ترشح رئيس الحكومة حاسم في "برلمنة" النظام السياسي المغربي رغم محاذيره القانونية لا شك أن الاعتراضات القانونية التي أثارها بعض الباحثين حول شرعية ترشح رئيس الحكومة للانتخابات التشريعية المقبلة تبقى في معظمها مقبولة ومعقولة، غير أن وجاهة هذه الاعتراضات تستند فقط إلى شبهة وجود حالة تنافي بين اضطلاع رئيس الحكومة بمسؤولية الإشراف السياسي على الانتخابات وتقدمه كمرشح لخوض غمار هذه الانتخابات في الآن ذاته. إن حالة التنافي هذه لوحدها كافية لجعل ترشح رئيس الحكومة منافيا لمنطق ونظام العملية الانتخابية في حد ذاتها؛ إذ لا يعقل أن يكون رئيس الحكومة خصما وحكما في الوقت نفسه. غير أن الدفع بوجود موانع قانونية تحول دون ترشح رئيس الحكومة تبقى غير كافية للتسويغ السياسي لإبعاد هذا الأخير من خوض غمار الانتخابات، بمعنى آخر يمكن القول إنه نظرا لخصوصية المرحلة الانتقالية التي يعرفها النظام السياسي بالمغرب؛ حيث يفترض أن تشكل الانتخابات التشريعية المقبلة محطة حاسمة فيه، فإن الأولوية في تقييم أداء المؤسسات وسلوكات الفاعلين ينبغي أن تكون للسياسي وليس بالضرورة للقانون؛ أي للأهداف المراد تحقيقها وليس بالضرورة للوسائل. وعلى هذا الأساس، وعلى افتراض أن هدف دمقرطة النظام السياسي وعقلنة آليات اشتغاله يشكل قاسما مشتركا بين مختلف الفرقاء السياسيين، فإن كل الإشكالات القانونية التي يطرحها ترشح رئيس الحكومة للانتخابات تبقى غير ذات قيمة تذكر في مقابل الانعكاسات الإيجابية لترشحه على مستوى إنضاج اللعبة الديمقراطية في المغرب في اتجاه إضفاء طابع برلماني على آليات اشتغاله، وذلك للاعتبارات التالية: أولا: لا يوجد أي نص في الدستور أو في القوانين الانتخابية ينص بشكل صريح أو ضمني على عدم أحقية رئيس الحكومة في الترشح للانتخابات التشريعية، وأغلب الحجج المضادة تتأسس على نوع من التأويل السياسي للترسانة القانونية المنظمة للانتخابات، وهو تأويل يبدو انتقائيا وفي حالة انفصال عن متطلبات المرحلة الدقيقة التي يمر منها النظام السياسي المغربي لما بعد ما يسمى بالربيع العربي. إن اعتبار رئيس الحكومة سلطة عمومية ومنحه صلاحيات دستورية واسعة في هذا الإطار، لا يمكن أن يتعارض بالضرورة مع إمكانية ترشحه للانتخابات في منطق وأعراف النظام البرلماني، وذلك لسببين رئيسيين: أولهما أن الحكومة بكامل أعضائها يفترض أنها تتحول في نهاية ولايتها إلى حكومة تصريف للأعمال فقط، وهو ما يعني، وفقا لمنطوق الفصل 37 من القانون التنظيمي المتعلق بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة والوضع القانوني لأعضائها، أن عملها يجب أن يقتصر على اتخاذ التدابير والقرارات المستعجلة فقط؛ أي تلك التي يوجبها ضمان استمرار السير العادي للمرافق العمومية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الفقرة الأخيرة من الفصل 47 من الدستور والباب الرابع من القانون التنظيمي المشار إليه أعلاه لا يحددان بصريح العبارة متى تتحول الحكومة من حكومة كاملة الصلاحيات إلى حكومة تصريف أعمال، وهو فراغ قانوني يجب تداركه عبر تعديل هذا القانون والتنصيص، مثلا، على أن الحكومة تكتفي بتصريف الأعمال بمجرد انطلاق عملية إيداع الترشيحات للانتخابات البرلمانية، وذلك لإزالة شبهة استغلال رئيس الحكومة وأعضائها لنفوذهم والتأثير في العملية الانتخابية، وبالتالي رفع الحرج عنهم في حالة اتخاذهم قرار الترشح للانتخابات. أما السبب الثاني فيتجلى في أن السلطة