الحرية و الكرامة الإنسانية إلا أن ذلك لم يحدث. فقد تخلت الحكومة عن وعودها في اول منعرج و تخففت من التزاماتها اتجاه الشعب في أول عقبة فانقلبت كليا عليه كالقطة التي تأكل أولادها عندما لا تجد ما تسد به رمقها. هكذا بادرت الحكومة وليدة مخاض الحراك الشعبي إلى سن السياسات الأكثر ضررا بالفئات الشعبية و خاصة الهشة و المتوسطة منها كرفع الدعم عن المواد الأساسية و ضرب القدرة الشرائية و مراجعة نظام التقاعد على حساب جيوب الكادحين و تفويت الخدمات الاجتماعية الأساسية (تعليم، صحة، سكن...) بعد خرابها للرأسمال الطفيلي ثم مهادنة الفساد و المفسدين والتطبيع مع مختلف أشكال الريع و الامتيازات الموجهة إلى خدام المخزن اضافة الى التضييق على الحريات و هضم حقوق الإنسان (الاعتداء على الاحتجاجات الاجتماعية السلمية، تعطيل تنزيل بعض القوانين كالحق في المعلومة و ترسيم الامازيغية، قانون الاضراب...) ناهيك عن إثقال المديونية العامة للدولة و فشل نموذج التنمية المتبع و ضعف مردودية الاستثمار و استمرار الركود الاقتصادي وارتفاع معدل التضخم و استشراء آفات البطالة و الإجرام و المخدرات و الرشوة و الزبونية داخل المجتمع. عوامل كلها أدت إلى الاحساس بخيبة امل مريرة اتجاه هذه التجربة التي لم تلامس إنجازاتها سوى قشور و أعراض الإشكاليات المحورية للشأن العام. لقد كان الهاجس الرئيس لحزب السيد بنكيران القائد للحكومة كسب رضا المؤسسة الحاكمة فعليا والتأسيس للقبول به في مربع الحكم و إن كان ذلك على حساب الميثاق الذي على أساسه انتخب فكانت وصفته للإصلاح استهداف الحيط القصير (الشعب) عوض محاربة لوبيات الفساد و الريع والنهب و المحسوبية التي تلتهم ميزانية أكبر بكثير مما سيجنيه من جيوب الكادحين و الموظفين و الساعين وراء لقمة العيش الذين يشكلون عماد المجتمع و أساس استقراره. ثانيا : التحكم و الحكومة يجهزان على ما تبقى من تمثيليات الأحزاب و النقابات لقد اقتضى سيناريو توْنَسة المشهد السياسي المغربي (اقتباسا لنظام حكم آل بنعلي) الذي كان يحضر له قبل هبوب رياح الربيع العربي سنة 2011 ومن قبله ضرورات ضبط الساحة و إخضاع الفاعلين إضعاف الأحزاب السياسية و النقابات العمالية وخاصة ذات المرجعية الوطنية و الزخم التاريخي و القاعدة الجماهيرية إلى أقصى درجة ممكنة من طرف قوى التحكم. لذلك أنهكت هذه التنظيمات بالانشقاقات و الصراعات الداخلية و أُغدقت الامتيازات على قياداتها المطيعة. وهو النهج الذي سارت عليه حكومة بنكيران خصوصا اتجاه النقابات باحتقارها و إقصاءها تارة اثناء دراسة و بلورة القوانين المهيكلة (الحوار الاجتماعي، التقاعد، الإضراب. ..) أو تفريخها تارة اخرى (التعليم العالي مثلا). إن نهج هذا المسلك اتجاه هذه المؤسسات الذي يناط بها تأطير الجماهير في السراء و الضراء كصمام أمان لضمان استقرار الأمن و استمرار الإنتاجية أدى الى إفراغها من محتواها و فحوى وجودها ففقدت غالبية الناس الثقة فيها والدافع للنضال من داخلها. ثالثا : التحكم بأحد أشكاله سيكون الرابح الأكبر في انتخابات 7 اكتوبر بناء على النقطتين السابقتين يمكن استنتاج اربع خلاصات جوهرية بخصوص اقتراع 7 اكتوبر 2016. أولاها كون المشاركة ستنحصر أساسا وخصوصا بالمجال الحضري على المنخرطين في الاحزاب و المترشحين و المتعاطفين معهم ثم الناخبين التقليديين الذين يؤمنون بوجوبية التصويت كيفما كانت الظروف. الثانية تتجلى في توجه المشهد السياسي الحزبي الحالي إلى بلورة قطبين رئيسيين عبّر عنهما البعض بالاستبداد المخزني (البام) في مقابل الاستبداد الديني (البيجيدي). أما الثالثة فتتجلى في تدخل قوى التحكم لتوجيه نتائج هذه الانتخابات عبر