مازلت أتذكر، وكثيرون مثلي بلا شك، كيف كنا نتحلق ونحن صغار في منزل أحد المحظوظين ممن هاجروا إلى أوربا، حول ذلك الجهاز السحري: الفونوغراف، وهو يصدح بأغاني أم كلثوم وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ ورابح درياسة ونورة...إضافة طبعا إلى أغاني فنانين مغاربة مشهورين في تلك الفترة، أمثال: عبد الوهاب الدكالي، محمد اليونسي، أحمد ليو، عبد الحميد التمسماني، ميميونت نسروان... وغيرهم. كان الفونوغراف يوضع في مكان لائق في الصالون وبجانبه مجموعة من الأسطوانات التي كانت تبهرنا بأغلفتها، بما تحمله من صور لهذا الفنان أو تلك الفنانة. وفي ذلك الزمن البريء كانت المجموعة لا تخلو من أسطوانة أو أكثر للمقرء الخالد الشيخ عبد الباسط عبد الصمد. إنني أتحدث هنا عن أواخر ستينيات القرن الماضي، إذ لم يكن التلفزيون قد دخل المنازل القروية بعد. كان وجود الفونغراف أو كما كان يطلق عليه محليا "ماشينا نطباسا" (آلة الأسطوانات) رمزا من رموز الثراء في ذلك الزمن. كان من جملة ما عاد به المهاجر "أليمان" من هدايا لدى عودته لأول مرة إلى قريته جهاز فونغراف، وجهاز "راديو"، وفي ما بعد جاء ب"المسجلة"؛ وهذه الأخيرة سيكون لنا حولها حديث مستقبلا بحول الله. في الريف، كما في باقي جهات المغرب، لم تتخلف الأغنية المحلية عن متابعة أهم الأحداث التي كانت تمر بها المنطقة، فأشادت ببطولات المقاومة الريفية ضد الاستعمار الإسباني، تحت قيادة الشريف محمد أمزيان، ثم محمد بن عبد الكريم الخطابي من بعده. ولعل قصيدة "أضهار أو باران" أبلغ مثال في هذا المجال. كما سيتم التغني بمشاركة الريفيين في الحرب الأهلية الإسبانية ما بين 1936 و1939، إلى جانب الجنرال فرانكو لدحر الجمهوريين، إذ تغنت النساء بفقدان أحبابهن في جبهات القتال، أو انتظار عودتهم منها. كما لم يفت الأغنية الريفية التطرق إلى مآسي الهجرة وآلام الغربة مع انطلاق موجة الهجرة إلى الجزائر (أشارق) للعمل في ضيعات المعمرين الفرنسيين. وقد كان الفنان الحاج محمد نجيم، المعروف بالشيخ موذروس، أحد السباقين إلى التغني بالهجرة ووصف معاناتها بعد عودته هو نفسه من الجزائر التي كان قد هاجر إليها ليستقر نهائيا في وطنه المغرب: فكار ثمورث أنش أياوني إيوضان إيوذان إحاورين نثنى ربداأظهان رالاَّ هاجغ ثمواث إنو رالاّ أكيغ وجدة أتنبذات تهاجر ثمورث انش ما يتسما تدارذ ما يوشاش أورنش شك ربد تصبارذ... (فكر في أرضك يا أيها الضائع. الناس الأحرار هم دائما معروفون.. سيدتي (للا) هاجرت بلدي، سيدتي وضعت وجدة منطلقا.. هاجرت بلدك، فهل تعتقد أنك من الأحياء؟ هل رضيت بذلك وأنت من تعودت على الصبر؟...) ومنذ أواخر الخمسينيات أخذ الفنانون الريفيون وفنانو المنطقة الشرقية في التغني بالهجرة إلى أوربا، ومنهم من اكتسب شهرة كبيرة في هذا الميدان. فهذا عبد الحميد التمسماني يحاول في أغانيه استكشاف (الجانب المظلم) من الهجرة: قا يني يفغن ثامواث انسن كارن ذي رعذاب، تنوسن ذي رعذاب أمشوما نلخارج إيظايع الشباب... (الذين غادروا وطنهم يظلون في عذاب، يبيتون في عذاب، هذا الخارج اللعين ضيع الشباب...) الشيخ محمد اليونسي ويبقى المرحوم الشيخ محمد اليونسي البركاني أهم من تغنى بالهجرة وغنى للمهاجرين خلال سنوات الستينيات.. لقد كان أحد أعمدة الأغنية الشعبية على مدى أكثر من نصف قرن.. تغنى بمشاكل الناس وقضاياهم، إضافة إلى أغانيه الدينية. ولكن أغنيته "الباسبور الأخضر" تأتي في قمة أعماله، إذ نالت شهرة واسعة في شرق المغرب والريف وبالخصوص، لدى المهاجرين المنحدرين من مدن وجدة وبركان وتاوريرت وجرادة وغرب الجزائر والريف، من جيل