المهمة الصعبة التي على تركيا (شعبا وحكومة ) النجاح فيها بعدما نجحت في إسقاط الإنقلاب وتوقيف الإنقلابيين هي واجب تحقيق التوازن بين أمن البلاد وحقوق العباد ، فالتماس الأمن قد يغري المتغلب بالانتقام من خصمه ، وأشد أشكال الانتقام قسوة وظلما هو ذلك الذي تقنن له القوانين وتستصدر له التشريعات ، وتجيش له مشاعر الجموع الغاضبة التي قد تطالب بالعقاب وبالتنكيل وبالإعدام ، ثم لا يكاد يشفي غليل الغاضبين شيء ولا مصادرة الممتلكات ولا حظر العزاءات ..... وهنا يكون الحاكم مجبرا - وباسم الديمقراطية - على الإشراف على حفلات الإعدام بالتقسيط وبالجملة ولقد قرأنا ونحن صغارا ذلك الزجر الإلهي المحذر ( كلا إن الإنسان ليطغى ) وأفهمنا معلمونا أن كل إنسان- مهما كان انتماؤه - معرض لأن يكون طاغية بحسب موقعه في المجتمع والسلطة ، لذلك يتعين الحذر في كل ظروف القوة والضعف والأمن والخوف .......وربما كان مما قد يؤدي إلى الطغيان تحول جماعة فتح الله غولان - في اعتبار القيادة التركية -من حليف إسلامي رسالي إلى خصم سياسي منافس ، إلى جماعة إرهابية ينبغي استئصالها من جذورها ....نعم ،قد تثبت الأدلة تورط بعض أعضاءها في المحاولة الإنقلابية لكن أن تكون هي جماعة إرهابية في ذاتها فذلك ما لم نلمسه في أدبياتها وفكرها ، ويتطلب الأمر إقناع المثقفين والمتابعين من خلال كتابات الزعيم وتصريحات الأنصار وليس ذلك بالأمر السهل ولا اليسير ، وهكذا ، فما أرى إلا أن متابعة المائات من عمداء الكليات وأساتذة الجامعات وموظفي الإدارات .....إلخ بتهم ثقيلة إلا شطط يذكرنا بشطط الانقلابيين الذين شيطنوا معارضيهم وزجوا بهم في المعتقلات ...إن الانزلاق إلى " الطغيان " قد يفسد المشروع التركي الجديد برمته ولا ينفعه في شئ ، هذه واحدة والثانية : كل طالب قانون يدرس في سنواته الجامعية الأولى تفاصيل قاعدتين قانونيتين أساسيتين ، الأولى :" المتهم برئ حتى تثبت إدانته " ، وذلك يعني ضرورة حفظ كرامة المتابعين حتى يصدر القضاء حكمه ....قد نفهم " ضرورات " المرحلة القاضية بضرب معنويات من لم يعتقل بعد من الانقلابيين والممكنة من عرض صور المعتقلين أمام العالم ، لكن هناك فارق جوهري بين أن تعرض صورهم على أنهم " أظناء " أو "متابعون " وأن تعرض على أنهم " انقلابيون " من قبل أن يصدر القضاء حكمه ، من دون أن نتحدث عن علامات الضرب الواضحة في وجوه البعض منهم مما يجعلنا نشك في تعرضهم للتعذيب " المبكر "، نعم ، ندرك جيدا أنه لو نجح الانقلاب لتكرر سيناريو مصر الفظيع ، أو حتى سيناريو سوريا الأكثر فظاعة وبشاعة ...لكن ندرك أيضا أن ما يطالب به القريب الديمقراطي أرفع بكثير مما يطالب به البعيد المتجبر ، ولا حاجة لنا بتحفظات الغرب على تصرفات القيادة التركية فلقد علم الجميع نفاق الغرب وضياع مصداقية أغلب "زعمائه" في عيون الأحرار في بلداننا وبلدانهم . القاعدة القانونية الثانية هي :" ليس للقانون أثر رجعي " فالعدل يقتضي متابعة المتهم بالتشريعات الجارية وقت صدور الفعل منه لا التي صدرت بعد صدور الفعل ، إذ القانون تعاقد اجتماعي ، والعقد شريعة المتعاقدين ، وكل سعي لاستبدال تشريع بآخر بغية تخفيف العقوبة أو تشديدها هو سعي مناف للعدالة وللعقل والدين حتى ولو كان هذا المستبدل هو البرلمان نفسه أو الشعب ذاته ، وكل تشريع ينافي العدل هو تشريع ظالم سواء صدر باسم الديمقراطية أو باسم الدين أو باسم الثورة أو غيرها من الشعارات... ولا أرى الدعوة إلى تغيير القوانين بما يلائم إصدار أحكام الإعدام إلا تشويها لصورة تركيا في عيون محبيها ، الانقلاب على الشرعية جريمة ، والعدالة تجاه المجرمين واجب . *رئيس جمعية المسار [email protected]