لاشك أننا نقرأ ونتابع جميعا بين الحين والآخر في الصحافة ووسائل الاعلام الوطنية، تغطية لتقارير دولية صادرة عن مؤسسات مختصة في قياس وتصنيف جودة التكوين والبحث العلمي في الجامعات والمؤسسات الأكاديمية الراقية على المستوى العالمي، وأحيانا العربي والإفريقي،وغالبا ما يستوقفنا في هذه الوثائق،ذلك الترتيب المتواضع أو المتأخر للجامعات المغربية في سلم الجودة والأهلية العلمية الدولية.وبطبيعة الحال فلا أحد يرضى بهذا الوضع غير المشرف. ومما لا شك فيه أن الأجوبة السريعة والسطحية التي يمكن أن يقدمها هذا أو ذاك،تزيد في تأزم اوضاع الجامعة ولا تنفع إلا في تأبيد مشاكلها واختلالاتها. من أجل المساهمة في تحليل هذا الوضع وتوضيح مكامن الخلل واستشراف آفاق ممكنة لتغييره، أكتب هذه الورقة من وحي مواقفي الشخصية التي احتفظ بصلاحيتها لنفسي، لأعبر عن رأيي كما أومن به. سأعالج في هذه الورقة أهم الاكراهات الكبرى التي تبدو لي ضرورية في تفسير ورصد أهم العوامل التي تؤثر في واقع الجامعة المغربية من خارجها.وسأقول في مقدمة هذا الرأي أنني أعتني بهذا الموضوع لعاملين جوهريين: أولا – بصفتي مواطنا أومن أن الأزمات الحادة للجامعة المغربية جزء من أزمة مجتمع كامل ودولة قائمة.وأنا اتتبع عن قرب مسلسل التحديث البطيء والمتعثر في هذا البلد العزيز وافهم جيدا أعطابه وأسباب فساده.ولذلك فأنا اعتبر انه كلما ظلت الجامعة غائبة عن اهتمامنا وبشكل خاص عن اهتمام المسؤولين والأوصياء على القطاع،أو بعبارة أدق،مادام هؤلاء لا يستطيعون امتلاك رؤية حداثية حقيقية تعتني بالجامعة كقطاع استراتيجي ،سنخسر نقطا لا حصر لها في سلم التقدم والتنمية بمفهومها الشامل،وسنظل نخسر نقطا باستمرار. ثانيا- بصفتي المهنية،باعتباري اشتغل في قلب الجامعة منذ أربع وعشرين سنة.وبعبارة أخرى،باعتباري أحد مكوناتها.ولهذا بالضبط،،فمستقبل الجامعة يهمني عن قرب،بل يستفزني منذ مدة طويلة. ويخلق لدي اسئلة تقلقني ،عن هويتي المهنية وضميري المهني. ولا اكاد أرتاح وأرضى بقميص الباحث الجامعي الذي البسه،كيفما كانت الأجوبة والمبررات التي اقدمها لنفسي . لهذا،أرى نفسي مطالبا بالتعبير عن موقفي. -أريد في البداية ان اطرح سؤالا عاما : لماذا تحتكر الجامعات الأمريكية والجامعات الأنكلوفونية بجوارها، صدارة الترتيب بشكل دائم؟ 1- سأقول أن من يهيمن على الاقتصاد العالمي بصناعته وتكنولوجياته الفائقة، هو نفسه من يهيمن على العلم الأقوى في العالم وهو نفسه الذي يمتلك شفرات العلم وينتج البحوث والدراسات الأكثر تداولا وإشعاعا والأكثر احتكارا للمشهد الأكاديمي العالمي،وبالتالي فهو من يحدد ما هي لغة العلم الأولى.ولنكن متيقنين ان البحوث العلمية التي تحرر وتنجز بلغات أخرى لا تقل جودة علمية عن نظيرتها المحتكرة للمشهد الأكاديمي.ومن له المام بسيط بالنظريات السوسيولسانية الكبرى في علم الاجتماع اللغوي سيفهم جيدا ما اعنيه (ماذا تعني قوة لغة وضعف اخرى) .