تحدثت المصادر التاريخية المختلفة للعصر الوسيط حول رباط تازة والأهمية التي احتلها منذ عهود الأدارسة والإمارات الزناتية (أهمها إمارة موسى ابن أبي العافية المكناسي أمير "تازة وتسول" مثلما ينعته العلامة ابن خلدون). فممر تازة شهد موجات الهجرات وتحركات القبائل والجيوش والقوافل التجارية منذ أقدم العصور، لأنه من الوجهة الجغرافية منطقة حوضية تفصل بين سلسلتي الأطلس المتوسط والريف بكل الصعوبات التضاريسية التي واجهت الإنسان في هذه الناحية. كما عرف نزوح المجموعات القبلية منه وإليه وعبره، حتى إن مجمل الدينامية التاريخية في عصر الدول الوسيطية (الأدارسة- الإمارات الزناتية- المرابطون- الموحدون- بنو مرين- الوطاسيون...) قد حامت حول شرق وشمال شرق البلاد وممر تازة. في العصر الموحدي أطلق على تازة اسم "الرباط" وعُدت ثاني موقع لهم أقاموا به، بعد أن أصبحت تينمل بعيدة عن مراكز البلاد، وفيها قرر عبد المومن إنشاء أول مسجد جامع بنته دولته الفتية بالمغرب الأقصى. وخلال هذه الحقبة التاريخية كان مركز المدينة في الحي الشمالي (الجامع الكبير)، ثم أعقب عبد المومن الإنجاز ببناء السور الموحدي الماثل بها الآن ومعه أبراجه. وبذلك طغى الطابع المحصن على المدينة، ولم يكن لمفهوم الرباط البعد المعروف؛ أي المجال الديني التعبدي بالنسبة لتازة، بل غلب عليه الطابع العسكري، ولذلك كانت المدينة تتعرض للغزو والحصار في كل مرة، لأن السيطرة عليها تعني التحكم في الممر الخطير إياه. جميع هذه التحركات والعوامل التاريخية خلفت آثارها على المنطقة وخاصة على رباط تازة عسكريا أولا، ثم فكريا وعمرانيا وحضاريا ثانيا. مادام حديثنا سيتركز حول إحدى المعالم العمرانية بتازة، والتي تخلفت عن المرينيين ومعها مختلف الحقب التاريخية الوسيطة والحديثة التي مرت بها، (ونقصد بالأساس العصرين المرينيين الأول والثاني)، فإن همنا في هذا المقام يرتكز على تقديم بعض العلامات البارزة التي تؤكد أن تازة كانت حاضرة أو على الأقل قاعدة سلطانية بموقعها الاستراتيجي ومعالمها العمرانية والعسكرية؛ حيث استطاعت حماية ظهور بني مرين من هجمات منافسيهم بني عبد الواد بتلمسان. وهكذا، فإضافة إلى حركاتهم العسكرية في اتجاه المغرب الأوسط وإفريقية وصراعهم مع الموحدين لأزيد من نصف قرن، فإنهم جعلوها (بعد ترسيخ ملكهم وتوحيد المغرب الأقصى) منتجعا يقيمون فيه فترات من العام، فأدخلوا إصلاحات هامة على المسجد الأعظم بإضافة صحنه الأكبر الشرقي والزيادة في تنميقه بالمنمنمات والنقوش والأساكيب والأقواس والزخارف والبلاطات التي تركز على الآيات القرآنية بالخط المنحوت على الجدران والأروقة وفي المحراب؛ حيث نلاحظ الحضور القوي للفن الأندلسي، وذلك بدءا من سنة 691 هجرية. وتوجوا كل هذا الإصلاح والتوسيع بوضع الثريا الشهيرة سنة 694 هجرية، وذلك بعد غزوة طويلة بالأندلس قام بها السلطان أبو يعقوب يوسف المريني في مواجهة نصارى قشتالة كانت سجالا بين الطرفين، وذلك كرد فعل على نقض سانشو، ملك قشتالة، للصلح الذي تم مع المرينيين في عهد أبي يوسف يعقوب المنصور المريني، وانتهت الحملة سنة 691 هجرية. والمعروف