لم تعد مسألة السلام اليوم متعلقة بإنسان تجاه إنسان آخر أو شعب تجاه شعب آخر، بل تعدته إلى البيئة والمناخ في علاقة الإنسان بهما، حيث إن هذا الأخير شن حروبا تلو الأخرى على محيطه البيئي مخلفا جروحا لم تندمل مع رغم أن الكثير من جروح الحروب الانسانية اندملت ونسيت. وهذا الوعي اليوم بما خلفته يد الإنسان في جسد البيئة، جعلها الشغل الشاغل لكل الخبراء والمتتبعين، بما صار لها من انعكاس بالسلب أو بالإيجاب على حياة ساكنة الكوكب الأزرق، حيث إننا يمكن أن نشبه البيئة بسلسلة من الخلجان المتراصة والمترابطة عضويا، يكتسي فيها كل خليج طابعا خاصا لكن المغزى والترابط واحد، فالأسرة بيئة قائمة الذات والمدرسة بيئة نابضة والمجتمع بيئة مندمجة وكل ما ذكر يصب في وادي البيئة بمفهومها الشامل. ومع تعاقب الأزمنة، صارت البيئة ذاك الطفل المدلل المستأثر باهتمام الكل؛ حكومات ومنظمات غير حكومية وهيآت وشركات ومواطنين بشكل فردي، لكن هذا الاهتمام المتزايد يتطلب قواعد وضوابط وجب اتباعها حتى تندمل جروح البيئة وتستعيد بعضا من عافيتها. ومن باب انخراطه في هذه الدينامية الدولية والإقليمية، واحترما لالتزاماته في هذا المجال، يتحمل المغرب اليوم مسؤولية تنظيم قمة المناخ بتعاون مع الشركاء الدوليين، وقبل هذا الانخراط والدينامية حملت المملكة على عاتقتها وضع ترسانة قانونية تلائم القوانين الوطنية مع المعايير الدولية في مجالي البيئة والمناخ، ووضع برامج طموحة في مجال الطاقات الشمسية والريحية والمائية..، وكذلك تدبير النفايات بمختلف أنواعها، تحضيرا لنموذج اقتصادي مختلف عن النموذج التقليدي القائم حاليا، هدفه تحقيق تنمية مستدامة للأجيال الحالية والمستقبلية. لكن الملاحظ أن المغرب أصاب وأخطأ في تحمل أمانة قد تقض مضجعه نظرا لغياب وعي بيئي لدى أغلب شرائح المجتمع، إضافة إلى كون القوانين لا تتجاوز حدود المكتوب ولا يتم تفعيلها بالشكل المطلوب، ودليل ذلك موسمية المبادرات ومحدودية أثرها، وهنا أشير إلى حملة "زيرو ميكة" التي لم تر النور إلا قبل أشهر قليلة من موعد قمة المناخ المرتقب في نوفمبر القادم. وما زاد الطينة بلة في الآونة الأخيرة تلكم الحاويات التي تم استيرادها من إيطاليا، محملة بنفايات "غير سامة" حسب التصريح الأخير والمتلعثم للوزيرة الحيطي في "كوب ميد" (القمة المتوسطية الثانية للمناخ). ويمكن اعتبار غياب رئيس الحكومة عن افتتاح النسخة الثانية من "ميد كوب" بمدينة طنجة، وما صاحب ذلك من جدل وتبادل الاتهامات الحزبية، دليلا على ضعف الوعي البيئي ببلادنا، خاصة لدى الطبقة السياسية، التي تفضل تغليب الحسابات السياسية الضيقة على "المصلحة البيئية العليا" للمغرب، إن صحت تسميتها بهذا الشكل. وغياب رئيس الحكومة يؤشر على عدم الاقتناع الراسخ بأولوية الملف البيئي وطنيا ودوليا، وحتى لا نكون مجحفين في حقه وحق حزبه وجب التأكيد على أن أغلب الأحزاب السياسية المشكلة للمشهد الحالي، وننحن على أبواب ثان انتخابات برلمانية في ظل دستور 2011، لا تملك شقا بيئيا ومناخيا في برامجها المقدمة للمواطنين، بسبب قلة بل غياب الخبراء الحزبيين في المجال وبسبب غياب المعلومة الدقيقة التي تنبني على أساسها تصورات برامجية جيدة ومتماسكة يمكن تقديمها في الانتخابات، وقابلة للتطبيق بما يتلاءم مع التزامات المغربية وانخراطه في الدينامية الدولية الحالية بما تحمله من تحديات ومخاطر. وضعف الوعي الحزبي بهذه الرهانات الإقليمية والدولية الخارجة عن نطاق الحدود الجغرافية والسياسية، يجعل المواطن المشارك أو المتفرج في الحياة السياسية الوطنية يشعر بإحباط مضاعف تجاه نخبة سياسية وحزبية خذلته في أدنى حقوقه الاجتماعية والسياسية، فما بالك بالحقوق البيئية. لكن هذا الإحباط لم يستطع بعد النيل من رغبة المواطن في المشاركة والإبداع والتغيير اقتداء بما يراه في بلدان أخرى واقتناعا بأن له دورا في المجتمع ولو بسيطا، وهذا ما أبانت عنه دينامية المجتمع المدني في كثير من أحياء المدن المغربية، حيث انخرطت عائلات وشيوخ وشباب وأطفال ونساء في حملات للتنظيف وإعادة الرونق والجمال لأزقة ومدن عتيقة كانت شبه مهملة ومهمشة. وفي الوقت الذي يخاطب المواطن البسيط والمهمش النخب السياسية بطريقة حضارية راقية ليخبرها أنه مستعد للتغيير الإيجابي بل هو من يصنعه ويساهم فيه استعدادا لاحتضان المملكة لقمة المناخ ال22، تستمر الأحزاب في رفع شعارات وخطابات نخبوية مبنية على المصلحة الانتخابية في نسيان أو تناس متعمد لأدوار التوعية والتأطير المنوطة دستوريا بهذه النخب. "المرء ابن البيئة التي يعيش فيه" كما قال جي دو موباسان، وحتى نضمن عامل الاستمرارية لهذه البيئة، يجب أن تشكل عقدا اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا جديدا يراعي مصلحة الجميع خارج الصراعات السياسية الضيقة والمصالح الآنية. وتحقيق تلك الاستمرارية يتأتى بزرع وترسيخ قيم عبر الأسرة والمؤسسات التعليمية بمختلف مستوياتها، بالعمل الحزبي والمدني، وبتحويل التصورات التشريعية والممارسة الجيدة في المجال إلى واقع فعلي. بهذه الطريقة يتحول الوعي البيئي من موضة تطلبها حدث دولي تحتضه البلاد، إلى طريقة عيش يقتنع بها المواطن ويمارسها بشكل يومي كيفما كان موقعه، وهي طريقة عيش لا تتطلب القطيعة مع الماضي بقدر ما تطلب إعادة قراءة جديدة لتراثنا الأخلاقي والروحي وتكييفه مع التطورات الإقليمية والدولية، القانونية والاقتصادية منها، حتى نساير الركب وننتقل إلى الفعل والإبداع وصناعة المستقبل. *دكتورة في سوسيولوجيا الهجرة