وإذا كان بيير بورديو قد حلل السياقات السوسيولوجية لما يسميه بالكلام المشروع والكلام غير المشروع،أرى أنه يحق لي ان أتحدث في هذا السياق، عن لغة علمية مشروعة ولغات علمية غير مشروعة،أو مشروعة فقط بشكل نسبي .هنا يوجد عامل جيو سياسي قوي تقف وراءه مصالح دولية ثقيلة،ومؤسسات ولوبيات ضخمة وعملاقة، ومتعددة الجنسية تحتكر ما يمكن ان أسميه: شفرة العلم وأبناك معطياته السرية،وتتداوله في فضاءلت مغلقة، في ضوء استراتيجية ذكية جدا.وهذا العامل يفسر بجوار عوامل اخرى بطبيعة الحال، قوة المؤسسات العلمية الأمريكية والمؤسسات الدولية الأخرى التي تدور في فلكها،وبالتالي تراجع ترتيب مؤسسات اخرى في بلدان متعددة، لا تقل عنها ذكاء ولا أهلية ولا كفاءة. وما دامت المؤسسات الأكاديمية المغربية تدور في فلك العلم والفضاء الأكاديمي الفرنكوفوني،فهذا سبب قوي في تفسير هذا الوضع،الى جانب اسباب أخرى بطبيعة الحال. والدولة لا تملك الارادة السياسية على أعلى مستوى للخروج من المنظومة العلمية الفرنكوفونية. وسأضيف عاملا آخر للتفوق الأمريكي،هو التصور الأمريكي البراجماتي للعلم،بالمقارنة مع الأوروبيين وخاصة الفرنكوفونيين منهم.أعني الكفاءات الكبيرة التي يمتلكها الأمريكيون للانتقال من العلم النظري الى العلم العملي.وأنا بمعرفتي المتواضعة،أقول أن الأوروبيين ينتجون في حقل الفلسفة والعلوم الانسانية عددا لا حد له من النظريات العلمية القوية،التي يحولها الأمريكيون بحسهم العملي الى تقنيات بحثية ودراسات ميدانية يحققون بها ريادة دولية لا يملكون أسها الفكري والنظري. 2- تشتغل الجامعات والمؤسسات البحثية الأكاديمية في الدول المتقدمة، في ضوء استراتيجية شمولية للدولة، لا تتأثر بالتقلبات السياسية والاجتماعية والإيديولوجية، لأن الأمر يتعلق بمصير شعب وأمة وبلد، أي بخطط طويلة الأمد لا يمكن التفريط فيها على الاطلاق.وتشتغل الجامعة المغربية على النقيض من ذلك تماما،بطرق ارتجالية وهشة ومتأثرة بكل التقلبات السياسية والاجتماعية وربما حتى الانتخابية للبلد(ليس هنك منذ الاستقلال، وزير في التعليم العالي يدخل الوزارة ليفعل مشروعا وطنيا قائما للتنمية العلمية والبيداغوجية ويبتكر في اطاره..هناك فقط وزراء مكلفون بمهام عابرة ومؤقتة،ا،بمعنى مكلفون بتدبير القطاع في أمن وأمان ،وهم اما صامتون ولا حياة فيهم،وإما يمارسون الثرثرة (وتسخين المزايدات السياسية أمام الكاميرا كما هو الشأن بالنسبة للوزير الحالي). ان الجامعة في الدول المتقدمة مشروع قومي قار وثابت الأسس،ولا تتأثر بقدوم مسؤول أو وزير يميني او يساري او من الوسط أو من أصقاع الانتماءات السياسية أو الدينية أو العشائرية.انها تدخل في عداد المشاريع المقدسة، لأنها مفتاح التنمية والتقدم الحضاري،وتسمو على كل المزايدات الايديولوجية البخسة.ومشروع الجامعة في المغرب مع الأسف لم يرق بعد الى هذا المستوى.فكيف نريده محققا لإشعاع دولي ؟ 3- ما دامت الجامعة في المغرب مؤسسة مفتوحة بشكل غير منظم وغير عقلاني لعمليات الاستقطاب المفتوح،فإنها لن ترتقي ابدا مراتب اكاديمية متقدمة.