أمام سيول الانتاجات الفيلمية وهيمنة ثقافة الصورة، صرت مند سنوات خلت أميل- كبعض المثقفين الغيورين على ثقافة الحرف- إلى تفضيل مشاهدة الأفلام ذات الأصل الروائي، أو التي تتعامل بشكل أو بآخر مع الثرات الروائي الهائل. ما سأقول في الموضوع يصبو إجمالا إلى ترغيب سينمائيينا في الخروج ما استطاعوا من اكتفائهم الذاتي وانكفائهم على تقنياتهم ومقارباتهم، وذلك من أجل الخوض الجدي في مغامرات استكشافية داخل عالم الروايات، وخصوصا منها الصالحة للأفلمة، لاسيما وأن ما أنجز في هذا المجال- وهو قليل- قد عرف فشلا ذريعا، كما الحال مع حميد بناني في "صلاة الغائب" للطاهر بنجلون، أو مع عبد الرحمن التازي في "جارات أبي موسى" لأحمد التوفيق. ملتقى مفاهيم الرواية في سياق اهتمامي بالرواية رأيت من المفيد الانصات إلى بعض معاديها الكبار، أمثال أندري بروتون وبول فاليري وشيورون، الذين عبروا عن تذمرهم من أدب القرن التاسع عشر الروائي، ومن الرواية عموما، وذلك من حيث إنها تنبني على وصف العرضيات المتكررة المملة، المتلفة لمعنى الوجود الأقصى أو المطلق، كما على ثالوث الحبكة الصراع الحل، القائم مقام العقيدة الثابتة. لكن الجدير بالإشارة أن السبق إلى ذلك الموقف المتذمر من الرواية كان لبروست نفسه الذي بنى كتابته الروائية الجديدة في البحث عن الزمن الضائع على قراءة العلامات والدلالات، كما أن ذلك التذمر كان من الروائية Le romanesque؛ أي هذه الغنائية الجياشة والميلودرامية الجادة العابسة من صنف ما نجده عند بعض روائيي القرن التاسع عشر، أو إنها هذا الإسهال والحشو في الوصف الذري للأشياء والديكورات على امتداد صفحات طويلة مملة، اعترف رولان بارث بأنه كان يقفز على أغلبها في قراءته لبلزاك. في سياق الاهتمام نفسه حاولت فهم مواقف أصحاب الرواية الجديدة أو المضادة كمغامرة في المجال الدال، تعطي الأسبقية للأشياء على الشخصيات، وتستقي تقنياتها من وقوفها ضد التحليلات السيكولوجية واللغة المجازية والغنائية وضد التضخم الايديولوجي والكلامي ودعوات الوجودية الملتزمة. غير أن جماعة الرواية الجديدة قد تأثروا هم أنفسهم بشكل متفاوت بروائيين كبروست وجويس وفولكنرو وولف وكافكا، وكذلك وبالأخص بفن السينما من باب قدرته على الموضعة والتحديد والقياس والوصف؛ أي على أشكال تملك المكان والزمان. وهكذا يظهر تاريخ الرواية الحديثة كصيرورة جدلية تتقدم وتغتني بتدافع حلقاتها وحتى بدينامية معارضاتها وأضدادها. وهذا ما بات يفطن إليه ويدركه منذ بورخيس روائيو الواقعية السحرية والتاريخ المتخيل. عملة الجنس الروائي القوية تقوم أساسا في صفتي الانفتاح والحرية: الصفة الأولى تتمثل في قابلية ذلك الجنس لضم أجناس قولية أخرى كالشعر أثناء اللحظات الانفعالية والدرامية العليا وكبعض الصيغ المسرحية وحتى السينارية في الحوارات ولوحات الوصف. فلكل مقام مقال، والمهم هو أن يعرف الروائي كيف يستعين بهذا القالب أو ذاك بحسب قواعد المناسبة والكياسة. والغاية من حيث الشكل تظل في كسر أحادية السرد الخطي وتبديد أي رتابة (وهي حسب بودلير نصف