أن الثريا صنعت بالأندلس وجلبت من هناك إلى تازة، وثمة ثريا مجاورة بالمسجد نفسه أصغر حجما، يعتقد بأنها في الأصل كانت ناقوسا في إحدى الكنائس الإسبانية. كما أنشؤوا بتازة الحمامات والفنادق والدور والقصور والمدارس (المدرسة الحسنية بالمشور ثم العنانية بأنملي). وعادة ما كان سلاطين بني مرين يعينون أحد الأمراء عاملا أو خليفة لهم على تازة، بل كانت إقامة سلاطينهم بهذه المدينة متلازمة مع مبادراتهم وحركاتهم العسكرية شرقا وغربا نحو تلمسان وباتجاه عاصمتهم فاس. وخلال الفترة التي تهمنا أكثر (النصف الثاني من القرن السابع إلى نهاية القرن الثامن الهجري)، فقد اهتم السلاطين المرينون أيضا بالأوضاع في الأندلس ومنهم أبو يعقوب يوسف الذي ينسب إليه توسعة المسجد الأعظم الموروث عن زمن الموحدين، وكذا تعديل ووضع الثريا الشهيرة. وفي الفترة نفسها، بنيت الكثير من المنشآت المرينية أبرزها القصر السلطاني، وتؤكد القصيدة الشهيرة المكتوبة تحت الثريا الحقيقة التاريخية نفسها بالنسبة للمسجد والقصر معا من خلال هذا البيت: أُفرغت في قالب الحسن البديع كما ** شاء الأمير أبو يعقوب إذ أمرا تقع هذه السنة في صلب فترة حكم السلطان المريني أبي يعقوب يوسف، والتي امتدت من 685 إلى 706 هجرية (1286- 1307 م)، وهو الأمير المريني الذي اهتم كثيرا بتازة، ويعتبر أول من هذب ملك بني مرين وأكسبه رونق الحضارة وبهاء الملك، والمعروف أن أولية بني مرين تمثلت في نشاطهم الرعوي عبر مناطق زناتة بحوض ملوية وحتى ممر تازة، مما أضفى على بدايات دولتهم شيئا من خشونة البداوة، فكان الأمير أبو يعقوب إذن أول من نقلهم إلى رقة الحضارة. عُرف عصره بالرخاء رغم بعض الثورات والحروب بالأندلس وصراعه ضد يغمراسن بن زيان بتلمسان، وتُحسب العديد من المنشآت والمآثر لهذا السلطان المريني كمساجد فاس الجديد وقصبة تطاوين وعدد من الجسور، علاوة على مدينة المنصورة التي أسسها أثناء حصاره الطويل الشهير لمدينة تلمسان ما بين 698 و706 هجرية؛ أي حتى نهاية عهده. ومن أبرز هذه المنشآت القصر السلطاني بتازة الذي ذكره أكثر من مؤرخ للفترة ووصفه ابن خلدون بأنه "دار الملك" في معرض حديثه عن رد فعل السلطان أبي العباس المريني حين تم تخريب ذلك القصر من طرف أبي حمو بن أبي يعقوب من ذرية يغمراسن بن زيان حكام تلمسان حينما حاصر تازة لمدة سبعة أيام، لكنه ارتد على عقبه في بحر سنة 786 هجرية في سياق مواجهته على رأس عرب أولاد حسين والمعقل للسلطان المريني أبي العباس أحمد. بنى قصر تازة (أمر ببنائه) السلطان المذكور سابقا نفسه؛ أي أبو يعقوب يوسف المريني، سنة 696 هجرية؛ بمعنى بعد توسعة المسجد الأعظم (بسنتين تقريبا) والتأنق فيه ووضع الثريا، وهو يقع شمال شرق هذا المسجد، وواجهته التي صمدت عبر الحقب التاريخية كانت تطل على الباب الشمالي الشرقي للمسجد (المخصص للنساء حاليا والواقع بزنقة سيدي عبد الجبار قبالة درب راس المسيد)، علما بأن وجهة القصر ككل كانت منحصرة في الزاوية الشمالية الغربية من تازة على مشارف برج وباب الريح، وما زال الحي أو الدرب الذي كان يوجد به هذا القصر يسمى إلى حد الآن "درب السلطان"، ولا