فهذا العامل بالذات يؤثر على جودة التكوين ويخلق مشاكل بيداغوجية واجتماعية لا حد لها داخل الجامعة، وهذا ينتج عنه اختلالات هيكلية مهمة جدا. تعتبر الجامعة على مستوى التكوين هي الحلقة الأضعف على المستوى الوطني، مقارنة مع مؤسسات التعليم العالي الاخرى ذا ت الولوج المحدود.وظاهرة التعليم العالي الخاص في السنين الأخيرة ستوجه ضربة اخرى للجامعة.والوزير الحالي قالها بالدارجة: (اللي بغا يقري ولادو،يضرب لجيبو ).وقد كان المطلوب من الحكومة اعداد مشروع وطني حقيقي لترقية الجامعة المغربية،في حين اختارت الحلول السهلة وشجعت المستثمرين المغاربة والأجانب على الاستثمار الضخم في قطاع التعليم العالي حتى في مجال الطب، مع أنه قطاع حساس جدا لا يمكن أن نفرط في طابعه العمومي اطلاقا. أتذكر منذ سنة كيف أن الوزير الحالي بدا فخورا ومنتشيا حين تم افتتاح فرع "المدرسة المركزية لباريس في الدارالبيضاء،وهي مدرسة للمهندسين تعتبر من المدارس الكبرى في فرنسا،كأنه قدم لنا انجازا تاريخيا غير مسبوق،وذلك على شاكلة التجربة الاماراتية لاستنبات السور بون أو هارفارد أو كامبريدج على اراضيها.وأنا لا أثق في مثل هذه المشاريع المستنسخة،لا تشكيكا في جودتها العلمية،بل ايمانا بأن المطلوب هو خلق وابتكار مؤسسات تكوين وبحث علمي وطني راق،لا اقتباس تجارب أجنبية على سبيل التقليد الذليل. 4- -يعتبر التعليم العالي في الدول المتقدمة مشروعا اجتماعيا واقتصاديا استثماريا ربحيا ومندمجا في الحقل الاقتصادي والمالي والمقاولاتي والمدني للبلد المعني.وكل الجامعات المتفوقة عالميا مؤسسات ليست مجانية،ومؤدى عن رسوم تسجيلها.اضافة الى أنها مراكز خبرة واستشارة علمية وتكنولوجية تبيع كفاءتها المهنية لمؤسسات تقبل على هذا النوع من الخدمات.وكل المشاريع البحثية والبيداغوجية التي يتم الاشتغال عليها داخل المؤسسات الجامعية،مشاريع مطلوبة من طرف المؤسسات المختلفة،بمعنى مشاريع استثمارية .هكذا يكون للجامعة دائما مداخيل ربحية قارة،يتم بها تحقيق جودة عالية في التكوين،اضافة الى تطوير مستمر لحقل البحث العلمي. فكيف يمكن أن ننتظر من مؤسسة تقدم تكوينيا مجانيا ولا موارد مالية أو مادية لها، ان تحتل الصفوف الأولى بين جامعات العالم. ؟ .أضف الى هذا مشاكل البيروقراطية والزبونية السياسية، والفساد الاداري لبعض المسؤولين عن الجامعات، في تصرفهم الكارثي بميزانية البحث العلمي.وفي بعض الأحيان،قد يقوم بعض رؤساء الجامعات بسهولة، بتحويل ميزانيات مخصصة للبحث العلمي،من أجل الصرف عن أسفارهم الباذخة وأنشطتهم "المباركة". وسأقول لكم بكل صدق وأنا ابن الدار، وأقد عايشت في حينه ظهور قانون ومراسيم الاصلاح الجامعي في 28 فبراير،وقد سعدنا في ذلك الوقت بكون هذا الاصلاح وسع من الصلاحيات الادارية والمالية والبيداغوجية للجامعات، وقوى مركز رئيس الجامعة،أن نتائج سلبية كثيرة ترتبت عن هذا الصلاحيات الموسعة، نظرا لأن ممارستها تتم في فضاء غير ديمقراطي وغير سليم على الاطلاق... 5- -اضافة الى كونها مشروعا للتعليم العالي،يمكن القول أن الجامعة في المغرب مشروع أمني من جهة ومشروع خيري من جهة أخرى.