العدم) في المناخ الحكائي. أما صفة الحرية، فقد وجدتني أثبتها في الكتابة الروائية بقدر ما أقف على تعثرها واضطرابها في الشعر السائد عموما. إن الصفحات معها تبدو كمساحة حرث تأتيها أنى شئت، أو كأرض بور تبذرها بما شئت وتوصي بها كل الفصول. وبهذا القول أعلم الآن أني إنما أقيم بجوار الاختيار الداعي إلى الرواية ككتابة تجريبية كلية تتحرك في خضم الحياة والأشياء، وبالتالي في ملتقى الأجناس وتقاطعها. الانفتاح والحرية إذن وجهان لعملة واحدة، لم أجرب قدرتها على تفجير طاقات المخيلة وإمكاناتها مثلما جربتها في الكتابة الروائية. فبالتخييلية (أو المخيالية) القائمة على استثمار الذكرى والفانتازم والمعيش، للروائي أن يخلق شخوصا من لحم ودم، ويهبهم الوجود الذي يريد، ويحركهم في المكان والزمان حسب رؤى وغايات يتقصدها، أو يعول في بلورتها على ما يحبل به الحكي من صدف سعيدة وحملات وفورات. ولكن لا بد للمخيالية في العمل الروائي الجاد أن تعمل بنوع من الخفة والرقة والاحتمالية المستساغة، وأن تؤمّن ثقافيا مصداقيتها وفعاليتها. من الرواية إلى الأفلمة: الزواج الممكن يمكن الاسترسال في تحليل وجوه الرواية الخصوصية، لكن ما ذكرته لربما كاف لطرح هذا السؤال: كيف يتسنى استمداد فيلم (ومعدل عرضه 90 دقيقة) من رواية ذات شأن وزمنية مديدة، وذلك من دون السقوط في الادغام والاختزال، بل التفقير؟ هذا مع العلم أن الفيلم هو بالأساس حدث في الصورة المتحركة، المصحوبة تناوبا أو توازيا بالكلام والصمت والموسيقى. الجواب على ذلك السؤال يحسن أن يكون بالتفكير في حالات عديدة من الزواج الموفق بين الكتابتين: الروائية والفيلمية. وعلى سبيل المثال الدال، أذكر من تلك الحالات حالتين فقط: الأولى هي المتعلقة بميلوس فورمان في فيلمه "تحليق فوق عش وقواق" المأخود عن رواية كين كيزي بالعنوان نفسه (الصادرة سنة 1961). فالعملان معا ينتسبان ويزكيان موجة التيار المعادي لعلم النفس المرضي (antipsychiatrie) المؤسس على تقنيات استشفاء مغلوط، أهمها العزل والحبس المحفوفان بالحقن والصدمات الكهربائية... لكن إذا كانت الرواية تتمحور أساسا حول شخصية الهندي الأصم الأبكم، المراد بها في ذهن الكتاب إظهار انسحاق ما تبقى من الهنود الحمر في أمريكا التكنولوجيا المتقدمة الكاسحة، فإن مخرجها إلى السينما قد قام في شأنها بتحويل موفق مثير، رأينا الأضواء بمقتضاه تسلط أكثر على شخصية أخرى هي ماك مورفي (جاك نيكولسون)، الأمريكي العادي المتوسط الذي انحمق في سجنه هروبا مما تبقى له فيه، فنقل إلى مستشفى الأمراض العقلية حيث تبخر حلمه باطلاعه على واقع الاعتقال النفسي ومنطق الحراسة والعقاب داخل مجال المستشفى المرضي... وبذلك التحويل تمكن فورمان من تهميش العنصر العرقي وبالتالي تعميم دائرة المنسحقين بوسائل وقواعد "العلاج" العقلي. لكن هذا لم يمنع بقاء الهندي كشاهد عيان آخر، له حضوره المثير، خصوصا وأن المخرج جعل منه كوميديا بارعا استطاع طوال إقامته في المستشفى أن يوهم الأطباء والممرضين بصممه وبكمه في حين إنه- كما اكتشف ماك مورفي مدهوشا