يكتشف المتامل للأحداث التي شهدتها منطقة شمال افريقيا خلال فترة "الربيع العربي"، أن ما عرفته دولها كان له قاسم مشترك واحد، إنه "التغول السياسي"، إنه هيمنة فصيل سياسي على المشهد العام بمباركة من الأنظمة السياسية. ففي تونس: كان "التجمع الدستوري الديمقراطي" هو الحزب الحاكم في تونس والمهيمن على الحياة السياسية منذ الاستقلال سنة 1956 إلى بداية سنة 2011، أي عندما اندلعت ثورة تونس، ففي انتخابات سنة 1989 فاز هذا الحزب بكل مقاعد مجلس النواب بعد حصوله على ما يقارب 80.48% من الأصوات، وفي سنوات 1994 و 1999 و 2004 فاز بكل المقاعد غير المخصصة لأحزاب المعارضة القانونية وحصل على نسبة فاقت أو قاربت التسعين في المائة، وفي الانتخابات البلدية لسنة 2005 حصل على 4098 مقعد من أصل 4366 في المجالس البلدية، كما فاز مرشحه ورئيسه زين العابدين بن علي في الانتخابات الرئاسية لسنوات 1989 و1994 و1999 و2004 بنسب فاقت في كل مرة 90% في المائة، وكانت حكومات عدة تنتمي كليا لهذا الحزب، وانطلاقا من حالة الهيمنة الشاملة على المشهد السياسي التونسي أطلق على هذه الحالة وصف "البنعلية"، وقد كان على جميع الفاعلين الإقتصاديين والأطر الإدارية وحتى الإعلاميين أن ينخرطو في هذا الحزب، ففي الوقت الذي ظلت تؤكد فيه قيادة الحزب بأن عدد منخرطيه يبلغ مليونين و180 ألف منخرط، فإن المصادر المستقلة ظلت تقدر بأن عدد الناشطين في الحزب لا يتجاز بضعة عشرات من الآلاف فقط، وأن عشرات الآلاف من العضويات كانت تحت الاكراه والتهديد. وفي مصر: كان " الحزب الوطني الديمقراطي " الذي أنشأه و ترأسه الرئيس الراحل محمد أنور السادات في عام 1978 على أنقاض الاتحاد الاشتراكي العربي الناصري، ثم ترأسه الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك منذ 1981 حتى سنة 2011، ليتغير اسمه إلى الحزب الوطني الجديد بعد تولي طلعت السادات رئاسته في 13 أبريل 2011، هذا الحزب تسيد المشهد السياسي تماما مثل الحالة التونسية، ففي سنة 2000 حصل الحزب على 388 مقعدا، وفي انتخابات سنة 2005 انخفضت كتلته إلى 311 مقعداً (وحصل الإخوان المسلمون على 88 مقعدا)، أما في انتخابات سنة 2010 فقد فاز الحزب بأغلبية ساحقة تقارب 97% من مقاعد مجلس الشعب المصري وسط انتقادات واتهامات عديدة بالتزوير (بثت بعض مظاهرها على الهواء مباشرة)، وكانت من بين الأسباب الأساسية في خروج أغلب الأحزاب السياسية في مظاهرات 25 يناير في مصر. وبلغ عدد المنخرطين في هذا الحزب حسب إدعاءات قيادييه مليون و900 ألف عضو، وضم إلى صفوفه الأغلبية الساحقة من الفاعلين الإقتصاديين؛ الذين هيمنوا على لجنة السياسات التي ترأسها نجل الرئيس مبارك؛ والإعلاميين والفنانين والوجهاء في الصعيد والأرياف، ففي نظر الكثيرين كان وجود الحزب الوطني وبالا على الحياة السياسية المصرية لأنه قام بافساد العملية السياسية وسجن كل المنافسين المحتملين وسيطر على البرلمان بشكل غير مقبول من خلال التزوير. إن سعي هذين الحزبين إلى الهيمنة على كل مفاصل الدولة وعلى كل جوانب المشهد السياسي والإقتصادي والإعلامي وحتى الفني، دفع إلى تحولهما من "حزب الدولة" الذراع السياسي لمن يريدون تحويل البلاد