في الجانب الأول فالجامعة تلعب دورا محوريا في الحفاظ على التوازنات الاجتماعية وامتصاص كثير من أشكال الاحتقان والتوتر في الحقل الاجتماعي،خاصة في حقل الفئات الاجتماعية الدنيا ولدى الطبقة المتوسطة.وكثير من سيناريوهات اصلاح الجامعة تفشل بالضرورة، نظرا لاعتبارات امنية محضة.وبعبارة واحدة،فالجامعة ورقة سياسية في يد الدولة،أكثر مما هي مؤسسة علمية بالمقاييس المتعارف عليها دوليا. كيف يمكن أن نتصور أن يتم تأجيل تاريخ الاختبارات في مؤسسة جامعية،بعد احتجاج الطلبة على تاريخها بحجج ومطالب معينة،وقد كانت مقررة من طرف مجلس الكلية منذ مدة ؟ لعل هناك اعتبارات أمنية تؤثر على السير العادي للمؤسسات الجامعية،وتؤدي الى تراكم مشاكلها. وأنا أقول أن "الجامعة مشروع خيري" نظرا لمجانية التعليم بداخلها.والدولة تتعامل معها على هذا الأساس.وكثير من المطالب المادية واللوجستيكية التي تنجح النقابة الوطنية للتعليم العالي في تحقيقها تتعامل معها الوزارة الوصية كمكرمات وامتيازات، لا كاستجابة لحاجيات حقيقية للتنمية ولإصلاح المنظومة والرقي بها نحو الأفضل.وبنفس الأسلوب تتعامل أيضا مع مطالب الطلبة الجامعيين.(مشاكل ألاكتظاظ السكن-النقل........) ان الجامعة مشروع مرتجل في المغرب ولا تتم معالجة مشاكلها إلا بطريقة" الراميد" المعمول به في وزارة الصحة. ان الجامعة في المغرب،ان سمحتم لي بهذا النعت، هي " راميد " قطاع التعليم العالي .لهذا أسميها مشروعا خيريا واحسانيا الى حد كببر(هل تتصورون خلق مؤسسات جامعية بدون سكن جامعي.هل تتصورون ان الوزارة أعدت مشروع مراكز الدكتوراه دون استشارة المعنيين بذلك-الأساتذة الجامعيين.....) 6- هناك عامل آخر هو لغة التكوين والبحث العلمي..يعيش المغرب ما أسميه دائما بمعضلة لغوية مزمنة. وفي مجال التكوين،يعتبر مشروع التعريب الى حدود التعليم الثانوي بالكيفية التي تم بها تنزيله،وهو في نظري جريمة علمية في حق هذا البلد، مشروعا كارثيا على التعليم العالي وعلى الجامعة (وأنا لست اطلاقا ضد برنامج التعريب في حد ذاته) ،بحيث أدى الى ضعف فظيع في مجال اللغات والمهارات اللغوية وبالتالي الى ضعف التحصيل الأكاديمي وقلة جودته،وبالتالي فشل مشروع الجامعة المغربية التي يفترض انها تساهم في التنمية الاقتصادية والاجتماعية المطلوبة.لقد كان المطلوب قبل اقرار المشروع،الحسم في صلاحيته من عدمها وإعداده اعدادا راقيا يستجيب للفضاء الأكاديمي الوطني. ومع الأسف،كان المشروع لعبة سياسية محضة تلاعب بها مشرعوها ومنفذوها، وهم معروفون جدا.والتاريخ لن ينسى لهم ذلك.وهذا يعني بقوة ان التعليم في المغرب تعليم،ان لم يكن طبقيا أو فئويا،فهو على الأقل،لا يستجيب لشروط المواطنة العادلة والمساواة بين أفراد هذا الشعب التعيس. ليس البحث العلمي بالعربية مثلا بحثا من درجة ثانية على الاطلاق.فإذا انطلقنا من الحكم عل البحوث بنسبة اشعاع لغتها،لا شك أننا سنظلم كثير من الباحثين المقتدرين بتبخيس جهودهم المضنية واجتهاداتهم الرصينة. صدقوني لو تأتى ترجمة عدد لا حد له من البحوث والدراسات المنتجة بالعربية من قلب الجامعة المغربية، الى الانجليزية أو الفرنسية أو الألمانية لتغيرت قيمتها بشكل جذري،ولأخذت مكانها الطبيعي بين البحوث العالمية في ميدانها وتخصصها.