معجبا- قادر على السمع والكلام... أما الحالة الثانية- وأذكرها باختصار- فهي القائمة في علاقة المخرج الايطالي بيير باولو بازوليني مع رواية الماركي دي ساد "أيام سودوم المائة والعشرون". فهذه الرواية التي تدور وقائعها، كما نعلم، في أواخر عهد الملك لويس الرابع عشر (حوالي 1712-1713) قام بازوليني بتحويل مضامينها وأفكارها إلى الاعتمال في إيطاليا موسوليني، وبالذات خلال سنة 1943، سنة أوج النظام الفاشي وتداخل طبيعته مع طبيعة النازية الألمانية المنتصرة. وبهذا التنقيل الذي يمكن تبريره فلسفيا بكون الماضي قابلا للعود إلى الحاضر بنحو ما، استطاع مخرجنا بكثير من التوفيق في فيلمه سالو (Salò) أن يظهر الفاشية كسلطة انتهاك قصوى تتعدى السياسة إلى المجتمع والجنس والأخلاق؛ بحيث نعاينها عبر المشاهد واللقطات كنظام سادي شامل مريع. يمكن الاسترسال في ذكر حالات أخرى كثيرة من الزواج الممكن الموفق بين الكتابتين الروائية والفيلمية، لكنها تصب كلها في خلاصة واحدة، هي أن شروط التمازج والتكامل بين العلامة اللسنية (التي تفتقدها اللغة السينمائية) والصورة الفيلمية التي لا تقدر عليها الرواية تبقى؛ أي تلك الشروط، رهينة بالرغبة في العمل المشترك أو بالأحرى برغبة المخرج في الاستغلال الجيد والذكي للأعمال الروائية، كما كان حال جان رونوار Jean Renoir مع بعض أعمال فلوبير وموباسان وزولا أو ألان ريني Alain Resnais مع ألان روب – غرييي ومارغريت دوراس وأوجان – جاك أنو J.-J. Annaud مع امبرتو إيكو ومارغريت دوراس، أوصلاح أبو سيف مع نجيب محفوظ، إلخ. طبعا قد يحدث- وهذا لحسن الحظ ليس حالنا نحن اليوم- أن يحذر بعض المخرجين الكبار من خطر اكتساح الرواية للكتابة الفيلمية واغتراب هذه في تلك، كما كان موقف ايزينشتاين Einsenstein الداعي إلى كتابة سينمائية ciné-écriture مستقلة بوسائلها الذاتية الفاعلة، وهذا كذلك إلى حد كبير هو موقف بونييل Luis Buñel وغودار Jean-Luc Godard. لكن هذا التوجه في دوائر السينما الغربية وحتى في غيرها يبقى بدون موضوع، ليس لكونه لا يخدم ما نحن بصدد الدعوة إليه بل، من جهة، لأن الاكتساح المذكور غير وارد بالمرة، ولأن، من جهة أخرى، دعاة استقلالية الكتابة الفيلمية- وأخص منهم بالذكر المبرزين المتضلعين- هم بالذات هؤلاء المخرجون الذين وُهبوا روح الروائي؛ أي معاناة الكتابة الحقة، ولكن بالكاميرا بدل القلم، وما أندرهم! أما خارج حلقتهم، فإن الرواية كمدلول تبقى مبدئيا أقرب شريك وأغناه للكتابة الفيلمية وأهم ترياق ضد الاسهالات الصوَريّة (المهددة حقا للثقافة المقروءة) وضد دورانها المفرغ في دالاتها وتقنياتها الذاتية الخصوصية. ** هامش على فيلم "المصير" عن فيلم "المصير" للراحل يوسف شاهين، لدي تحفظات في مجال اللقطات والمشاهد والصوت والموسيقى... ومن مؤاخذتي عليه أن السيناريو كتب باللهجة المصرية، بينما كان من الأفضل والأنسب أن يتبنى صاحبه (وهو شاهين نفسه) لغة عربية وسطى يمكن فهمها من المحيط إلى الخليج، كما فعل صلاح أبو سيف في أفلامه التاريخية، وكما جرت عليه أفلام