العمومية لا يختص بها رئيس الحكومة، بل إنه يفوضها للوزراء في إطار المهام المسندة إليهم من طرف رئيس الحكومة بموجب الفصل 93 من الدستور. ومن هذا المنظور، فان كل أعضاء الحكومة يعتبرون سلطات عمومية في مجال اختصاصهم، وبالتالي فان الدفع بعدم شرعية ترشح رئيس الحكومة على أساس أنه سلطة عمومية يخشى استغلالها للمس بالحياد المنصوص عليه في الفصل 11 من الدستور ينطبق أيضا على باقي أعضاء الحكومة، وليس على رئيسها فحسب، مما يستوجب، من هذا المنظور، القول بعدم شرعية ترشحهم، وهو أمر لا يستقيم في منطق النظام البرلماني. ثم إن احتمال عدم التزام رئيس الحكومة بالحياد غير مرتبط، من الناحية السوسيولوجيّة، بوجوده في السلطة لحظة إجراء الانتخابات، إذ لا شيء يمنعه، إن أراد، من توظيف شبكة علاقاته في مختلف أجهزة الحكومة من أجل التأثير على سير العملية الانتخابية في كل مراحلها. ثانيا: إن الحكم على شرعية ترشح رئيس الحكومة من عدمها ينبغي أن يستند إلى قراءة برلمانية للدستور ولكل النصوص القانونية التي تحكم اشتغال المؤسسات السياسية. فإذا افترضنا أن دستور 2011 يستوفي الحد الأدنى من متطلبات الانتقال الديمقراطي وأن نظام الملكية البرلمانية يبقى هو الصيغة الوحيدة التي تسمح بالتوفيق بين النظام الملكي ومتطلبات النظام السياسي الديمقراطي، فإن إمكانية إبداع نموذج مغربي للديمقراطية تبقى مشروطة بالضرورة بتأويل الدستور والقوانين تأويلا برلمانيا، وأي توجه غير هذا سيفضي لا محالة إلى تحييد أثر دستور 2011 على الممارسة السياسية بما من شأنه أن يجعل الحياة السياسية تخضع شكليا لدستور 2011 لكنها تتأطر عمليا بروح دستور 1996، وهو ما حدث بالفعل خلال الولاية التشريعية الحالية في العديد من القوانين التي تم إعدادها في إطار ما يسمى بتنزيل الدستور، وخاصة الفصول المرتبطة بإعادة توزيع السلطة بين المؤسسة الملكية والمؤسسات المنتخبة. بناء على ما سبق، يمكن القول إن القراءة البرلمانية للدستور وللقوانين المنظمة للانتخابات تدفع إلى التأكيد أن ترشح رئيس الحكومة للانتخابات رغم ما قد يثيره من تحفظات قانونية فهو ترشح ضروري سياسيا وعامل أساسي في "برلمنة" النظام السياسي المغربي. إن النقاش حول هذه المسألة لا يستقيم دون استحضار النقاش السابق حول دستور 2011، والذي يتميز بالحضور القوي لمطلب تقوية المركز القانوني للوزير الأول ودعم صلاحيات الحكومة والبرلمان وتعزيز رهان الانتخابات عبر ربط القرار بالمسؤولية والرفع من جرعة السياسة في العمل الحكومي. لا شك أن ترشح رئيس الحكومة من شأنه أن يسهم، نظريا على الأقل، في تحقيق هذه الأهداف. نقول نظريا على الأقل حتى لا يفهم أننا نجزم أن برلمنة (parlementarisation) النظام السياسي المغربي تتوقف حصريا على ترشح رئيس الحكومة؛ إذ لا شك أن الهوة لا تزال شاسعة بين دور رئيس الحكومة في النظام البرلماني المأمول وبين أداء رئيس الحكومة في الولاية التشريعية المنتهية. ومهما يكن، فان المنطق السياسي السليم يقتضي جعل الانتخابات أداة لتمكين الشعب صاحب السيادة من الحسم في البرامج السياسية التي يفترض أن تبنى على أساسها التحالفات والتقاطبات السياسية. ومن هنا فان ترشح رئيس الحكومة ينبغي أن ينظر إليه كفرصة لتمكين الناخب من تفعيل آلية العقاب السياسي من جهة، ومناسبة لتعزيز التوجه الذي أكد عليه المشرع في دستور 2011، والقاضي بربط القرار السياسي والسياسات العمومية بالشرعية الانتخابية في ذهنية الناخب