لكن ما العمل واللغة هنا لا مكان لها في ساحة البحث العلمي الدولي.ولا يجب ان نوجه كامل المسؤولية للباحثين الذين يكتبون بها.فالمسألة تتجاوزهم الى حد بعيد ،لأنه لا توجد مؤسسات حقيقية وقوية تقف ورائهم. وبعبارة محددة أنا أقول،لكي تكون أكاديميا وباحثا علميا مرموقا ومحترما،عليك ان تكون منتميا لمؤسسة مرموقة ومحترمة. ان الدول التي حققت نجاحات كبرى في مجال التعليم والتعليم العالي والبحث العلمي،هي نفسها الدول التي لها خطة لسانية قارة ترافق كل مشاريع التكوين المعتمدة.انها كما قالها المرحوم المهدي المنجرة منذ مدة طويلة،الدول التي تمتلك رؤية واضحة للغتها أو لغاتها الوطنية،وتعتز بذلك.وفي المغرب نفتقد مع الأسف لهذه الرؤية وللجرأة المطلوبة قصد اقرارها. هل نجحت الجامعات ومراكز البحث العلمي الراقي في اليابان أو ألمانيا على سبيل المثال لا الحصر،بغير لغاتها الوطنية ،وهذه البلدان المتقدمة لا تنتظرنا حتى ننصحها بالعناية بالانجليزية كلغة أولى للعلم على المستوى العالمي ؟ فليصمت ذلك الوزير المكلف بقطاع التعليم العالي والبحث العلمي في المغرب،وليوقف ثرثرته السطحية جدا ؟ 7- تحتاج سياسة البحث العلمي،كما هو الشأن في جميع البلدان المتقدمة،الى اعتمادات مالية محترمة قصد ترقية هذا القطاع الحساس الذي يتطلب ميزانيات مهمة لأنها في الأصل استثمارات حقيقية لا فقط مصاريف ادارية عادية.كما تتطلب وجود مساطر وإجراءات ونصوص تنظيمية متقدمة،تهدف الى تحفيز الباحثين والأكاديميين على الابتكار والعمل المنتج.هنا أقول ما يلي : هل يوجد في قطاع التعليم العالي الوطني ميزانيات حقيقية موجهة لهذا الغرض؟وهل توجد آليات دقيقة ومتطورة وسلسة وعملية،من أجل تفعيل وأجرأة مهنة الباحثين الجامعيين وترقية اجتهادهم العلمي،ومكافئة جهودهم وتحفيزهم على العمل ؟ للحقيقة اقول أن هناك اعتمادات مالية ولوجستيكية موجهة لهذا الغرض لدى الجامعات الوطنية يتصرف فيها رئيس الجامعة كما يشاء ويحلو له،رغم تواضعها وعدم استجابتها للمهام العلمية المطروحة من جهة ولتطلعات الباحثين من جهة أخرى.غير أن المشكل يوجد بشكل آخر في بطئ وفساد مساطر توزيع هذه الأموال وقلة ترشيد صرفها مما يجعلها غير صالحة للمهام المرتقبة.بل ان فساد صرفها قد يؤدي الى ظهور مشاكل أخرى تؤدي الى تسميم أجواء العمل بين الباحثين أنفسهم. في التقرير السنوي القوي الذي اصدره المجلس الأعلى للتعليم سنة 2008، يسجل المجلس أن نسبة مساهمة المغرب في حقل البحث العلمي ، ما زالت ضعيفة على المستوى الدولي ولا تمثل سوى نسبة بلغت 0.87 في المائة سنة 2004 . في حين وصلت مساهمة جنوب إفريقيا في نفس الفترة، على سبيل المثال إلى 3.49 في المائة في نفس التاريخ ، كما وصلت مساهمة الشيلي والتايلاند على التوالي إلى 2.07 بالمائة و 1.65 بالمائة . وبناء على معاينة ميدانية ومعطيات