الستينيات وما بعدها. يكمن سر نجاح القصيدة التي غناها الشيخ لأول مرة سنة 1965 في كونها قامت بتقديم صورة حية لواقع الهجرة، معبرة عن معاناة المهاجرين وما كانوا يتعرضون له من قهر وغربة وعنصرية. وتحكي القصيدة تفاصيل الهجرة إلى فرنسا والإقامة بها منذ الانطلاق من ميناء ما بالمغرب: رفدت الباسبور لخضر وقلت أنا دي خيار الحياة جبرت البابور يرجى في المرسى مسطرة بالرايات نهار اللي مشيت خاطر ودعت أحبابي وقلبي مهموم خليت أميمتي تنوح وتقول وليدي مشالي للروم ... مشيت وسقسيت وحدة قلت ليها si vousplait a madame هزت كتافها عليا ما هضرت ما جاوبتني بكلام، قلتليها ماضموزيل excuse-moi قراي لي دالعنوان، قالتليqu'est-cequ'il y a?، وقلت لهاmoi je suis marocain قلتليها ماضموزيل excuse-moi قراي لي دالعنوان قالتلي كاسكيليا وقلت لها moi je suis africain قالت ليou tu vaa?، قلت لها moi je sais a rien قلت ليها جوسوي مبردي قالت je m'en fousça fait rien قلت ليها ماضموزيل جومام فو كاسكوسافودير؟ الله الله أخوتي والي ما عندو لسان واش يدير... وتمضي القصيدة في وصف الأوضاع السكنية المزرية وقسوة الحياة في باريس وغياب الأكل الحلال وجو اللهو والمجون الذي كان ينغمس فيه بعض المهاجرين في عاصمة الأنوار. غنى المرحوم اليونسي قصيدته "الباسبور لخضر" الخالدة هذه بفرنسا وبالعديد من المهرجانات، ورددها العديد من الفنانين المغاربة والجزائريين بأصوات مختلفة ومتنوعة وبآلات عصرية في ما بعد. ميمونت نسروان إذا كانت هناك مغنية حظيت بالإقبال من طرف مهاجري الجيل الأول بعد أم كلثوم فلن تكون غير ميمونت نسروان. هذه الفنانة الريفية التي كانت من أوئل، إن لم نقل أول امرأة في منطقة الريف تكسر حاجز الخوف والتقاليد لتقوم بالغناء لجمهور أوسع، محدثة ضجة في نهاية الستينيات وخلال سبعينيات القرن الماضي، نظرا لموهبتها الفطرية في الغناء وصوتها الرومانسي الجميل الذي تغنى بالحب والمشاعر الإنسانية على إيقاع أرالابويا الشهير.. وهي في أغانيها لم تكن لتغفل جانب الهجرة، إذ نقلت مشاعر وأحاسيس المرأة الريفية في علاقتها بزوجها أو خطيبها أو فتى أحلامها في بلاد الغربة: إيناي أذا مكيخ مين واميكي بابام إيناي أمكيخ التسريح أتزويذ غا وليمان (قال لي سأصنع لك شيئا لم يصنعه لك أبوك، سأهيء لك جوازا للسفر إلى أوربا). الوليد ميمون ونختم حديثنا هذا حول احتفاء الأغنية المغربية بظاهرة الهجرة بهرم الأغنية الريفية الملتزمة المعاصرة الوليد ميمون. في سنة 1986 أصدر الوليد ميمون ألبومه الغنائي الثاني أمتلوع (المتشرد) الذي كان وراء شهرته، ليس في الريف فقط، بل وفي المغرب ولدى مغاربة العالم. وتعتبر أغنيته "هاجاخ ثامواث إينو" التي ضمها هذا الألبوم إيقونة أغانيه حول الهجرة..أغنية تفيض بمشاعر الألم والمعاناة والحنين إلى الوطن: أوذارخ أذسوخ ثوزغ خافي ثرا مين أزريخ اتيفقاع مين أزريخ ذتمارا إيفقوسن ك أور أرينانخ ذي حالا هاجاغ ثامواث إينو أتلعاخ غا بارا ثامشونتا نرغروبيث أكورينو ثغزا أسنسيخ سذو رقنظاث أكوذفير أذ ونزا ياحسراه خبنادم أساغينت إيتمنزا قاغس مرمي آربي أذجخ ثيمورا أنبارا أذعقبخ غا ثمواث إينو سييرنو ذزيرا ماني ثيجا أثقوشت ذو جنا ذزيزا (انحنيت لأشرب جف عني المنبع. كم عانيت من مآس، كم عانيت من تعب.. القلب مليء بالألم، أسقم جسمي.. هاجرت بلدي ورحلت بعيدا...هذه الغربة الملعونة حفرت ندوبا في قلبي، بت ليال تحت الجسر، تحت الثلوج والأمطار. واحسرتاه على الإنسان صار يباع ويشترى، أدعو متى يا ربي أترك بلاد الغرباء؟ أعود إلى بلدي ورأسي مرفوع، حيث توجد الشمس، والسماء الزرقاء).