شك أن المقصود هو السلطان أبو يعقوب يوسف. حقيقة وجود قصر فخم للمرينين بتازة يدعمها أيضا باحثون أجانب وفرنسيون. فقد كان للمرينيين- مثل الموحدين- وحسب تأكيد هنري تيراس H.Terrasse، قصر بجوار الجامع الكبير، ولم يبق من هذا الحي المخزني إلا بعض أجزاء الجدران، وقوسا قريبا جدا من المسجد، مفصص من القرميد (نمط بناء مريني أندلسي)، وساكف من خشب الأرز المنقوش يعود إلى القرن 14، وإذا اتجه الزائر حاليا إلى الحي الشمالي لتازة، والمعروف أهله ب"موالين الجامع" (المقصود الجامع الكبير أو المسجد الأعظم) وتتبع الزائر حي جامع الكبير باتجاه باب الريح والعريصة عبر درب سيدي عبد الجبار وقبل أن يصل إليهما ينعطف يسارا نحو درب جانبي غير موصل يسمى إلى حد الآن "درب السلطان"، لا شك أنه سيشاهد وبالضبط نفس ما وصفه تيراس H.Terrasse؛ أي ما تبقى من الواجهة الأمامية أو البوابة الخارجية لقصر السلطان يوسف بن يعقوب المنصور المريني. وقد كان نفسه مقر إقامة سلاطين بني مرين على الأقل إلى حدود 786 هجرية؛ أي الفترة الأولى لحكم السلطان أبي العباس، وهي السنة ذاتها التي شهدت تخريب هذا القصر (تخريبه وليس تدميره كليا) من طرف أبي حمو الزياني الذي حاصر تازة لمدة أسبوع في إطار الصراع الزياني المريني، الشيء الذي أدى بالسلطان المريني، في المقابل، إلى تخريب قصور وأسوار تلمسان. وكان ابن خلدون قد أطلق على تازة وقصر السلطان نعت "دار الملك بتازا"، ويبدو أنها تسمية لا زمت القصر مدة تاريخية لا يستهان بها، كما أن نعت "دار السلطان" عمر كثيرا، بل إن عبارة "درب السلطان" نفسها التي أطلقت على هذا الحي وهو يحتوي القصر المذكور ما زالت متداولة إلى حد الآن؛ أي بعد مرور أزيد من 700 سنة على بنائه، مما يؤكد جميع القرائن التاريخية والمادية التي نحن بصددها. لقد التبس أمر هذا القصر المريني على الكثيرين قديما وحديثا حتى اعتقد الإسباني مارمول كارباخال أنه يوجد ضمن القلعة الجميلة أو القصبة جنوب شرق تازة (موضع البستيون حاليا)، ويبدو أنه خلط بين قصبة العامل، أو مقر الوالي، وبين القصر السلطاني المريني، لأن القصبة المذكورة كانت تشتمل فعلا على دار كبيرة لخليفة السلطان (على الأقل في فترة الوطاسيين)، لكن لا علاقة لهذا بذاك. فالقصر السلطاني شيء والقصبة مقر الخليفة السلطاني شيء آخر، والخلط نفسه وقع لآخرين، ومنهم أبو بكر البوخصيبي الذي تصور واهما أن القصر المخرب من طرف أبي حمو الزياني هو قصر عين أنملي، ولم يوجد على مر التاريخ أي قصر في هذا المكان؛ أي أنملي، جنوب شرق المدار الحضري لتازة/خارج الأسوار، وإنما هناك قصبة حديثة نسبيا (تعود إلى الوطاسيين على أبعد تقدير والمقصود ما تبقى من أسوار حول فندق فريواطو)، وهي تحيط بالمدرسة العنانية التي من المحتمل أن تكون هي زاوية أنملي وليس قصر أنملي. كما سبق القول، فقد شهد هذا القصر الكثير من مشاهد الحياة السياسية واليومية في عصر بني مرين، ونذكر هنا زواج الأمير أبي الحسن الذي عقد له والده السلطان أبو سعيد سنة 731 هجرية على فاطمة بنت أبي بكر بن يحيى الحفصي، وكان الحفصيون بتونس على ود مع المرينين بفاس، خاصة