إحصائية ذات مصداقية، يسجل التقرير مظاهر ضعف النظام الوطني للبحث العلمي كما يلي : -" البطئ في التأقلم مع التطورات السوسيو- اقتصادية والعلمية والتكنولوجية - ثقل البنيات التنظيمية - ضعف نتائج البحث فيما يتعلق بعائدات الإنتاجية والابتكار - محيط جامعي لا يشجع كثيرا على البحث والابتكار لا أعتقد على الاطلاق أن هذه الاكراهات التي رصدها المجلس الأعلى للتعليم سنة 2008،قد تمت معالجتها معالجة حقيقية ونحن في سنة 2016.لهذا فالأرقام الواردة في هذا التقرير ما زالت لها مصداقية اليوم. يشتكي الباحثون المغاربة دائما من قلة الإمكانيات وهذا صحيح الى حد كبير،بحيث يعتبر مجرد تفكير مختبر بحث في تنظيم ندوة وطنية او دولية، مغامرة غير مضمونة العواقب،لأن ادارة الكلية أو الجامعة تقول انها غير قادرة على تلبية مثل هذه الحاجيات.وهناك عددا هائلا من المشاريع البحثية الراقية التي ضاعت داخل الجامعة المغربية بفعل العوامل المشار اليها أعلاه. هناك أيضا فساد مساطر التحفيز والترقية الادارية المطبقة على الباحثين .وليس هناك اطلاقا قوانين تنظيمية فعالة وموضوعية،رغم وجودها بكيفية معينة على الورق، في ترقية الباحثين الذين يشتغلون بجدية وضمير مهني عال،حتى يواصلوا عملهم بنفس الحماس. وأنا أعرف كثيرا من الزملاء الباحثين توقفوا عن الانتاج العلمي والابتكار الأكاديمي،أو بحثوا عن وجهة أخرى،لإحساسهم بالغبن وقلة العناية بشخصيتهم الاعتبارية ومكانتهم العلمية.وكل هذه الاكراهات تحفز على الاستسلام والكسل واليأس.وليس غريبا ان تجد أساتذة باحثين كسالى ولا يقومون بأي شيء،لهم مرتبة ادارية أعلى من نظراء لهم يشتغلون بدون كلل .فهل يصح هذا الوضع الغريب في نظركم.؟ نحن نعرف جميعا ان قطاع التكوين العالي والبحث العلمي في الدول المتقدمة يشتغل لصالح من يعمل ويجتهد ويبتكر.وهذا النظام موجود في الولاياتالمتحدةوكندا وكل المؤسسات الأوروبية المرموقة،حيث يتم تفعيل معايير الجودة الى أقصى حد،سواء ما تعلق منها بالمساهمة في التكوين أو ما تعلق منها بتحقيق المردودية والفعالية العليا.وفي غياب هذا الشرط،،او على الأقل في ضوء تفعيله البيروقراطي السيئ أو البطيء،لا يجب أن ننتظر نهضة علمية حقيقية . أما شعار ربط الجامعة بالمحيط السوسيو اقتصادي،كما ينص ويشدد على ذلك القانون 00-01 المنظم لقطاع التعليم العالي والبحث العلمي وجملة المراسيم والقوانين التنظيمية الملحقة به،فليس له أي أثر ولا فعالية على تطوير القطاع. والتعاون أو الحوار الذي يفترض أن يجري بين القطاعين،أعني التعليم العالي والسوسيو اقتصادي يشبه حوار الصم والبكم،بحيث لا أحد يفهم لغة الآخر ولا مطالبه وشروطه وانتظاراته.وللتذكير فممثلو القطاعات المهنية والمدنية وغيرها في مجالس الجامعات، لا يكلفون أنفسهم في الغالب، حتى ،حضور الاجتماعات الدورية التي تنعقد باستمرار. 8- علينا ان نقول بصراحة،أن الدولة في المغرب لا تعطي للجامعة المكانة الاعتبارية اللائقة بها ولا تعترف بها كمؤسسة لإنتاج المعرفة والخبرة والعلم. كيف ذلك؟.