برمتها إلى "دولة الحزب" وقيام دولة داخل الدولة، دولة تفرض على الجميع الإنضمام إلى أجهزتها وأذرعها الأخطبوطية، أحزاب اصبحت تمتلك أجهزة مخابرات وأصبحت تتحكم في البورصة والمؤسسات العمومية الكبرى، أحزاب لم يعد الفصل ممكنا بين المال الخاص لقياداتها والمال العام (حالة أحمد عز في مصر، وأسرة الطرابلسية في تونس)، أحزاب سيطرت على كل شئ وأصبح اجتماع مكاتبها السياسية أهم من اجتماعات الحكومة أو حتى رئيس الدولة، لأن الدولة الحقيقية تحولت لمقر الحزب. لكن الغريب أنه عندما اندلعت الثورة في تونس لم يجد الرئيس الأسبق بن علي أيا من المليونين و180 ألف منخرط في حزبه ليتظاهروا دعما له، ودفعت قيادات الحزب الثمن غاليا بعد خروجه إلى جدة، ولا زال بعضهم اليوم قابعا في السجون، لأنه بسقوط رأس النظام سقط الحزب وانهارت منظومة العلاقات النفعية، فقد أعلنت محكمة البداية في تونس بتاريخ 9-3-2011، حل التجمع الدستوري الديمقراطي وتصفية ممتلكاته وأمواله عن طريق وزارة المالية، فكان ارتباط الفساد السياسي للحزب بالفساد الاقتصادي للطرابلسية سببا محوريا في سقوط النظام بأكمله. ومثل بن علي لم يجد محمد حسني مبارك إلى جانبه ذلك المليون و900 ألف عضو في الحزب الوطني عندما انتقلت نار الربيع العربي إلى ميادين مصر، باستثناء فضيحة "موقعة الجمل"، فكانطبيعيا أن يتجه المتظاهرون إلى مقر الحزب "كعبة أبرهة الحبشي" ويشعلوا فيها النيران، ويعد حريق المقر الرئيسي للحزب الوطنى بالقاهرة من أشهر الحرائق التى شهدتها مصر إبان ثورة 25 يناير 2011 إذ كان الحزب رمزًا للقوة والنفوذ والسلطة في مصر، ويعد مبنى أهم رمز من رموز نظام مبارك، وكان المسيطر الوحيد علي الحياة المصرية أبان فترة تربو عن 30 سنة. وفى 16 أبريل 2011 أصدرت محكمة القضاء الإدارى قرارا بحل الحزب الوطني الديمقراطي، على أن تؤول مقاره وأمواله إلى الدولة، حيث أن تقرير هيئة مفوضي الدولة بشأن القضية قد انتهى إلى تأييد طلب حل الحزب الوطني، لدوره فيما آلت إليه الدولة المصرية من مشكلات وفساد. إن سعي الدولة إلى الإلغاء العملي للتعددية السياسية، أو محاولة بعض أطرافها الهيمنة على الحياة السياسية بواسطة حزب مهيمن يمتلك مقومات دولة ذات سيادة هو مسعى حكم على نماذجه، التي استعرضنا بعضها، بالفشل الذريع، وهو فشل قاد إلى زوال النظام الذي خلقه، لأن إجبار الفاعلين المؤثرين في المجتمع على التجمع في كيان سياسي قسرا لا يمكن إلا أن يخلق كائنا هجينا ما تلبث أطرافه أن تبدأ في الاقتيات على بعضها وفي شن المعارك فيما بينها ومحاولة التوسع على حساب بعضها البعض. والأنكى من ذلك، حين يبدأ هذا الغول الهجين بإبادة الخصوم والمنافسين وإزالتهم من المشهد السياسي بشتى الطرق، وباستعمال أجهزة الدولة والعناصر البيروقراطية؛ التي يتوجب عليها الحياد والولاء للدولة فقط؛ والأخطر عندما تصل الهيمنة إلى القضاء والأجهزة السيادية، هنا تكون الدولة تحت رحمة هذا الوحش الذي أبدعته بعض أطرافها، وهنا نتذكر جميعا اسطورة "بيجماليون". تحضرني هنا حكمة نطق بها قبلا المجدد "عبد الرحمن الكواكبي": إنها صيحة في واد .. أو نفخة في رماد إن ذهبت اليوم بالريح .. فستذهب غداً بالأوتاد