في فترة حكمهم الأولى (بلغ الأمر ببني مرين حد تقديم البيعة للسلطان الحفصي منذ عهد أميرهم عبد الحق بن محيو). وتدخل هذه المصاهرة، كما هو واضح، ضمن خطة محاصرة بني عبد الواد شرقا ومن أجل وضع حد لمضايقتهم التي استمرت منذ 712، وكانت أهم محطات هذا التحالف انتصار أبي سعيد على بني عبد الواد بملوية في السنة نفسها؛ أي 731هجرية. واستغل مناسبة انتصاره ليتم له ما أراد من زواج ولي عهده بالأميرة الحفصية، فتبادل الطرفان الوفود. وكان الوفد المريني مكونا من إبراهيم حاتم العزفي والقاضي أبي عبد الله عبد الرزاق، فلم يكن من السلطان أبي بكر هو الآخر إلا أن يكون جهاز ابنته بما وصفه صاحب العبر، "ورست أساطيل وفود الحفصيين وهداياها الكبيرة الثمينة بمرفأ غساسة؛ حيث انتقلت إلى مدينة تازة في حفل عظيم وبهيج"، (الوصف للمؤرخ عبد الكريم الفيلالي من كتابه "التاريخ السياسي للمغرب الكبير)، لتجد قصر السلطان أبي سعيد وقد كساه من الزينة ما تفننت فيها عقول وأفكار الحاشية، كبيرا وصغيرا، خصوصا وأن أبا سعيد قد أعد لهذا الزفاف ما يفوق الوصف تقديرا لوالد العروس السلطان الحفصي حتى أثر عليه الإجهاد فأصيب بمرض النقرس وتفاقمت حالته عند عودته إلى فاس؛ حيث وافاه الأجل في أواخر ذي القعدة 731 هجرية ووري بمقبرة شالة المرينية ... فكانت بيعة ولي العهد أبي الحسن مقرونة بالزفاف البهيج، وقد بلغ المغرب في عهده الحدود السابقة للموحدين إلى رقي حضاري وعمراني وفكري قبل أن تتدهور الأمور أواخر عهده. في كل مرة ينتجع أو يقيم سلاطين بنو مرين بتازة، بل ويأخذ بعضهم البيعة بها كما هو شأن أبي يوسف يعقوب، ظلت تستقبلهم دورها وقصورها، وخاصة القصر السلطاني الذي نتحدث عنه، ولم تكن المهام والأنشطة مقصورة على تجييش الجيوش والحركات لرد هجومات بني زيان بتلمسان وردع الطامعين في السلطة من هذا الطرف أو ذاك، بل امتدت إلى إحياء أفراحهم وأقراحهم. ففي سنة 793 هجرية، وصلت إلى قصر تازة هدية السلطان المملوكي الظاهر برقوق إلى السلطان أبي العباس أحمد المريني، فأعظم موقعها- كما يقول ابن خلدون- "وجلس في مجلس حفل لعرضها والمباهاة بها وشرع في المكافأة عليها بمتخير الجياد والبضائع والثياب حتى إذا استكمل من ذلك ما رضيه وعزم على بعثها مع يوسف بن علي حاملها الأول وإنه يبعثه بها من موضع مقامه بتازا اخترمته المنية دون ذلك". من دون شك، تأثر قصر ودرب السلطان في تازة بمختلف الأحداث الكبرى التي تعاقبت على المدينة والمنطقة، من فتن وحروب وجوائح، بل وزلازل أيضا، غير أن ما تبقى من القصر ما زال يحتفظ بطابعه الأصل ومن خلال نمط البناء بالدرجة الأولى، ومعه درب السلطان كمعلمة من شبكة المعالم المرينية بتازة، مثل الصوامع والمساجد والأضرحة والأسوار والأبراج والأبواب والقصبة وما تبقى من الفنادق. ومع ذلك فقد عرفت أطلال القصر السلطاني حالة من الإهمال خلال فترة الحماية، رغم أن الفرنسيين كانوا أول من فك لغز القصر المريني بما يوافق الكتابات التاريخية للفترة أو المراجع المعنية، وحاليا تحول ما تبقى منه إلى إقامة سكنية، وبقيت واجهته فحسب تحكي تاريخ مدينة ظُلمت أضعافا مضاعفة.