تسطير جملة من الإجراءات التي تراوحت بين الاداري (تخفيض العتبة، الحيلولة دون التسجيل الكثيف في اللوائح...) و الاعلامي (تشويه صورة الخصوم و تضخيم أخطائهم، تهويل خطر بقاء الإسلاميين في السلطة ...) و الانتخابي (تزكية الأعيان، حض بعض الأعضاء على الانسحاب من احزابهم و تسويقه اعلاميا...). أما الرابعة فتتعلق بكون الرهان الأكبر سيكون حول من سيفوز بالمرتبة الأولى. انطلاقا من هذا يمكن مقاربة مخرجات هذه الانتخابات من خلال ثلاث سيناريوهات رئيسية. الأول و هو الراجح و يكمن في تصدر البيجيدي للاقتراع ليس اعتبارا لإنجازاته و حصيلته الحكومية ولكن أساسا لانضباط صفه و قدرته على تعبئة دائرة المتعاطفين التي ستتسع كلما أوغل التحكم في الهجوم عليه و استهدافه ذلك أن شعور "الحكرة" التي تنشأ عن هذا التسلط ستدفع الناس للتعاطف معه. السيناريو الثاني يتجلى في فوز البام كنتيجة لسطوة الاعيان و اكتساح المجال القروي. أما السيناريو الثالث فيتمثل في دفع الاثنين إلى التوافق والمشاركة في نفس الحكومة أيا كان الفائز منهما كما سبق وحصل للبيجيدي مع الاحرار. الخلاصة أن كلا الخيارين المرتقبين للفوز بهذا الاقتراع وكما أشارت إلى ذلك الأستاذة منيب يعُدّان وجهين لعملة واحدة. فكلاهما لم و لن يتوان في تجسيد رؤى قوى التحكم الفعلية إن بصورة مباشرة و علنية (البام) أو بصورة مبطنة و غير مباشرة (البيجيدي) أو بمزج الصورتين معا. وبالتالي فإن الرهان على هذه الانتخابات لبناء صرح المجتمع المنشود طرح لا يستقيم و أمنية صعبة التحقق. رابعا : ارهاصات احداث الساحة الدولية تنبيئ بقرب ميلاد الموجة الثانية للتغيير حكومة ما اصطلح عليها "حكومة الفرصة الاخيرة" تشكلت قبل أيام بتونس بعد مسار سنوات من المناوشات و التوافقات بين إرث النظام القديم و القوى الثورية. مصر السيسي على حافة الإفلاس و التضخم في أعلى مستوياته. سوريا على أبواب تفاهمات جديدة. الانقلاب العسكري يفشل بتركيا. دول البترودولار تفقد البوصلة و لم تعد تدري أين تولي وجهتها. غليان اجتماعي بدول عديدة. تغيير مرتقب بالبيت الأبيض و بالاليزيه و ببيت الاتحاد الأوروبي. مؤشرات تدل مجتمعة أو متفرقة على تبلور جنين موجة تغيير ذي أهمية معتبرة وقرب مخاض ولادته مما سينعكس حتما على الصعيد الداخلي لصعوبة فصل نسق تطور المشهدين الداخلي و الخارجي في زمن الثورة التكنولوجية. خامسا : الشباب يحمل لواء التغيير و محاربة الفساد عن طريق الطفرة التكنولوجية إن فشل السياسات الرسمية في محاربة الاستبداد و الفساد من جهة و تشكل طيف واسع من الشباب الذي يتقن وسائل التواصل الاجتماعي و مختلف الوسائط التكنولوجية و الذي نشأ بعيدا عن مخزنة رجال السلطة و القنوات العمومية والذي ينبذ الظلم و يرفض الاستسلام له من جهة اخرى كفيل بتشكيل جبهة شعبية للتغيير عبّر عنها الأستاذ الباحث محسن الخديسي في احدى مقالاته بالقوة الخامسة. هذه الجبهة ستحمل لواء محاربة الفساد عن طريق الصورة و الفيديو كدلائل يصعب تفنيدها كما حدث في قضايا من قبيل نفايات ايطاليا، خدام الدولة، دركي الأطوروت، قضايا استباحة المال العام و ابتزاز رجال السلطة... هكذا اتاحت التكنولوجيا لعموم المواطنين عينا وأذنا ثالثة تسجل و توثق الأحداث في سياق تعويض مراقبة الكاميرا مراقبة وازع الدين و الوطن و الضمير. خلاصة القول إن ربط هذه العناصر بتسلسل الأحداث و تسارع وتيرة التاريخ يؤكد منطقية الطرح القائل بقرب انبعاث موجة جديدة من الحراك المجتمعي الذي ينشد بناء الديمقراطية الحقيقية وتشكيل مجتمع العدالة و الحرية و الكرامة في سياقٍ سيلعب فيه شكل و أبعاد التحكم عنصرا محددا لسرعة و قوة هذا الحراك الشعبي.