مكسيكية مدبلجة. والأدهى من ذلك أن يتم تجريد شخصية ابن رشد عن مثلث انتماءاتها التاريخي والمكاني والمعرفي، ويفعل بها المخرج ما يشاء. فالرجل كان طرفا منخرطا في زمنيته الأندلسية المغربية، كما في الجو الفكري السائد. وهذا التجريد المبالغ فيه يفتح الأبواب مشرعة لكل صنوف التعسفات الإخراجية والتصادمات الزمانيةanachronismes كتحويل ليلى علوي إلى غجرية ترقص على إيقاعات الفلامنكو الذي لم يكن له أي وجود بعد في زمن ابن رشد! ناهيك عن الإسقاطات الذهنية والإيديولوجية قوية الصلة بزماننا هذا... إن يوسف شاهين لم يتعنّ النظر في مؤلفات تراجمة ابن رشد القدامى رغم ندرتها، أضف إليها أعمال المحدثين في الرشديات من المغاربة والمشارقة. أما بخصوص محنة ابن رشد، فمن الواضح أن مخرجنا قد تعمد النفخ فيها وتضخيمها، مع أن أسبابها كمنت تاريخيا في ترضية بعض الأوساط المحافظة ومنها فقهاء المالكية المتشددون، وأن ذلك الزمان كان موسوما بالتصادم ما بين الإسلام والمسيحية في حرب ضروس، ساحتها الأندلس، علاوة على أن مدة هذه النكبة كانت قصيرة الأمد، خفيفة الوطأة. أما بخصوص إحراق كتب ابن رشد الذي صوره الفيلم بتركيز مبالغ فيه، فلنذكر أن الإمام الحجة أبا حامد الغزالي نفسه قد أحرق كتابه "إحياء علوم الدين أيام المرابطين"، وسجل صاعد الأندلسي في "طبقات الأمم" حالات مماثلة عديدة، وأخذ على الفيلم إغفاله لمحطات دالة قوية وجميلة في حياة ابن رشد. لحظات مميزة كثيرة وأخرى قوية دالة غابت في المقابل عن التصوير الفيلمي، منها، على سبيل المثال فقط، دعوة الخليفة الموحدي أبو يعقوب يوسف إلى ابن رشد للحضور بين يديه، وصداقة هذا الأخير بابن طفيل الذي قدمه للخليفة لكون قضايا فلسفية أرسطية تستعصي على فهمه... فكان هذا اللقاء العجيب مدخلا لإقدام فيلسوف قرطبة ومراكش على تحرير تفاسيره لأرسطو، ملبيا أمر الخليفة بذلك. وهناك أيضا في حياة ابن رشد معطيات بالغة الأهمية لا أثر لها في الشريط، منها، مثلا، ولايته خطة القضاء في إشبيلية وقرطبة ثم عمله كطبيب خاص في مراكش للخليفة المنصور، كما أن ابن رشد الفقيه والقاضي لم يخرج أبدا عن مثلث المدن المذكورة ولو لقضاء فريضة الحج، فكان على المخرج أن يلتفت إلى تلك المعطيات وغيرها كثير، وألا يكتفي بإشارات عجلى إلى دولة الموحدين والخليفة المنصور دون سلفه العظيم أبي يوسف يعقوب الذي عاش ابن رشد في كنفه معززا مكرما، كما يجمع عليه المؤرخون في عهده ومن بعده. كما أني كمتلق ومشاهد مغربي أعتبر أن في فيلم شاهين إجحافا في حق مغربية ابن رشد. وحتى ضمن اختزالية المخرج المفرطة، لا نجد شيئا عن مقابلة فعلية - كما جاء في الفتوحات المكية - بين ابن رشد وابن عربي الشاب. هذا علاوة على مشهد نقل رفات ابن رشد المؤثر من مراكش إلى قرطبة؛ حيث تم ذلك على بغلة ذات حملين: تابوت المتوفى وصندوق كتبه. خلاصة القول إن شاهين لم يضع في حسبانه، أثناء إنجاز فيلم "المصير"، هذا الواجب المعرفي والاستخباري الذي لو أنه أولاه أهميته المستحقة لكان أضاف إلى تقنيته المعتبرة بعدا مضمونيا معزِّزا ومقويا.