سأطرح السؤال التالي : لماذا لا تطلب الدولة،حكومة ومؤسسات عمومية وشبه عمومية خدمات الجامعة المغربية،مفضلة اللجوء الى مكاتب دراسات أجنبية تؤدي لها ملايين التعويضات بالعملة الصعبة؟ لماذا لا تطلب الدولة خدمات وخبرات الباحثين الجامعيين المغاربة، حين تكون في حاجة ادراسات وأبحاث ومشاريع في تخصصات علمية دقيقة،سواء في حقل العلوم الدقيقة أو في حقل الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية والإنسانية،وهي تخصصات تمتلك فيها الجامعة المغربية خبرات أكاديمية عالية ؟ سأقول على سبيل المثال لا الحصر،لماذا تتجاهل الدولة خدمات باحث جامعي مرموق في الاقتصاد والفلاحة وهنا يحضرني اسم نجيب أقصبي،وهي تنجز عشرات المشاريع الضخمة في هذا المجال كبلد زراعي بالدرجة الأولى،مستشيرة خبراء أجانب،في حين أن أقصبي انجز دراسات واستشارات كثيرة لصالح مؤسسات دولية على رأسها البنك الدولي ؟ وما قلناه على أقصبي ينطبق على مئات الجامعيين المغاربة ،وفي كل التخصصات.لماذا كانت الدولة تتجاهل خبرة المرحوم المهدي المنجرة الذي كان له مقام راق في عدد كبير من المؤسسات الدولية في مجالات اشتغاله الأكاديمي ؟ صدقوني،في داخل الجامعة المغربية باحثون وأكاديميون مغاربة مرموقون يليقون بأعتى المؤسسات العالمية الراقية ولهم كفاءات عالية الجودة بالمقاييس الجامعية العالمية.وهم مطلوبون من طرفها في الشرق والغرب. لماذا ينجح الباحثون المغاربة في أعمالهم ومشاريعهم العلمية،بل ويحققون درجات علمية عالية جدا في الخارج،وهم ينتمون الى أرقى المؤسسات العلمية العالمية،،ولا نكاد نسمع صوتهم أو نفهم عملهم بالضبط داخل المغرب.؟ ليس المغرب محتاجا الى أدمغة وعلماء وخبراء ،بقدر ما هو محتاج لإرادة سياسية جريئة على أعلى مستوى في الدولة، في مجال التكوين والبحث العلمي في قطاع التعليم العالي.ان المطلوب هو خطة وطنية غير ظرفية وغير مزاجية وغير تبعية لنماذج مستنسخة،تشتغل على أوسع نطاق تكون بمقام استراتيجية شمولية لتحقيق النهضة والتنمية الوطنيتين،دون أن تتأثر بالتقلبات السياسية والحزبية والدينية والاجتماعية لهذا البلد العزيز.انها استراتيجية ترهن مستقبل شعب كامل ومصير مجتمع يهفو نحو الأفضل . أتذكر في هذه اللحظة صديقي البروفيسور مصطفى بوسمينة (صديق منذ مرحلة الطفولة والأقسام المدرسية الأولى) ،وهو فيزيائي دولي مشهور ومرموق في تخصص(النانوتيكنولوجي)،عاش أكثر من عشرين سنة في كندا أستاذا بارزا في جامعاتها الراقية،وحصل في مساره العلمي المتميز على ما يفوق عشرين جائزة أكاديمية راقية،كندية وعالمية.وهو مستشار أو خبير أو عضو مجلس ادارة وتدبير في عشرات المشاريع والمؤسسات البحثية العالمية، وليست وكالة الفضاء الأمريكية "نازا" آخرها. عاد الى المغرب منذ سنين قليلة(لا تزيد كثيرا عن عشر سنوات) تلبية لنداء شخصي من الملك محمد السادس،وهو الآن مكلف بمجموعة كبيرة من المهام والمشاريع في مجال الصناعة والبحث العلمي والتكوين البيداغوجي في أكاديمية المملكة وغيرها،ليس آخرها مشروع تصميم وانجاز ورئاسة الجامعة المتوسطية