المغربي، وهو ما يشكل الحلقة المفقودة في النظام السياسي المغربي لما قبل 2011. ثالثا: إن الجدل الذي أثاره ترشح رئيس الحكومة يعد مؤشرا واضحا على ارتفاع منسوب الشخصنة في النقاش العمومي في المغرب. فحينما يتحدث أغلب من انخرط في هذا الجدل عن بنكيران وليس عن رئيس الحكومة، فهذا يعني أن درجة مأسسة الممارسة السياسية بالمغرب لا تزال دون المستوى المطلوب لاشتغال نظام ديمقراطي حقيقي. ويمكن القول إن شخصنة النقاش السياسي تعد أحد أكبر وأخطر التهديدات التي تحذق بالمسار الديمقراطي الطويل والمتعرج بالمغرب. وكما تبين ذلك الولاية التشريعية المنصرمة، فان شخصنة النقاش السياسي كانت لها آثار كارثية على الحياة السياسية، فهي (الشخصنة) أدت إلى تراجع حاد للإبداع السياسي وإنتاج الأفكار وساهمت في تمييع النقاش العمومي وإغراقه بأشباه القضايا. ومن جهة أخرى، فإن شخصنة الصراع السياسي الحزبي قد أدت بأغلب الفرقاء السياسيين الى الوقوع في فخ اعتماد سلوكات ومواقف مبنية على تقديرات سياسية قصيرة المدى. فسواء تعلق الأمر بأنصار بنكيران أو بخصومه، فإن الموقف من ترشح هذا الأخير يقاس أولا بالتأثير الذي يعتقد أنه سيحدثه في الانتخابات المرتقبة. فأنصار بنكيران يدافعون عن حقه في الترشح بالنظر لقدراته التواصلية الكبيرة والتي كان لها تأثير واضح على أداء الحزب في الانتخابات الجماعية الأخيرة. أما خصومه فيهدفون قبل كل شيء إلى تحييد تأثير بنكيران (l'effet Benkirane) في الحملة الانتخابية، ولا يتصور أن تكون مقاعد دائرة سلا التي ينوي الترشح فيها هي الرهان الحقيقي للجدل المتصاعد بين الطرفين. ومن هذا المنظور لا يبدو أن الطرفين معا يستحضران تداعيات ترشح رئيس الحكومة، الذي يسمى اليوم عبد الإله بنكيران وقد يكون اسمه غدا إلياس العماري أو نبيلة منيب أو إدريس لشكر أو غيرهم، على المنحى والشكل الذي سيأخذه النظام السياسي المغربي في المستقبل، بالنظر إلى أن الولاية التشريعية الحالية هي ولاية مؤسسة ستحدد ملامح المراحل المقبلة مادام أن تأثيرها يتجاوز الإطار الزمني المحدد في خمس سنوات؛ حيث ستفرز القواعد المكتوبة، والأهم من ذلك القواعد غير المكتوبة التي سينتظم وفقها النظام السياسي المغربي لما بعد 2011. خلاصتان لابد منهما: - إن النقاش حول ترشح رئيس الحكومة ينطوي على رهانات تتجاوز بكثير مسألة شرعية قرار الترشح من عدمه، وأي اختزال للمسألة في شقها القانوني سيقع في فخ تحميل القانون أكثر مما يحتمل. فالأمر لا يتعلق بفحص مدى مطابقة سلوك أو قرار معين للقانون، بل يتعلق أساسا بالبحث في الأبعاد السياسية لهذا السلوك وتأثيره في المنحى الذي سيأخذه النظام السياسي المغربي لما بعد 2011، والذي لا يزال في طور التشكل منذ بداية الولاية التشريعية الحالية. ومن هذا المنظور، فالرهان مرتبط في العمق بالصراع حول تحديد توازنات وميزان القوة الجديد الذي وحده سيعطي للدستور معناه الحقيقي وللنظام السياسي شكله الجديد. - النقاش حول هذه القضية يُؤكد ضعف مستوى الثقة المتبادلة بين النخب السياسية، والحزبية منها على وجه الخصوص. فإثارة عدم مشروعية ترشح رئيس الحكومة يخفي في الواقع أزمة ثقة عميقة بين أقطاب النظام الحزبي في المغرب. ولعل ضعف الثقة هذا يُبين أهمية التفكير بجدية في مقترح إحداث هيئة مستقلة للإشراف على الانتخابات في انتظار مزيد من التطبيع مع الثقافة الديمقراطية مع توالي الولايات التشريعية. * أستاذ العلوم السياسية بجامعة ابن زهر؛ أكادير