اتخذت تطورات الوضع السياسي في بلادنا مسارات متناقضة في الآونة الأخيرة، عززت من التوجس من نجاح مشروع الإصلاح الديموقراطي، وخاصة في ظل اعتبار البعض ما تحقق وما أنجز كافيا وأن الوقت قد حان لتغيير السلوك السياسي للدولة إزاء الحراك الاحتجاجي الديموقراطي والتحول إلى اعتماد منطق القمع والرفض لمختلف المبادرات الاحتجاجية السلمية، وذلك في ظل استمرار الغموض الرسمي إزاء الاستحقاقات الانتخابية القادمة، وفي المقابل انطلاق مسلسل العد العكسي لتجربة الأصالة والمعاصرة مذكرة في ذلك بتجربة جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية المعروفة اختصارا ب»الفديك» في بداية الستينيات والتي ماتت بسرعة أكبر من سرعة ولادتها. تتعدد المؤشرات على ذلك، فمن ناحية أولى تكرر السلوك القمعي بشكل منهجي، وهو ما سجل في مدن عدة نهاية الأسبوع الماضي بدءا من أحداث خريبكة وقمع الوقفة الاحتجاجية الثانية ضد موازين وانتهاءا بالمنع الشامل للنزهة الاحتجاجية لحركة 20 فبراير ضد «معتقل تمارة» وما رافقها من منع في كل من فاس وطنجة للمجموعات السلفية التي قررت الالتحاق بالرباط من أجل المشاركة في هذه النزهة الاحتجاجية. ومن ناحية ثانية هناك ما نراه حاليا من إصرار على محاكمة مدير يومية المساء في حالة اعتقال وعدم التردد في انتهاك ضمانات المحاكمة العادلة المرتبطة بهذا الملف، بالرغم من تحول قضيته إلى ملف دولي ذي تشويش كبير على المغرب، ومن ناحية ثالثة خروج المؤسس الفعلي لحزب الأصالة والمعاصرة فؤاد عالي الهمة من مركز القرار الحزبي ونشر «النقذ الذاتي» لأحد قيادات الحزب نفسه، ثم إلغاء مهرجان أوتار الرحامنة الذي رعاه هذا المؤسس والحديث عن إعفاء الرجل النافذ في الحزب إلياس العماري من إدارة الحزب، وهو تحول يؤشر لانعكاسات متفاوتة على بنية القرار السياسي ببلادنا والفاعلين فيه، والتوازنات القائمة بين مكوناته، وظهور فاعلين جدد لتدبير المرحلة القادمة. من السابق لأوانه حصر دلالات التطورات السابقة والمتناقضة ظاهريا، إلا أن المؤشرات الملموسة تكاد تجمع على حصول تحول في المقاربة السياسية المؤطرة للتحول الديموقراطي المنشود، وذلك لمصلحة الرهان على المقاربة الأمنية والتحكمية، بديلا عن المقاربة الديموقراطية والسياسية، والتي كانت في طور التشكل بعد خطاب 9 مارس، مما يفتح المستقبل السياسي على الغموض وتنامي التساؤل حول توجهات صناع القرار السياسي اليوم بالمغرب لتدبير المرحلة القادمة، ويجعل من المشروع التساؤل:
- هل نفذ الصبر تجاه حركة الاحتجاج السياسي السلمي في البلاد؟ - لماذا تم تجميد مواصلة إجراءات الثقة وعلى رأسها قضية الإفراج على المعتقلين من ضحايا قانون الإرهاب وتفكيك إرث السلطوية؟ - لماذا يسود الغموض ملف الانتخابات القادمة سواء من حيث جدولتها أو من حيث مضامين الإصلاحات اللازمة لنزاهتها وشفافيتها التغييرات، وهل يخدم ذلك مرحلة النقاش الدستوري السياسي بعد أن قاربت اللجنة الاستشارية على الانتهاء من مشروعها؟ - هل ما يجري على مستوى حزب الأصالة والمعاصرة مجرد تغيير جزئي يعكس تكيفا للقوى المناهضة للإصلاح مع استحقاقات خطاب 9 مارس أم أنه سينهي المرحلة السياسية السابقة المرتبطة باستنساخ نموذج الحزب السلطوي؟ إنها أسئلة من بين أخرى تفرض الجواب العمومي عنها، قطعا للطريق على كل استهداف لمسار الإصلاح الديموقراطي التصاعدي ببلادنا، وتطرح بشكل رئيسي سؤال ما العمل؟ نعتبر أن الجواب يتطلب تركيز ما سبق في خلاصة مركزية، وهي أنه بقدر التقدم المسجل في مسيرة الإصلاح الديموقراطي وما فتحه من آفاق استعادة الثقة في تميز النموذج المغربي وقدرته على إنجاز بناء نموذج ديموقراطي بالمعايير المتعارف عليها العالمية ودون أن يكون مضطرا للمرور عبر بوابة نماذج التغيير العربية ذات الكلفة العالية والمردودية المؤجلة، بقدر ما نشهد مناورات إضعاف وإرباك وتعطيل لمسيرة الإصلاح الديموقراطي، ومحاولات تحريف لمساره واستدراجه نحو متاهات الانتكاس والتردد والغموض. وفي المقابل هناك إرادة ملكية سياسية للدفع بمشروع التحول الديموقراطي، وهي إرادة كشفت في محطات متعددة عن قدرة على اجتياز لحظات اختناق هذا المشروع واتخاذ القرارات اللازمة لإخراجه من المأزق وتمكينه من تجاوز عنق الزجاجة، وهو ما ظهر في سلسلة محطات شهدها المغرب وخاصة منذ خطاب 9 مارس، مما أدى لتبلور ثقة معتبرة في مسار الإصلاح القائم، وهي الثقة التي ساهمت عدد من القرارات الرسمية في حمايتها من التلاشي، وآخرها ما صدر من الاستعداد لفتح المقر الأمني الموجود بتمارة من أجل التحقيق فيه من قبل الوكيل العام للملك وفتحه للمجلس الوطني لحقوق الإنسان وبعده الهيئات الحقوقية والوسائل الإعلامية، وهو قرار لم يكن واردا أو ممكنا قبل حوالي أسابيع، وخاصة بعد الرفض المنهجي الذي ووجه به طلب تشكيل لجنة تقصي الحقائق نيابية حول ما يمسى بمعتقل تمارة.
المغرب اليوم، إذن هو في مرحلة حرجة ذات طبيعة انتقالية وصراعية، والانتقال الآمن نحو بر الديموقراطية يتطلب أن تكون أولويات وقضايا الصراع حول مغرب الديموقراطية واضحة، وأن لا تخطئ قوى التغيير بوصلتها، وتهدر الفرصة التاريخية المتاحة اليوم بين المؤسسة الملكية والقوى الإصلاحية والشبابية، وهو ما يقتضي تمايزا كليا عن كل نزعة تبخس شروط بناء الثقة بين الفاعلين في الإصلاح أو الانزلاق العدمي نحو استهدافهم، ذلك أن الثقة عملية متبادلة بين مجموع الفاعلين، وأن كل استهانة بإجراءات الثقة أو التخوف منها، لا يخدم في نهاية المطاف سوى القوى المعادية للإصلاح، والساعية للإلتفاف عليه أو إرباكه، والمفروض كما حصل في مختلف تجارب الانتقال الديموقراطي أن يتم تعزيز مسار الثقة وأن تتحمل القوى السياسية مسؤوليتها في بناء الثقة ومواجهة كل ما يستهدفها أو يهددها وخاصة من قبل القوى المضادة للصلاح أو من طرف النزوعات المغامرة الهامشية، وذلك بالوضوح والشجاعة اللازمتين. في المقابل إن قوى الإصلاح الديموقراطي مدعوة للانتقال لمرحلة جديدة في علاقتها بعموم الفئات الشعبية، خاصة بعد أن اقتربت مرحلة الاستفتاء الدستوري، وما تستوجبه من فعالية ميدانية للدفع بمسار الإصلاح وضمان تقدمه، وذلك بعد أن تكررت المواقف اللاديموقراطية التي اختارت السلوك القمعي في مواجهة مختلف الاحتجاجات السياسية والتردد عن مواصلة إجراءات تصفية المناخ السياسي لمصلحة التحول الديموقراطي. *افتتاحيتي التجديد 16 و17 ماي 2011