الدولية بفاس. وأتذكر أيضا اني كنت في زيارة له بمنزله في الرباط منذ ثلاث أو أربع سنوات،فدعاني بعد وجبة الغذاء لأرافقه إلى المعهد الوطني للنانو تكنولوجي" الذي يديره ،وهناك قدم لي مجموعة من الباحثين مغاربة وأجانب من جنسيات مختلفة، يشتغلون معه في المعهد المذكور. وقدمني اليهم بصفتي المهنية كصديق حميمي،ومن هؤلاء الباحثين، باحث ياباني قام بمرافقتي في مرافق وجنبات المعهد يشرح لي بعض المشاريع التي ينجزونها ويفسر لي بعض المهمات التي تقوم بها بعض الالات التي كانت مركونة هناك،رغم أنني لم أفهم سوى النزر القليل.وحين عدت الى مكتب البروفيسور بوسمينة،تحدثنا عن العلم والعلماء والنهضة العلمية في المغرب،فقال لي أن الباحث والمهندس الياباني صديق له منذ مدة وقد طلب منه العمل معه لمدة تعاقدية في المعهد، قصد انجاز بعض المشاريع الدقيقة التي يعتبر متخصصا دوليا فيها.غير أنه استغرب كيف أن جهات حكومية في ذلك الوقت، متحفظة على الأجر الذي يتقاضاه هذا الأخير.فقال لي مستنكرا: حين يكون لديك باحث دولي من هذا المقام(مقام الباحث الياباني)، ومتخصص في تخصص دقيق يتطلب مهارات تقنية عالية ومحددة،لا يمتلكها في العالم بأسره،سوى ثلاثة أو اربعة باحثين من أمثاله،فكيف لك أن تستغرب الأجر الذي يتقاضاه؟ ضحكت وقلت في نفسي : لا بأس فأصحاب الأجور الخيالية في المغرب نعرفهم جيدا،ونعرف ايضا "الخدمات الغير الجليلة "التي يقدمونها لهذا الوطن المسكين. وأنا لا أسوق لكم هذه الواقعة، سوى لنأخذ فكرة حقيقية عن الكيفية اتي يتصور بها المسؤولون،مكانة الباحثين والبحث العلمي في المغرب... هل تصدقونني اذا قلت لكم أن العشرات من أمثال البروفيسور مصطفى بوسمينة ،موجودون في الجامعة المغربية،وفي جميع التخصصات بدون استثناء ابستيملوجي، رغم أن سيرهم الذاتية فعلا،لا تصل هذا المقام،لو توفرت لهم الشروط المادية واللوجستيكية والمعنوية للعمل،وهذا أمر طبيعي.انهم محتاجون فقط لمؤسسات جامعية حقيقية تساير تطلعاتهم وترعى مهاراتهم العلمية،وتعترف بمؤهلاتهم،وتحترم انسانيتهم وكرامتهم.. ولا يفوتني أن أقول في هذا السياق،أن عددا هائلا من الباحثين الجامعيين الذين يزاولون داخل الجامعات المغربية معروفون في الخارج أكثر مما هم معروفون في الداخل،سواء في حقل العلوم الدقيقة أو الآداب والإبداع والعلوم الانسانية أو الفنون،نظرا لانتمائهم الى مراكز أو مخابر أو مؤسسات بحث علمي أجنبية كمتعاونين أو خبراء.ولا أعتقد أن البحوث التي ينجزونها في هذا الاطار تحسب لفائدة مؤسساتهم الأصلية،أقصد لحساب الجامعات المغربية، في جداول التصنيف العالمي أو الاقليمي أو الافريقي. هذا دون أن اشير للباحثين المغاربة المرموقين، الذين يشتغلون في الخارج بصفة دائمة.... وبعد، فهل تصدقونني في الختام،أن صديقي البروفيسور مصطفى بوسمينة كان في كندا قبل عودته،للمغرب بقليل، على مشارف الفوز بجائزة نوبل للفيزياء. وأنا متيقن انه لو ظل هناك،لفاز بها في اقرب فرصة......أرجو أن يصل المعنى بوضوح،وشكرا لكم...... *أستاذ باحث-جامعة محمد الأول-وجدة