أصبحت إشكالية قراءة التاريخ تشمل الأحياء و ليس الأموات فقط، و خاصة إذا كانت الذاكرة قصيرة لا تستوعب الحدث القريب أحرى البعيد، و لا تحلل و لا تغربل، و ذات "أذن واحدة"، فإذا كنا نستطيع الكذب على الأموات فكيف نتهم و نبهت الأحياء دون بينة ؟ و لهذا كي نربط تجربة الأموات بالأحياء، سننبش في التاريخ القريب، لعل فيه من العبرة، و إمكانية البحث عن الخيط الناظم، و الإشكالية تتعاظم لأن الأمر يتعلق بشخصيتين حيكت حولهما الحكايات بين الاتهام و الإنصاف، ثنائية بين رجل السياسة و رجل الفكر التي لازالت مستمرة، و" للسياسة نسقها و سياقها ". ألم تكن استمرارية الدولة العثمانية تكمن في كسب ود العرب و المسلمين لمواجهة التدخل الأوروبي و مواجهة تفتيت السلطنة، من خلال شعار " الجامعة الإسلامية "، فكرة جمال الدين الأفغاني، فهل كانت " الجامعة " مكسبا سياسيا أم ضرورة دينية ؟ و هل لازالت نفس الرابطة تحرك تركيا أم للسياسة و الاقتصاد منطقهما ؟ أليست القضية الفلسطينية كامنة وراء الصراع التاريخي و الحالي؟ أي ألم تكن من الأسباب غير المباشرة للإطاحة بعبد الحميد الثاني حين رفضه لهجرات اليهود ؟ و أليست حمية العرب اليوم لتركيا هو موقفها من فلسطين ؟ عبد الحميد الثاني و مكر الأحداث: يعتبر عبد الحميد الثاني أقوى الخلفاء الثمانية و العشرين، الذين عايشوا مرحلة ضعف الدولة العثمانية خلال القرون الثلاثة الأخيرة من عمرها، الذي بدأ سنة 1299م، محاولا أن يستعيد قوة الدولة و هيبتها السابقة، كما عايش حركات دينية في العالم الإسلامي، بدأت منذ أواخر القرن الثامن عشر، و أهمها تجربة " جمال الدين الأفغاني". تولى عبد الحميد الثاني السلطة في سنة 1876 في ظروف قاسية للدولة العثمانية، حيث الديون و انتظار أوروبا " موت الرجل المريض" لاقتسام الثروة خاصة البترول، فقام بسياسة اقتصادية للتحرر من الديون و تبرع من ماله الخاص، و سدد القسم الأكبر منها، و أسس كليات و جامعات ومعاهد تخرج منها جيل من المثقفين، و دبت العافية في الجسم، لكن ظروف الحرب العالمية، و المشاكل الداخلية، خاصة تيار " الترقي" التتريكي الذي حارب المؤسسات الدينية، و الهزيمة الحربية و المعاهدات التنازلية ثم العلاقة بين السياسي و الفكري آو الديني، التي عجلت بفقدان الشرعية و سقوط الخلافة العثمانية، بتولي حكومة كمال أتاتورك بأنقرة سنة 1922. لن ندخل في تفاصيل الصورة المتناقضة التي تحكى عن السلطان عبد الحميد، و لن نتحدث عن النوايا، بل ننبش في الأحداث كمعطيات للتفكير و التحليل، و نلتجئ للتاريخ لفهم الحاضر. تشير بعض الدراسات أن السلطان عبد الحميد لم يقم بإعدام أو إغراق معارضيه السياسيين، و أكثرهم من الاتحاديين، في بحر" مرمرة " ( البوسفور) كما أشيع، فهي مجرد اتهامات أوردها ماسونيون و أعوانهم لتهميش نضاله ضد الصهيونية العالمية، ولأنه كشف مخططاتهم و مؤامراتهم و قاومهم طيلة مدة حكمه ( ثلث قرن). و تشير أيضا، هذه الدراسات، إلى حادثة ( 31 مارت) التي قتل فيها عدد من الاتحاديين، و هي عبارة عن حركة تمرد قام بها جنود و اشترك فيها طلبة المدارس الدينية و الصوفية و بعض المعارضين ل" الاتحاد و الترقي"، و اتهم السلطان أنه المدبر للحادثة و أن هدفه كان القضاء على الجيش و العودة إلى الاستبداد، و اثبت التاريخ أنها حجة لخلع السلطان. و من الأحداث التاريخية التي لازالت تلقي بظلالها على الواقع " مذابح الأرمن"، التي أثبتت التحقيقات أنها من صنع الصهاينة في الباب العالي خاصة المجموعات الماسونية، و كانت الثورات من تشجيع الروس و الانجليز، و الدول الغربية تحاول طمس معالمها و إلصاق التهمة بالسلطان، متجاهلة مجازر الأرمن في حق المسلمين النساء و الأطفال. أما موقفه من فلسطين فالتاريخ يشهد رفضه للهجرات اليهودية إلى الأرض المقدسة، و يشهد محاولة استغلال هرتزل للضائقة المالية التي كانت تمر بها الدولة العثمانية، لكن السلطان يجيب أن ( عمل المبضع في جسمه أهون من أن يرى فلسطين تبتر )، فوجهت هذه الرشوة ل" الاتحاد و الترقي" فأنجزوا مهمة خلع السلطان، و نفي إلى قصر " التيني" الذي يملكه صهيوني، إمعانا في الإذلال، إلى أن توفي سنة 1918، و بهذا يكون الموقف من القضية الفلسطينية من الأسباب التي أدت إلى سقوط الدولة العثمانية. السلطان عبد الحميد الثاني والسياسة الدينية: التجأ السلطان عبد الحميد إلى الطرق الصوفية لكسب شعبيتها الواسعة من تركستان إلى شمال إفريقيا لترويج فكرة " السلطان الخليفة " كشخصية دينية لا يجوز في حقها النقد و التجريح، و تقول بعض الروايات انه انتمى إلى الطريقة الشاذلية بدمشق، و بدت عليه آثار التقى و الزهد. و قرب إليه العلماء و الوعاظ و فتح المدارس الدينية و زاد من ميزانياتها و جعل لها حظا في مناهج التعليم، و أرسل البعثات إلى البلدان الإسلامية. و بنى و أصلح المساجد في مكة و المدينة و القدس، و أنشأ الزوايا، و شجع على الحج و ربط خطا بالحجاز تحت إطار الجامعة الإسلامية، و للإشارة أنه مشروع أنجز سنة 1901بتبرعات المسلمين في مختلف البلدان، و اعتبره البعض"ضربة خبير في السياسة "، فأبعاد هذا الخط جعل " مرشدي الحجاج" يتبنون فكرة الجامعة، فيروجونها في الحج و في بلدانهم. و كان يحتاط من دعوات الانفصال العربية، و من خلافة خديوية مصرية، و من الدعوة الوهابية في شبه الجزيرة العربية، و من دعاة بعض المصلحين إلى تعريب الخلافة الإسلامية، عبر كتاب " أم القرى " لعبد الرحمان الكواكبي أو " يقظة الأمة العربية " لغيره، أو بعض الدعوات لدولة غير دينية في الشام و العراق. و قد حاول السلطان أن يرفع من اقتصاد بعض الولايات ، خاصة سوريا، لتكون بديلا عن الولايات المفقودة في آسيا و افريقيا و البلقان، كما أسند وظائف كبرى في الدولة لشخصيات عربية، كخير الدين التونسي. في إطار هذه السياسة الدينية و في إطار التقرب للعلماء كانت دعوة الأفغاني للآستانة استمالة و استدراجا إلى مشروع السلطان في إطار " ضيافة سياسية " كان وراءها بعض شيوخ السلطان، كأبي الهدى الصيادي الذي نقم على الأفغاني و اعتبره مبايعا للخديوي، فتم تشديد الرقابة عليه، خاصة بعد أن رفض منصب شيخ الإسلام و طالب بالإصلاحات داخل البلاد.، و أصبحت الدسائس تحاك له و وجهت إليه تهمة " التشيع " و المروق من الدين، و لم يعد يسمح له بالسفر فكان " أسرا مموها بالذهب "، مات بعده 1896، و دفن من دون احتفال، في مقبرة مجهولة، و صودرت كتبه و الصحف التي رثته في الشام. أما بعد : كانت "الجامعة الإسلامية" تيارا فكريا و سياسيا، غايته مواجهة التحديات الداخلية كالتخلف و الصراعات و خارجية كالاستعمار، بمنظور جمال الدين المخالف للسلطان عبد الحميد الذي يعتبرها تجمعا سياسيا تحث إمرته و قد تبلورت لديه أثناء حجه إلى مكةالمكرمة سنة 1857، حيث أنشأ بها جمعية " أم القرى" و ضمت فعاليات من أقطار مختلفة، و ظل ينشرها عبر الدول إلى أن استقر بباريس و أصدر بها مجلة " العروة الوثقى" 1884. و كانت دعوة الأفغاني إلى " الآستانة " العاصمة، إقامة جبرية لمفكر يصدح خارج السرب، و لابد أن " يأتي إلى المركز أو ينقل إليه "، إنه استدراج سياسي أكثر منه فكري، أو هو بالأحرى،" ضيافة سياسية " تفقد فيها الذات حريتها، و قد اختلفت الضيافات السياسية في التاريخ حسب الضيف و المضيف و نوعية المأدبة، بل يمكن القول ومن خلال قراءة التاريخ أن التعامل مع المفكرين بالاستبداد، الأفغاني نموذجا، كان من الأسباب التي عجلت بسقوط الخلافة العثمانية و عدم تحقيق المشروع الوحدوي أو بالأحرى استمراريته.